الثلاثاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم هيثم جبار الشويلي

ذات الرداء الاسود

يا إلهي ما لحظي العاثر هذا، أغلب الذين يجلسون إلى جواري أصحاب الكروش الممتلئة والجيوب الفارغة، سواء جلس بجانبي او جلس على الكرسي المقابل لي، اتساءل بيني وبين نفسي لماذا لم تجلس الى جانبي شهريار الصباح كي اتبادل معها أروع القصص او بدر البدور لتحملني معها الى قصر والدها السلطان او بنت اللورد رتشيلد لتحملني معها الى القنصلية البريطانية، اغلبهم ممن تزاحم اجسادهم ملابسهم، كما اتذكر احد الذين جلسوا على الكرسي المقابل لي شخص تتدافع ازرار قميصه متناحرة فيما بينها واخص بالذكر تلك الازرار التي تقع وسط قميصه.. كانت تعاني اختناقاً عظيماً حيث كان يجهدها... كان هذا بالنسبة لي مشهداً يومياً بدأت أسأم منه.

الحافلة تنتظر قدوم زبائنها التي اعتادت عليهم يومياً، كنت اول من يستقل الحافلة الصغيرة، وكالمعتاد ايضاً كان اول الجالسين الى جانبي شخصُ يضايقني بجسمه المترهل بادرته قائلا: ياهذا كان الاجدر بك ان تخصص لك مقعدين لتجلس عليهما بمفردك، كي تأخذ راحتك، حتى لااضايقك أنا.. قال: كلا على العكس من ذلك، فأنا مرتاح جداً.. ندبت حظي مرة أخرى ولعنت هذه الرقعة الجغرافية التي ستكون عما قريب منجماً لاصحاب الكروش المملوءة، ها هي الحافلة توشك على امتلاء مقاعدها، لكن بقيت الكراسي المقابلة لي، كانت تلك الكراسي من حصة اثنين من النساء وكان ثالثهم رجل أعور الثياب..عفواً، اعور الوجه.. عفواً، اعور العينين، ها هي الحافلة تنطلق وسط زحامٍ مروري كثيف، كانت تجلس الى جوار الرجل الاعور امرأة عجوز أكل الدهر عليها وشرب، بيدها كيس لمجموعة من الادوية القديمة، الكيس بالٍ تماماً، تجلس الى جوار المرأة العجوز، امرأة في الاربعين من عمرها على اقل تقدير، لكنها كانت تضاهي الفتيات في سن العشرين، من محاسن الصدف اني اقابلها تماماً في الحافلة، انا الان امامها وجهاً لوجه، بدأت امعن النظر فيها جيداً، لحاجبيها وقعٌ خاص بالنسبة لي، حيث ينمو شعر حاجبيها بشكل غير منتظم وغير طبيعي، شعر حاجبيها يتبعثر هنا وهناك، وهذا ما شدني اليها، توفرت في ذهني تساؤلات..لماذا لم تزين حاجبيها؟! لكني رأيته في كثافته ونموه غير المنتظم أجمل من تلك التي تجلس ساعات أمام المرآة لتظفر بجمال ورونق حاجبيها، تفحصت عيناها وتذكرت السياب الذي يغفو الآن على ضفاف شط العرب..تذكرته حين قال: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبتسمان تورق الكروم

وترقص الاضواء كالأقمار في نهر

يرجه المجداف

وهنا ساعة السحر

نعم أيقنت بانها ساعة السحر، من فمها رأيتها... تُتمتم ببعض الكلمات، لان الطريق محفوفٌ بالمخاطر والآفات، فوق شفتها ينمو بعض الشعر الخفيف، كان يزينها.. كما يضفي رونقاً جذاباً وجمالية فائقة الوصف على فمها الباسم، ضوء الشمس الذي يداعب ويناغم الشعيرات الناعمة يضفي عليها لوناً أشقر، ذاك الشعر الذي اتخذ من اعلى الفم مكاناً ليطل به ويغازل شفتيها الجميلتين، في لحظة ما حاولتَ لملمة نفسها، رأيت خصلة من الشعر الملون تغطيه بقطعة من قماش سوداء، أيقنت بانها تخفي جمالاً لانظير له لرجل يقبع خلف الكواليس.

أجمل ما فيها رداؤها الاسود الذي يشع بياض جسدها من خلاله، كل معانيها يصعب وصفها بأدق التفاصيل كان صوت المذياع يصدح قوياً ومدوياً بترتيل للقرآن الكريم، واتذكر كان بالتحديد عند قراءة الآية ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج، كان الرجل الاعور ينظر لنا بامتعاض كبير على اساس ان الآية وضعته موضع الريبة والشك بالنسبة للجميع، كنت عندها أضع يدي على خدي أمعن النظر بها كثيفاً، بدأت تبادلني نفس الشعور، انسابت مني نظرة شيطانية لتمزق الجدار الفاصل بيني وبينها، اصفر وجهها وارتعدت فرائصها وتزحزحت من مكانها قليلاً، اصابني الخجل نوعاً ما، الا انها سرعان ما استعادت ثقتها بي، حتى عاودتُ النظرة مرة اخرى لكنها لم تكترث لي، ادارت وجهها نحو نافذة الحافلة الاخرى وغاصت في صمت كبير، ثم التجأت الى حقيبة كانت تخبئها تحت ردائها الاسود، اخرجت منها قصاصة من ورق وقلم، استترت بعباءتها وبدأت تكتب شيئاً ما، بعدها وضعت القلم في حقيبتها وامسكت بيدها تلك القصاصة الصغيرة، أحسست بانني أنا من سيمتلك تلك القصاصة لانني أنا المعني بها فكنت على يقين بان في تلك القصاصة أحد وسائل الاتصال التي من خلالها سوف اتصل بها على انفراد بعيداً عن الرجل الأعور الذي كان يراقبني طوال الطريق وعن صاحب الجسد المترهل بالشحوم الذي ساعد على مضايقتي طوال الطريق. كنت اظن في تلك القصاصة رقماً للهاتف او عنواناً لبريد الكتروني، فأسرعت في النزول من السيارة، نظرت اليها ونظرت اليّ، كانت تحاول اعطائي القصاصة الصغيرة، مددت يدي لاخذ تلك القصاصة من يدها، لامست يدي يدها، أحسست بصعقة كهربائية انسابت في جسدي لتشله، عندها ايقنت بانني أصبت بشلل رباعي تام، لم اتمالك نفسي، تسمرت قدماي عند باب الحافلة، عند نزولي من الحافلة رمقتها بنظرة أخيرة...

رفعت يدها لي لتودعني، بادرتها برفع يدي لها، مازلت انظر للحافلة حتى اختفت وتوارت خلف كثبان الحافلات واسراب الدخان المنبعث من المركبات التي تسير في الشارع، اسرعت لان أرى أيّ وسيلة اتصال تركتها لي، الا انني صدمت لما رأيت مكتوب بها: " عزيزي وولدي ما زلت صغيراً على تلك النظرات الصبيانية، قلبك اصفى من تلك النظرات الشيطانية، فانها ليست لك، اما بخصوص الجمال الذي احاول عدم اظهاره فتذكر قوله تعالى " ولايبدين زينتهن الا لبعولتهن...". عندها شعرت بالخجل كما شعرت به لأول وهلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى