الخميس ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤
أوراق محامية شرعية

إسقاط حق، حق، حق ،،،

لم يكن هذا الشهر لي بل كان لغيري، ولم يكن متفقا معي، ربما في لحظات أخرى اتسم بالرقي في التعامل مع ظروفي الصعبة القائمة في ظل التوقيت الذي يتغابى أو ربما يتصيد نقاط الضعف عندي عابرا في خلايا تفكيري الوحيدة التي تحتمل العمل على عدة جبهات بين التدريب كمدربة في حقوق الإنسان وحقوق المرأة ضمن مشروع قيّم وهادف خاص بالنساء الفلسطينيات في مناطق اللجوء والشتات وبين محامية شرعية متدربة، وكاتبة مبتدئة، وكذلك مرافقة لفتاة أمريكية تدرس ثقافة المجتمعات العربية في منطقة الشرق الأوسط .

المهم أنني في خضم كل تلك اللحظات العابرة والصعبة حصلت أخيرا على إذن المرافعة لدى المحاكم الشرعية لتبدأ التهاني والتبريكات من بعض الناس، والبعض الآخر مثل أمي تندب حظها لأنني رفضت التدرب لدى المحاكم المدنية وآثرت الوظيفة ونتيجة فقط لعملي في القطاع النسوي تنازلت وقبلت خوض غمار المحاماة الشرعية فقط لارتباطها بقضايا المرأة والرجل، وعملت جاهدة طوال عامين على تكريس كل ما لدي من طاقة للعمل من أجل المرأة باعتبارها البؤرة الأساسية التي تجتمع حولها الأسرة وتتشابك على اعتبار المثل القائل في جزأه الأول ( الأم بتلم ) وأما فيما يتعلق بالجزء الثاني من هذا المثل فأنا ممن يحاربه وعلى الرغم من ذلك فلا يوجد أي ضير لذكره ( ..... والأب بخم ) مع خالص الاعتذار لكل الأباء لأن المثل يمس الرجولة أكثر من الأبوة .

وكان يومي الأول لدى الوقوف أمام القاضي يوما رهيبا نازعتني فيه جلجلة من الرعب والمسؤولية، حيث كنت أحتضن ملفات الموكلين واعي مدى صعوبة الأمر ودقة التفاصيل وخطورة التمثيل وضعف الدفوع التي امتلكها ورهبة الأستاذ الجليل الذي يمثل الطرف الآخر فبدوت أمامه صغيرة كالذبابة، ولكن عظيمة بيني وبين ذاتي .

فتحت ملفاتي التي كانت عبارة عن ثلاثة قضايا، الأولى دعوى بيت الطاعة، الثانية دعوى نفقة زوجة، والثالثة نفقة أب. ثم أعلن القاضي عن بدء الجلسة في دعوى الطاعة وسألني عن ما لدي من دفوع وكان جوابي مختصرا بأن موكلتي امرأة مستضعفة زوجها يهينها ويضربها وتعاني معه الأمرين مضاعفا في كل يوم إلى أن أخرجها مكرهة في منتصف الليل من المنزل بقميص نومها دون أن تصطحب معها حاجتها أو ما يستر عورتها، ولكن وكيل الطرف الثاني نظر لي نظرة استضعاف وخاطبني بأنني ما زلت مبتدئة في المرافعة وكثعلب ماكر حاول أن يدفع الدفع الذي تقدمت به بسؤال خبيث قائلا : التوقيت غير واضح في أي يوم بالضبط قام بطردها ؟، فرددت دفعه بطلب الإمهال من سعادة القاضي، ثم وقعت على أقوالي وكذلك هو وأجلت الدعوى للشهر القادم .

ومن حسن الحظ أن جميع قضاياي في ذلك اليوم كانت منظورة لدى نفس القاضي، وبسبب اضطرابي كنت في كل لحظة أطلب منه أن ينادي على الطرف الثاني في القضية الثانية وهي دعوى نفقة زوجة، حيث كنت امثل المدعى عليه أقصد الرجل، لكن وكيله لم يحضر بل تأخر عن الحضور الأمر الذي استنزف مني جهدا لمواجهة الخوف وكنت بحاجة لطاقة أكبر للتخلص من العرق الذي أفرزته أركان المكتب وجمهرة الأساتذة - الذين ينتظرون أدوارهم - حول عنقي، وما أسعفني يومها هو أن تلك القضية كانت في آخر جلساتها وهي جلسة خاصة بالخبراء الذين جاءوا لتعيين نفقة لم يتم إثباتها من قبل الزوجة فقامت المحكمة بتعيين ثلاثة خبراء ملزمين وهم محامون أساتذة كبار ضليعين في شئون المرأة والرجل والقضاء الشرعي وكل ذي ارتباط، حيث دخلوا مكتب القاضي وأخبروه أنهم في عجلة من أمرهم وطلبوا إليه بعد إذنه أن ينادي على وكيل الزوجة ولكنه لم يحضر فبدأ القاضي ينظر لساعته وقد نفذ صبره أيضا، ثم سألني هل تريدين إسقاط القضية ؟ لحظتها أحسست بالفرج يشرع أبوابه نحوي ولم أفكر أبدا أنني انتهك حق امرأة ولأنني كنت وكيلة المدعى عليه أجبته بنعم سيدي القاضي رغم أنه كان بإمكاني التماس العذر لزميلي . عندها بدأ القاضي كالذي يعد تنازليا آخر لحظات انطلاق شيء ما وأعلن بقوله أن المحكمة تجيب طلب وكيلة المدعى عليه بإسقاط دعوى نفقة الزوجة بعد أن كررنا النداء على وكيل الزوجة أكثر من مرّة.

وبهذا أكون قد ربحت القضية وضاع حق الزوجة وخسر وكيلها دعواه أمام محامية ما زالت في مهد التدريب والذي جاء بعد فوات الأوان يريد فتح ملف القضية من جديد لكن عبثا، فأنا لم أكن بفتاة طيبة جدا حتى أتراجع عن أول نجاح حققته.

هذا النجاح، هل حققته على حساب امرأة؟ على حساب حق أزلي من حقوقها الشرعية ؟ أم ماذا ؟

وبهذا النجاح هل أكون قد أسقطت حق امرأة .وهل ارتكبت عنفا بحقها ؟ هل استماتتي في الدفاع عن موكلي فعل قد يوصف بالجرم واللاإنسانية ؟ هل قفزت عن أخلاقيات المهنة ؟ فإن كانت حقوق الناس قد أضحت شيئا يتاجر به كغيره وبات الطرف الأقوى في المعادلة هو مركز القوة، أما صاحب الحق فلا حق له، لا عون له سوى الارتكاز على جبهة الإيمان بشهود اللاعيان، وإذا كان القانون واضحا بمواده وانعدام شفافيته ووضعه ثم نسخه من قبل ولاة الأمر في السلطة التشريعية ... فما ذنبي أنا إن كنت مهنتي مرتبطة بقوانين موضوعة وشهود غير العيان ؟.

تناسيت مبادئي وأعلنت إخلاصي لمهنة المحاماة التي ترتكز على القوة والذكاء والتحايل على القانون والمبادئ الإنسانية في إثبات الدعوى دون الاكتراث لمسألة الحق، أسقطت دعوى نفقة زوجة رفعتها منذ عام تقريبا وما زال النظر جار فيها إلى أن منحني أستاذي إنابة لإنهائها مع كافة الأطراف، فجئت أنا لأنسف حقها في حصولها على نفقة من زوجها الذي يمكث في أحد الدول الغربية تاركا إياها دون نفقة أو معيل .

كيف لي أن أمثل كل الأدوار وبتناقض شديد، فالقانون قانون لا علاقة له بقضايا إنسانية أو غير إنسانية وقد استطعت من خلال إهمال وكيل المدعية حق موكلته وتأخره غير المبرر وتباطؤه في الحضور إسقاط دعواها التي سيستغرق الآن رفعها من جديد وقتا إضافيا أي عاما آخر .

محامية يمكنني أن أمثل الدور، فالقانون قانون وقاعدة أخرى فهو لا يحمي الطرف الضعيف في المعادلة بل يرفع راية الربح أو الخسارة لمن يثبت أو لا يثبت .

ناشطة في حقوق المرأة يمكنني أن أخلص أكثر فالأمر ليس مهنة مرتبطة بقانون بل تتعقد الأمور لارتباطها بحق الإنسان لكونه إنسانا فقط، وأنا هنا لا ألوم نفسي بل ألوم المقام الذي وجدت فيه والمهنة التي يرتابها الشك رغم حلف اليمين القانونية، ألوم القوانين والتشريعات وقريحة القاضي وقناعته المبتورة في ظل ثعلبة المحامين ودهلزتهم وشهود اللاعيان وتفكك الأسرة وهرولة المرأة وراء التقليد وتقوقع الرجل في خيمته الأبوية منذ دهر لم يولّي بل يحتضر ويحيى، يحتضر ويحيى لا مثل الحق الذي يحتضر ولا ينهض .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى