الجمعة ٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

قدوم آدم

أيام الصيف الحارة التي داهمتنا منذ فترة، لفحت وجوهنا ، وقضّت مضاجعنا، وعاد والدي إلى موقعه في الشرفة لشرب القهوة وتدخين النارجيلة كما اعتاد أن يفعل ذلك في مثل هذه الأيام من كل عام. وشربه المفرط للقهوة يردّ له روحه وينشط عقله من جديد ويعيد عافيته كما يقول. ورنين الهاتف المتواصل لم يأبه له أحد منا لانشغالنا في متابعة سلسلة من الأحداث الدرامية لمسلسل سلب منا عقولنا وكتم لنا أنفاسنا وقضى على أصواتنا. فتسمرنا في أماكننا نراقب تحركات أبطاله ونحن نكاد لا نسيطر على مشاعرنا التي أنيطت بهم وهي تتقلب من حين لآخر تقلب الجو في فصل الخريف. وبصفتي الابنة الكبرى أسرعتُ من خاطري مستاءةً للردّ على الهاتف وإخراسه دون أن أحوّل ناظري عن شاشة التلفاز خشية أن يفوتني شيءٌ من أحداث المسلسل المشوّقة. رفعت السماعة وقرّبتُها من أذني وقلت بحنقٍ:
  ألوْ
نعومة الصوت تدلّ على أن المتحدث لم يكن عربيًا. ولكنه صوت شاب نطق بالإنجليزية جملا لم أفهم منها إلا كلمات معدودة كنا قد ورثناها عن معلمينا في المدرسة وما زالت راسخة في ذهني دون أن تتبخر، وأدركت من خلالها أنه يرغب في التحدث مع والدي.
حضر والدي في عجلةٍ وشرع يرطن بكلام عرفت أن السائل يريد التأكد من اسمه أولا:
  أأنت "عبد الإله الشمالي"؟
  نعم أنا عبد الإله الشمالي!
  أهلا بكَ
  أهلا بك أيضًا ولكن من أنت؟
وتابع كلامه بجمل قصيرة تتلوها عبارات مركبة في غاية التعقيد لم يكن في وسعي إدراك كنهها، ولكن فضولي دفعني باهتمام إلى الإصغاء لمحادثته حتى يتسنى لي معرفة حقيقة السائل. تُرى هل كان أبي يعرف هذا الشاب ولم يلتقيا منذ زمن طويل؟ هل هو مدين له بالمال؟ ومن أين يعرفه؟ أيمكن أن يكون تاجر مخدرات يريد أن يغوي أبي كما حدث لجارنا "ماهر" وأصبح الآن في غياهب السجون؟

لا.. لا.. إن أبي رجل شريف وحبه لنا وخوفه علينا من الأذى وحرصه على تلبية جميع مطالبنا لدليلٌ واضحٌ على شرفه. وكم يكون قلقه شديدًا حين تغيب واحدة منا عن البيت. والعجيب في ذلك أن قلقه هذا كان يزعجني كثيرًا ويحدّ من حريتنا ويقيّد حركتنا. أسئلة كثيرة جالت في خاطري ارتبطت بواقعنا الذي نعيشه ارتباطا وثيقًا.

ولا زلنا لا نعرف سببًا واحدًا في حرصه علينا أكثر من حرص الآخرين على بناتهم. وليس ثمّة مبرّر لهذا الحرص المتنامي. ألأننا إناث يخاف علينا من العار؟! إذن فليدفننا أحياءً مثلما كانوا يدفنون بناتهم أيام الجاهلية! ولكنه لم يخُض معنا موضوعًا كهذا طوال حياته. سألته مرة في امتعاضٍ: لماذا لا تتركنا في حالنا يا أبي؟ نخرج لوحدنا، نلعب مع صاحباتنا لوحدنا، نزور أقرباءنا ونتمتع في الحياة لوحدنا؟ لم أعرف عن أبي التديُّن ولا التشدد لكن جوابه المقتضب لم يعجبني حين أجابني ببساطة: أخاف عليكنّ من الضياع! أي ضياع هذا الذي يتحدث عنه؟ وباغتتني عند ذاك علامات استفهام كثيرة لم أجد لها إجابات واضحة.

لفت انتباهنا تغيُّر نبرة صوت أبي إذ داخلته حشرجة غير اعتيادية وسقطت سماعة الهاتف من يده وكاد يختنق إثر توقُّف نفسِهِ فجأة وتغيُّر وجهه البشوش. أحضرت أمي له الماء دون تردد وكان من طبيعتها إذا رأت أحدًا في ضيقٍ تسرع لتخليصه بشتى الأساليب التي تعلمتها من تجارب الحياة. وأسرعتُ أنا للإمساك بيده كي لا ينهار على الأرض. وحين عاد إلى عافيته وتابع مكالمته الغريبة التي طرح فيها أسئلة كثيرةً وأجاب على أسئلة متعددة رأيت عينيه تفيضان دمعًا. دمعته الساخنة التي لامست ظاهر يدي أحسست كأنها تكوي قلبي. أحسست حينذاك أن الأمر جلل فعلا. إنها المرة الأولى التي أرى فيها أبي يبكي. كنت أظن أن البكاء مقتصر على النساء. وتذكّرت غرفته الخاصة التي لم يسمح لنا بالاطلاع على ما فيها من محتويات. كان يحبس نفسه فيها في أوقات متباعدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات. تلصصت مرة بحذرٍ شديدٍ وراءه ومشيت على أطراف أصابعي ثم أطلقت العنان لأذني لكنني لم أسمع سوى تقليب أوراق وتصفح كتبٍ. ليلتذاك أدركت أنه يخفي عنا سرًّا لا يريدنا أن نعرفه.

