السبت ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

التصوف الإسلامي ومراحله

تمهيـــد:

يعد مبحث التصوف من أهم المباحث التي يستند إليها الفكر الإسلامي إلى جانب علم الكلام والفلسفة. وقد أثار التصوف الإسلامي جدلا كبيرا بين المستشرقين والباحثين العرب والمسلمين حول مفهومه ومواضيعه ومصطلحاته ومصادره وأبعاده المنهجية والمرجعية.

ويرتكز التصوف الإسلامي على ثلاث مكونات أساسية وهي: الكتابة الصوفية، والممارسة الروحية، والاصطلاح الصوفي.

وعليه، فبعد أن هيمنت المادة على الإنسان المعاصر وانحطت القيم الأخلاقية في هذا العالم المنحط وانتشرت الأهواء والنحل والصراعات الإيديولوجية حول السلطة وتهافت الناس حول المكاسب الدنيوية بشكل غريب، لم يجد الإنسان اليوم أمامه من حل سوى الارتماء في أحضان التصوف والدخول في الممارسة العرفانية قصد الحصول على السعادة الوجدانية والراحة النفسية والاستمتاع بالصفاء النوارني والاحتماء بالحضرة الربانية وصالا ولقاء.

إذا، ما هو التصوف لغة واصطلاحا؟ وما هي المواضيع التي يتمحور حولها التصوف الإسلامي؟ وما مراحل هذا التصوف؟ وما هي مصادره الداخلية والخارجية؟ وما هي أبعاده المنهجية ؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في دراستنا المتواضعة.

1. مفهوم التصوف:

أ- لغـــــة:

تشتق كلمة التصوف من فعل صوّف جعله صوفيا، وتصوّف صار صوفيا، أي تخلق بأخلاق الصوفية. والصوفية فئة من المتعبدين، واحدهم الصوفي. [1] وقال ابن خلدون في كتابه (المقدمة): "قال القشيري رحمه الله ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس والظاهر أنه لقب ومن قال اشتقاقه من الصفا أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي. قال: وكذلك من الصوف... قلت: والأظهر إن قيل بالاشتقاق إنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف.". [2]

وتحيل الدلالات الاشتقاقية لكلمة التصوف على صوفيا، والصوفة، وأهل الصفة، والصوف، والصفاء أو الصفو.

فكلمة صوفيا الدالة على الحكمة مستبعدة في هذا النطاق المعجمي، لأن كلمة صوفيا التي تحيل على العقل والمنطق تتناقض مع العرفان الروحاني والذوق الوجداني، كما أن التصوف بعيد عن كل اشتغال حسي وعقلي وذهني وأميل إلى الحدس العرفاني والتجربة الباطنية.

وهناك من يربط التصوف بصوفة كابن الجوزي، إذ كان هناك قوم من الجاهلية انقطعوا إلى العبادة والطواف حول الكعبة، ويعود نسبهم إلى الغوث بن مر الذي كان يعرف باسم صوفة أطلقته أمه عليه، لأنها لم يكن يعيش لها أولاد، فنذرت لئن رزقت بولد لتجعلن برأسه صوفة وتهبه للكعبة فولدت الغوث، وعرف باسم صوفة وظلت الصفة عالقة بأولاده من بعده. وهذا الرأي فيه تكلف وتمحل وتصنع، و لا يمكن الأخذ به دليلا على اشتقاق التصوف من الصوفة.

وهناك من ربط التسمية بزهد الرسول (صلعم) وورع أصحابه رضوان الله عليهم، إذ كان النبي يلبس الصوف كما ورد في قول أنس فيما رواه ابن ماجة أن الرسول (صلعم): "أكل خشنا ولبس خشنا، لبس الصوف واحتذى المخصوف". بيد أن هذا ليس دليلا قاطعا على ارتباط التصوف بحياة النبي (صلعم) وتقشفه في الحياة وزهد صحابته، لأن الرسول (صلعم) كان يلبس الصوف وغير الصوف، وكان يدعو كذلك إلى الإقبال على الحياة والتزين بكل ما يحقق الجمال للإنسان ويريحه نفسانيا وعضويا ويوفر له السعادة الدنيوية والأخروية، ويحث الناس كذلك على التمتع بالدنيا والتلذذ بمباهجها والتنعم بنعمها ولكن بدون إسراف ولا تبذير ولا خيلاء، وهذا الحكم ينطبق على حياة صحابته العدول على حد سواء.

وقيل: إن كلمة التصوف تشير إلى أهل الصفة من الفقراء الزهاد المهاجرين الذين كانوا يسكنون صفة المسجد في المدينة، وكانوا يقلون تارة ويكثرون تارة أخرى، فمن استغنى منهم ترك المسجد وذهب لحال سبيله ليكد في الحياة، ومن لم يجد التزم بالصفة حتى تتحسن أحواله المادية.

والذين يربطون التصوف بأهل الصفة فإنهم يقرنون التصوف بالمهاجرين الأنصار، فهذا رأي غير صحيح لا منطقيا ولا واقعيا ولا لغويا، لأن المنسوب إلى الصفة في علم الصرف "صفيّ" وليس "صوفيّ".

وهناك من يقرن التصوف بلبس الصوف الذي كان علامة أيقونية بصرية تحيل على الممارسة العرفانية والتزهد في الحياة والتقشف في الدنيا والاعتكاف على العبادة والصلاة والدعاء.

وكثير من الصحابة كانوا يلبسون الصوف، فالحسن البصري يقول:"أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف"، والبدريون هم الذين شاركوا مع الرسول (صلعم) في معركة بدر. ولكن ليس الصوف دائما يدل على التقوى والصلاح في الثقافة العربية الإسلامية، فقد كان الكثير من الناس يلبسون الصوف ليقال لهم بأنهم أتقياء ورعون، ولكنهم في الجوهر لا علاقة لهم بذلك. ويورد ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد" بيتين قالهما الشاعر محمود الوراق في هؤلاء المتصوفة:

تصوف كي يقال له أمين وما يعني التصوف والأمانـــة
ولم يرد الإله به ولكــــــن أراد به الطريق إلى الخيانـــة

ويبدو لنا أن ربط التصوف بالصوف ربط مقبول يستسيغه العقل والمنطق وتقبله القرائن التاريخية واللغوية، فحتى الرهبان النصرانيون الصوفيون كانوا يلبسون الصوف في أديرتهم وكنائسهم، وقد تأثر بهم الشيعة وأهل الباطن في لباسهم ذاك إلى يومنا هذا وخاصة شيعة العراق وشيعة إيران وشيعة لبنان.

وهناك من قال بأن التصوف يرتبط أشد الارتباط بالصفاء والصفو، فالمتصوفة ليس لهم من شغل سوى تصفية قلوبهم من أدران الجسد وشهوات الحياة قصد تحقيق الصفو الروحاني، ولكن كلمة الصفاء أو الصفو تنسب إلى "صفويّ" وليس إلى "صوفي".

وعلى أي حال، لقد اشتقت كلمة "التصوف" من الصوف وهي أقرب دلالة اشتقاقية يقبلها العقل والمنطق. ويقول أحمد أمين في كتابه "ظهر الإسلام":" وقد اختلف الناس في نسبة الكلمة هل هي من الصفة، أو من الصفاء، أو من صوفيا وهي باليونانية بمعنى الحكمة. أو من الصوف ونحن نرجح أنها نسبة إلى الصوف لأنهم في أول أمرهم كانت هذه الفرقة تلبس الصوف اخشيشانا وزهادة، كما نرجح أنها كانت ترتكن في أول أمرها على أساس إسلامي." [3]

والدليل على ارتباط التصوف بالصوف قصة محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم الباهلي عامل خراسان، فقد دخل محمد على قتيبة وعليه مدرعة صوف خشنة وربما بالية فقال له قتيبة: " ما يدعوك على لباس هذه؟ فسكت لم يحر جوابا، فقال له قتيبة فيما يشبه الغضب: أكلمك فلا تجيبني؟ فأجاب محمد في خشوع وهدوء: أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي، أو أقول فقرا فأشكو ربي". [4]

وهذا يبين لنا مدة ارتباط التصوف بالصوف، وهذا هو نفس رأي ابن خلدون الذي قال: "قلت والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب على لبس الصوف." [5]

وذهب بعض المستشرقين كنكلسون وجيوم ونولدكه إلى أن النساك المسلمين الذين أخذوا لفظ المتصوفة اسما لهم إنما لبسوا الصوف محاكاة لرهبان المسيحيين.

وأول صوفي استحق لقب "صوفي" هو أبو هاشم فقد توفي سنة 105هـ، فقد كان يعرف بأبي هاشم الصوفي وكان ذلك في القرن الثاني الهجري، بيد أن المستشرق ماسينيون يعتبر عبدك الصوفي أول من لقب بلفظ صوفي وقد توفي في210 هـ.

ب- اصطلاحا:

التصوف اصطلاحا رحلة روحانية تعتمد على التحلية والخلوة والتجلي الرباني أو اللقاء العرفاني المتوج بالوصال والكشف الإلهي. وبعني هذا أن المريد السالك كي يحقق مراده ألا وهو الوصول إلى الحضرة الربانية، عليه أن يتجرد من أوساخ الدنيا ويتوب إلى الله وأن يتطهر من كل أدران الجسد ويبتعد عن ملذات الدنيا ويترك جانبا شهوات الحياة ومتعها الزائفة الواهمة. وبعد ذلك يختلي بالله مدة طويلة، وبعد الاختلاء والمجاهدات الرياضية الوجدانية ينكشف له الوجه الرباني. ويعني هذا أن المريد لكي يصبح قطبا أو شيخا أو يصل إلى المعشوق الرباني لابد أن يسافر في معراجه النوراني عبر مجموعة من المقامات المتدرجة والأحوال الموهوبة لكي يتحقق له الوصال والتجلي الرباني.

ويلاحظ أيضا أن التصوف ليس فرقة مستقلة كما يقول أحمد أمين، بل هو عبارة عن نزعة من النزعات الوجدانية ورغبة روحانية من مجموعة من الميولات الإنسانية تجاه حدث أو فعل أو شيء ما. ومن ثم، يمكن الحديث عن معتزلي صوفي وأشعري صوفي وفقيه صوفي ونصراني صوفي ومسيحي صوفي... [6].

ويعرف ابن خلدون التصوف بقوله هو: "العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة". [7]

ومن هنا، فالتصوف عرفان وجداني وشوق ذوقي ومجاهدة ربانية تقوم على الزهد في الحياة وترك الدنيا الواهمة. ويعرف رويم البغدادي التصوف بقوله: "التصوف مبني على خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل، وترك الغرض والاختيار"، وقال الكرخي: "التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق"، وقال الجنيد: "أن تكون مع الله بلا علاقة"، وقال ذو النون المصري: "أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء"، وقيل للحصري: "من الصوفي عندك...؟ فقال: الذي لا تقله الأرض ولا تظلله السماء". [8]

2. مواضيع التصوف:

تنحصر مواضيع التصوف حسب ابن خلدون في أربعة أغراض أساسية:

1. المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره،
 
2. الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل: الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجودها وتكونها،
 
3. التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات،
 
4. ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول". [9]
 
ويعني هذا أن التصوف ينبني على أربعة مقومات جوهرية، وهي: المجاهدات، والتجليات الغيبية، والكرامات، والشطحات. وقد دافع ابن خلدون عن أصحاب المجاهدات والتجليات الغيبية والكرامات الخاصة بالمتصوفة والأولياء الصالحين وميزها عن المعجزات الخاصة بالأنبياء، كما اعتبر صاحب الشطحات معذورا، لأنه يكون في حالة سكر وانتشاء ذوقي لايعي مايقوله أو ما يردده من أقوال أو ألفاظ أو مرويات. [10]

ويمكن القول بأن التصوف عبارة عن رحلة روحانية أو سفر معراجي له بداية ونهاية ووسط، فالبداية هي التطهير والهروب من الدنيا الزائفة، والوسط هي الخلوة والرياضة الروحية والمجاهدة الصوفية، أما النهاية فهي اللقاء والوصال اللدني.

3. مراحل التصوف الإسلامي:

أ- مرحلة الزهــد:

ظهر الزهد مع بداية الدعوة الإسلامية في القرن الهجري الأول، وكان هذا السلوك يقوم على دعامتين أساسيتين، وهما: الزهادة في الدنيا والابتعاد عن ملذات الحياة الزائفة الواهمة، والإقبال على الآخرة الباقية الخالدة. والدعامة الثانية تتمثل في حب الله بدون واسطة بشرية.

وهناك العديد من نصوص القرآن والحديث النبوي التي كانت تحث على الزهد والتقشف في الحياة والاستعداد للموت وترك الدنيا، لأنها دار غرور وزينة وخداع وخيلاء. يقول تعالى: "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر"، ويقول أيضا: "والمال والبنون زينة الحياة الدنيا"، ويقول أيضا: "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض".

ومن الآيات الدالة على الحب الإلهي ما قاله تعالى:"والذين آمنوا أشد حبا لله"، وفي الحديث النبوي الشريف: "نعم العبد صهيب! لو لم يخف الله لم يعصه"، "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه".
ومن أهم الزهاد في القرن الأول الهجري الخلفاء الراشدون الأربعة رضوان الله عليهم الذين كانوا يقتدون بحياة الرسول (صلعم)، فضلا عن الصحابة العدول والتابعين وخاصة أبا ذر الغفاري وسلمان الفارسي وصهيب وأبا الدرداء ورجال الصفة وغيرهم...

ب- مرحلة التصوف السني:

يقصد بالتصوف السني ذلك التصوف الذي كان يمارسه مجموعة من الزهاد السنيين والذين كانوا يحترمون قواعد الشرع الإسلامي من قرآن وسنة وإجماع، وهم أهل وجدان وكشف عن صدق وإخلاص يبتعدون قدر الإمكان عن الشطحات الغريبة والهلوسات الخارقة والقصص والكرامات الفانطاستيكية البعيدة عن نطاق الحس والعقل والغيب.

ولم يظهر التصوف السني في العالم الإسلامي إلا في القرن الثاني الهجري وخاصة بعد الفتوحات الإسلامية وانتشار الرخاء والغنى والجاه في البيئة الإسلامية التي كثر فيه التمدين العمراني والحضاري، وشيدت فيها القصور والبساتين، وانتشر اللهو والمجون وكثر الطرب وازدهر شعر الخلاعة، فاختلط الناس بالحياة وأقبلوا على متع الدنيا وزينتها الزائفة. فظهر كثير من العلماء والأتقياء الذين يخافون الله ويطمعون في رحمته وغفرانه وتوبته النصوحة، فتركوا الدنيا وانعزلوا عن الناس والسلاطين وابتعدوا عن إغراءت الدنيا ومباهجها الفاتنة فاختاروا الخلوة الربانية وتمثلوا طريق الشرع الرباني وساروا على نهج الهدي النبوي وجعلوه مسلكا لهم في التعبد والمحاسبة والعبادة والاعتكاف.

ومن أهم كتاب التجربة الصوفية وجامع نصوصها في هذه المرحلة نستحضر القشيري في رسالته و فريد العطار في "تذكرة الألباب" والطوسي في كتابه "اللمع"... ويبقى الحارث المحاسبي هو العميد الأول للتصوف السني حسب محمد عابد الجابري، لكونه لم ينحرف في عملية التأويل ولم يغال فيها كما فعل المتصوفة السنيون، زد على ذلك أنه وقف صامدا في وجه التشيع الباطني. [11]

ومن أهم المتصوفة السنيين الذين يذكرهم التاريخ نلفي: المحاسبي والقشيري والحسن البصري والغزالي والسراج والجنيد وابن المبارك وعبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي وربيعة العدوية التي تقول في الحب الإلهي:

أحبـــك حبيــــن: حب الهوى
وحبــا لأنــك أهـــل لـــــذاكا
فأما الذي هو حـــــب الهوى
فشغــل بذكرك عمن سواكـا
وأما الذي أنــــــــت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لـي
ولكــن لك الحمد في ذا وذاكا

وإذا كان الحسن البصري معروفا بنزعة الخوف حتى قال معاصروه:" إنه كان دائما كأنه عائد من جنازة" [12]، فإن ربيعة العدوية معروفة بنزعة الحب. فلم تكره ربيعة العدوية إبليس لكي لا تترك الكراهية في قلبها في موازاة مع صفة الحب، فمن أجل الحفاظ على حبها لله أحبت إبليس لكي تصفي قلبها من الحقد والكراهية على السواء. وقالت شعرا كثيرا في الحب الرباني منه هذان البيتان:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوســـي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيــــــــب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقد روى القشيري في رسالته أن ربيعة العدوية قالت في مناجاتها:" إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك؟"، فهتف بها هاتف يقول: "ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء". [13]

ومن أهم المتصوفة السنيين الآخرين الذين استحضروا الشرع الرباني في تجاربهم العرفانية نذكر: إبراهيم بن الأدهم وداود الطائي والفضيل بن عياض وشقيق البلخي وكلهم توفوا في القرن الثاني الهجري، ومعروف الكرخي المتوفى سنة 200هـ، وابن سليمان الداراني المتوفى سنة 215 هـ.

وسري السقطي (253هـ) صاحب فكرة الحقائق الإلهية والتوحيد، والجنيد المتوفى سنة 297هـ الذي يعد أول من صاغ المعاني الصوفية وكتب في شرحها، والغزالي في القرن الخامس الهجري الذي حاول التوفيق بين الشرع والتصوف وقام بعقد الصلة بين الخطاب الفقهي الذي كان يحارب المتصوفة والخطاب العرفاني الذي كان يؤمن بالباطن. وقد تجلى هذا التوفيق واضحا في كتابيه: "المنقذ من الضلال"، وكتابه: "إحياء في علوم الدين".

ومن أهم قواعد التصوف السني التي يرتكن إليها احترام مبادئ القرآن والسنة والإجماع، وتطبيق شعائر الدين والسعي في الدنيا بحثا عن الرزق وتمجيد العمل والشغل، لأنه زاد الدنيا والآخرة، علاوة على احترام خصوصيات الشرع في تأويل الظاهر والباطن وعدم إظهار ذلك لعامة الناس. كما يبتعد هذا النوع من التصوف عن الشطحات الصوفية والكرامات الخارقة التي تخالف الشرع الرباني. ويعلي المتصوفة السنيون من قيمة الأنبياء بالمقارنة مع الأولياء والشيوخ والأقطاب.

وفي الأخير، يمتح التصوف السني مبادئه وتعاليمه ومجاهداته الذوقية من المصادر الداخلية للفكر الإسلامي أي من القرآن والسنة.

ج- مرحلة التصوف الفلسفي:

لم يظهر التصوف الفلسفي في العالم الإسلامي إلا في القرن الثاني الهجري إبان الدولة العباسية مع اختلاط مجموعة من الشعوب والأجناس مع العرب المسلمين (الفرس والهنود والروم...)، وازدهار حركة الترجمة بتأسيس بيت الحكمة في عهد المأمون لنقل الفكر اليوناني، وانتشار المدارس الدينية والفلسفية في معظم أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، فساعد كل هذا في تلقيح التصوف الإسلامي بملامح خارجية أبعدته عن الصواب وجعلته فكرا منحرفا متأثرا بالأفكار الأجنبية الضالة كالغنوصية والهرمسية وأفكار الشيعة والرافضة المبتدعين. وفي هذا يقول أحمد أمين: "ولكن لما فتحت الفتوح الإسلامية واختلطت الثقافات المختلفة وكانت تموج في المملكة الإسلامية الفلسفة اليونانية، وخاصة الأفلاطونية الحديثة والنصرانية والبوذية والزرادشتية، وجدنا أن هذا الزهد وهذا الحب الإلهي يتفلسفان، وتتسرب إلى التصوف بعض تعليمات من كل هذا.

فالفلسفة كانت منتشرة في الشرق منذ فتوح الإسكندر. وكانت لها مدرسة في حران وهي التي تسمت بالصائبة. وقد ترجموا كتبا يونانية كثيرة إلى السريانية ثم إلى العربية.

كما كانت هناك فلسفة هندية وفارسية، وإن كانت فلسفتهم أقل انتشارا من الفلسفة اليونانية. وكانت للهند مدرسة في جنديسابور كانت تدرس فيها علوم اليونان والهند على السواء.

كل هذه كانت تتسرب منها تعاليم إلى التصوف بعد عصره الأول." [14]

ومن أهم النظريات في التصوف الفلسفي نظرية الفناء في الله وهي نظرية أبي يزيد البسطامي الفارسي وتحيل على فكرة الاتصال بالله والتفكير فيه، وهذه الفكرة معروفة في الديانة البوذية باسم نرڤانا. [15]

وقوام هذه النظرية التي انتشرت بين الفلاسفة المتصوفين أن الفناء يتخذ مظهرين: الأول بتغير أخلاقي تبتعد فيه الروح عن أدران الجسد والابتعاد عن الشهوات ولذات الحياة، والمظهر الثاني ينصرف الفكر فيها عن كل الموجودات إلى التفكير في خالقها وموجدها والاتصال به عرفانا. ومن ثم، فالمظهر الأول نفساني والثاني عقلاني. ويصف السري السقطي من وصل به الأمر إلى حالة الفناء بقوله:" إنه لو ضرب بسيف على وجهه لما شعر به".

وإذا انتقلنا إلى تصور ذي النون المصري فقد تأثر بأفكار أفلوطين صاحب كتاب "التسوعات" أو "الربوبية" الذي نقله عبد المسيح بن ناعمة الحمصي وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب الكندي، وانتفع بهذا الكتاب ابن سينا وشرحه فنسبه خطأ لأرسطو. [16]

ومن أهم الأفكار التي كان يقول بها أفلوطين وهو صاحب المدرسة الأفلوطينية الحديثة بمصر ذات المنابع اليونانية والغنوصية والهرمسية والزرادشتية واليهودية والبوذية والمسيحية نجد نظرية الفيض وانبثاق النور والتجلي وغير ذلك... يقول أفلوطين: "إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانيا وصرت كأني جوهر متجرد بلا بدن، فأكون داخلا في ذاتي، راجعا إليها، خارجا من سائر الأشياء، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبا بهتا...". [17]

ويعرف لذي النون كرامات خارقة وله كلام طويل في المقامات والأحوال ويقال إنه وضع فكرتها [18]. أي إن المريد أو السالك أو العارف الفقير عند ذي النون المصري لابد أن يمر بمجموعة من الأحوال والمقامات في سفره الروحاني وتعراجه الصوفي لكي يصل إلى الحقيقة الربانية العرفانية القائمة على التجلي وانبثاق النور الرباني والانكشاف الإلهي. ويسمى الذي يعبر هذه المراحل بالسالك وعملية السلوك تسمى سفرا أو حجا، وسميت المراحل بالمقامات والصفات الموهوبة أحوالا. وقد جعلها الطوسي في كتابه" اللمع" سبعا، كل مقام يسلم لمقام آخر بشكل متتابع، وهذه المقامات هي: مقام التوبة، ومقام الورع، ومقام الزهد، ومقام الفقر، ومقام الصبر، ومقام التوكل، ومقام الرضى. [19]

أما الأحوال فمنها: التأمل والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والطمأنينة والمشاهدة والتعين. وبالتالي، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب.

ومن أهم النظريات الصوفية وحدة الوجود لابن عربي الأندلسي، ومفادها أن المحب يفنى في محبوبه ويحبه بكل قلبه حتى لا يكون هناك فرق بين محب ومحبوب. كما أن هذه النظرية الصوفية ترفض نظرة الفلاسفة في رؤيتهم الأنطولوجية عندما يقسمون الوجود قسمين: الله والعالم الموجود، أي إن هناك ثنائية وجودية: واجب الوجود وممكن الوجود، ويترجم هذا أن الواحد تصدر عنه الكثرة، أي كثرة المخلوقات والمصنوعات، بينما ابن عربي يرى أن هذه الكثرة لا ترى إلا على مستوى الظاهر، ولكن على مستوى الباطن هناك وحدة وجودية تنصهر فها المخلوقات مع الخالق الأزلي. أي إن هناك وجودا واحدا يلتحم فيه العاشق الصوفي مع المعشوق الرباني في وحدة من الاتحاد والشوق الروحاني. ومتى كانت هناك كثرة فتعود في الأصل إلى هذه الوحدة الصوفية. وتشبه هذه النظرية فكرة أبي يزيد البسطامي صاحب نظرية الفناء، وهي أن العاشق يفنى في حبه للمحبوب.

يقول ابن العربي معبرا عن إيمانه الكبير بكل المعتقدات وأديان الناس، مبينا أن التعدد في العقائد يدل في جوهره على وحدة الحب والاتصال والوجود:

عقـد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ويقول أيضا في التسامح الديني والحب الإلهي:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغـــــزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طـــــائـف وألواح توراة ومصحـــف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهــت ركائبــه فالحـــب ديني وإيماني

وتدخل هذه الأبيات الشعرية ضمن الشطحات التي كان يرفضها الفقهاء وتجعلهم يحاربون المتصوفة الغلاة بكل صرامة وقسوة، وإن كان ابن خلدون قد دافع عن أصحاب الشطحات وأوجد لهم عذرا ومخرجا في كونهم يتفوهون بهذه الأقوال الغريبة حينما يكونون في حالة سكر واشتياق وغياب للوعي وانبثاق النور الرباني.

ومن الذين توسعوا في وحدة الوجود نستحضر ابن سبعين والعفيف التلمساني وغيرهما.

وإذا انتقلنا إلى الحلاج فهو صاحب نظرية الحلول التي قوامها أن الله جل جلاله قد حل في روح الإنسان، فأصبحا ذاتا واحدة متحدة على غرار الفكرة النصرانية المسيحية التي تؤمن بامتزاج الطبيعة الإلهية بالطبيعة الناسوتية، أي إن اللاهوت حل في الناسوت فاختلطا كما اختلط الماء بالخمرة، وقد قال الحلاج: "أنا الله، وما في الجبة إلا الله". وهذا الاعتراف الظاهري هو الذي أودى بحياته ليصلب أمام الناس باعتباره شهيد التأويل والتصريح.

ويرفض ابن الفارض حلولية الحلاج ويفضل بدلا منها نظرية الاتحاد في تائيته الشعرية المعروفة:

متى حلت عن قــــولي أنا هي أو قل وحاشا لمثلي أنها فيّ حلــت
وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلـت

ويرى أحمد أمين أن وحدة الوجود ظهرت في القرن السادس والسابع الهجريين مع ابن الفارض وابن عربي كرد فعل على الفكرة الاثنينية الني تقسم الوجود إلى واجب الوجود وهو الله وممكن الوجود وهو العالم.. وبالتالي، فـ "ليست مظاهر العالم المختلفة إلا مظاهر لله تعالى، أي ليس لله وجود إلا الوجود القائم بالمخلوقات وليس هناك غيره ولا سواه، وأن العبد إنما يشهد السوي مادام محجوبان فإذا انكشف الحجاب رأى أنه لا أثر للغيرية ولا للكثرة، وعاين الرائي عين المرئي والمشاهد عين المشهود. ولهم في ذلك كلام كثير وشطحات بعيدة المدى.". [20]

وهناك نظريات صوفية أخرى كنظرية الإشراق عند السهروردي ونظرية الإنسان الكامل ونظرية الحقيقة المحمدية ونظرية القطب الصوفي. وهذه النظريات الصوفية سنخصص لها- إن شاء الله- في المستقبل مقالات مستقلة.

د- التصوف المذهب أو الطرقي:

بعد أن كان التصوف سلوكا فرديا انتقل ليكون مسلكا جماعيا، وسيكون للمريد العارف قطبا يهديه ويرشده، لأنه من الصعب أن يتعلم المريد في غياب الشيخ والقطب أو يسافر بعيدا في حضرته الصوفية وتعراجه الذوقي دون مرافق يساعده على تحمل مشقة السفر أو الحج. ومن هنا، ظهرت طرق ومذاهب صوفية كثيرة تنسب إلى شيخ بعينه أو قطب بارز له أتباع كثيرون يتبعون مسلكه في المعرفة اللدنية، وبعد ذلك، ينتقل مشعل الوراثة الصوفية أو سبحة الولاية من شيخ إلى آخر بعد الإجازة والتوصية.

وقد انتشرت في العالم الإسلامي كثير من الطرائق الصوفية قديما وحديثا واقترنت بالزوايا والروابط والمساجد، فهناك الطريقة الأحمدية التي تنسب إلى أحمد البدوي وانتشرت في مصر إبان الظاهر بيبرس، وهناك طريقة صوفية أخرى تنسب إلى أبي العباس أحمد بن عمر المرسي من مرسية بالأندلس، وهي بدورها انتشرت بمصر. كما توجد عدة طرائق صوفية مشهورة كالطريقة التيجانية والطريقة الشاذلية والطريقة العلوية والطريقة القادرية والطريقة البودشيشية والطريقة الدلائية والطريقة الجيلانية والطريقة العيسوية والطريقة الناصرية والطريقة الحراقية...

4. أبعاد التصوف المنهجية:

إذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النص وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي، فإن المتصوفة يعتمدون على الذوق والحدس والوجدان والقلب. أي إن لغتهم لغة باطنية تنفي الوساطة وترفض الحسية وتتجاوز نطاق الحس والعقل إلى ماهو غيبي وجداني وذوقي. ومن ثم، فاللغة قاصرة في ترجمة التجربة الصوفية، لذلك يلتجئ المتصوفة إلى مصطلحات رمزية لها سياقات خاصة، وهذه المصطلحات كثيرة يصعب حصرها استقيت من مجالات عدة، ومن هنا يمكن الحديث عن اللفظ المشترك داخل الحقل الصوفي. ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصوفية نذكر: : علوم الشريعة، وعلوم العقيدة، والآداب، وعلوم اللغة، والفلسفة، وعلوم الآلة فضلا عن القرآن والسنة وعلم الحروف والكيمياء...

ومن مشاكل الاصطلاح الصوفي التعدد في الألفاظ والتعدد في المعاني والاختلاف بين الصوفية في معنى مفهوم ما، وهذا راجع لاختلاف التجربة الصوفية من تجربة إلى أخرى. [21]

وعليه، فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها وهي: قضية العرفان وثنائية الظاهر والباطن وإشكالية التأويل، لأنها هي التي ستميز الخطاب الصوفي عن الخطاب الفلسفي والخطاب الفقهي والخطاب الكلامي. فهذا أبو نصر السراج الطوسي، وهو من أوائل المؤلفين في تاريخ التصوف في الإسلام، يعتبر المتصوفة من علماء الباطن وبالتالي، فالتصوف هو علم الباطن، بينما الفقه هو علم الظاهر، وفي هذا يقول في كتابه "اللمع": "إن العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام... وأما الأعمال الباطنة فكأنما القلوب وهي المقامات والأحوال... ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد... فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي القلب، وأما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هو الجوارح الظاهرة وهي الأعضاء، وقد قال تعالى:"وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" (لقمان20). فالنعمة الظاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظاهرة من فعل الطاعات، والنعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات. ولا يستغني الظاهر عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر، وقد قال الله عز وجل" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" (النساء83)، فالعلم المستنبط هو العلم الباطن وهو علم أهل التصوف لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك...
فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن، وحديث رسول (صلعم) ظاهر وباطن والإسلام ظاهر وباطن". [22]

ومن هنا، فإن المتصوفة يتجاوزون الحس والظاهر إلى استكناه القلب واستنطاق مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية وتأصيل حضرة ربانية قوامها العشق والمحبة والزهادة وتأويلها عرفانيا ولدنيا، بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النصوص وسياقاتها السطحية مخافة من التأويل وإثارة الفتنة في المجتمع.

5- مصادر