لم تكن تلك المكالمة مجرد صدمة شلّت حركته فحسب بل صاحَبَها ذهول ووجوم وانفعال. عيناه الزائغتان نقلتا ذهنه إلى بلاد بعيدة، وأذناه أصابهما الصمم. غشيته موجة من التفكير الثقيل وإحساس بالذنب وتأنيب للضمير، وفضّل الانزواء عنا في غرفته في الداخل. كم كنت أتمنى في تلك الساعة أن أقف إلى جانبه. صار كأنه طفل صغير بحاجة إلى من يحضنه. تُرى مَنْ يكون هذا الشاب الذي تحدث معه قبل قليل؟! وما فحوى الحديث الذي دار بينهما؟! كل ما أعرفه عن والدي أنه قبل زواجه من أمي سافر إلى ألمانيا لدراسة الطب، بعد أن يئس من جامعات دولتنا التي تتغنى بالديمقراطية ولا تقبل من الطلاب العرب في مثل هذا التخصص إلا القليل القليل. ولا زالت العنصرية تلاحقنا، والتمييز الواضح يغيظنا. وكان والدي يقول لنا: إن الهدف المنشود هو التشجيع على الهجرة وتفريغ الوطن من سكانه الأصليين وأعضاء الكنيست العرب كأحجار الشطرنج لا يتحركون إلا إذا حُرّكوا من طرف آخر. ولظروف اقتصادية لم يستطع أبونا أن يكمل مشواره الطبي، فعاد بعد أربعة أعوام واشتغل في مصنع للنسيج في تل أبيب ثم تعرّف على أمي وتزوجها. وأنجب منها سبع بنات كبراهن أنا. وأخيرًا أدركت لماذا كان أبي متعلقًا باسم "آدم"، ويقول قبل أن تضع أمي مولودتها: إذا رزقنا الله بولد سنسميه
"آدم". لكن آدم لم يرغب في القدوم إلى هذه الدنيا.. وانتظرنا مجيئه بفارغ الصبر.

ولم يكن لأحد أن يعلم أن والدي كان متزوجًا من أجنبية لولا هذه المكالمة الطارئة. من أين لنا أن نعلم أن أبي كان له ولد من صلبه.. وأدركت فيما بعد لماذا يكره أن يحدثنا عن الماضي.

ولم يكن "آدم" ليعرف أن أباه لا يزال حيًّا يرزق لولا جدته التي كانت تحتضر في فراشها، فاستدعته وأطلعته على حقيقة السرّ الذي لم يسمح لها ضميرها بأن تدفنه معها في قبرها. نعم كان آنذاك في منتصف عامه الثالث حين اختطفته أمّه واختفت عن الدنيا دون سابق إنذار.. عصابات حليقي الرؤوس غسلوا دماغها وأقنعوها بالتخلي عن زوجها العربي والهرب مع طفلها إلى مكان آمن. بحث عنها في كل مكان ولكنه لم يعثر لها على أثر. السلطات تجنّدت لمساعدته ولم تفلح في العثور على ابنه. أصابه الخوف حين فوجيء بمكالمة من مجهول يهدده بالقتل فعاد إلى بلاده كسير الجناح ولا يحمل في جعبته إلا جواز سفر أوروبي وقليلا من الماركات الألمانية. وكبر الطفل في كنف والدته وقد أوهمته أن أباه قد مات في حادث طرقٍ قبل أن يولد.

وانتظرنا قدوم آدم على أحرٍّ من الجمر. خمسة أيام كأنها خمسة أعوام. في أي ساعة سيصل "آدم" يا تُرى؟ متى يأتي يوم الاثنين؟ لقد اشتقت لك كثيرًا يا أخي؟ أريد أن أرى وجهك المجهول، وأن أسمع صوتك الغريب وأن أعرف عنك المزيد.
سافرت بعد ظهر الاثنين مع أبي إلى مطار "اللد". ورفعنا لافتة كتب عليها بأحرف إنجليزية كبيرة وبخط بارز – عبد الإله الشمالي- وكانت وفود القادمين تنساب نحو الخارج انسياب الماء في الغدير. كنت أتفحص الوافدين فردًا فردًا لكن "آدم" لم يكن فيهم.. رميت ببصري بعيدًا في الداخل فلمحت شابًا ذا بشرة بيضاء وشعر أشقر وجسم نحيف يرتدي بنطلونًا أبيضًا وقميصًا أخضرًا.. دققتُ النظر فيه.. إنه هو.. قسمات وجهه لا تخفى علي.ّ كان يتلفت يمينًا ثم يسارًا كأنه يبحث عن شيء ضاع منه. وصحت في فرحٍ:

  أبي ها هو! هذا آدم! إنه هو.. إنه يشبهك. هذا أخي آدم! لقد جاء آدم يا أبي.
احتضنه أبي ساعة وقد أجهش بالبكاء، فبكينا معه حتى جفّت أعيننا من الدمع، ورجعنا إلى البيت نحتفل بقدوم "آدم" الذي انتظرناه أربعة عشر عامًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى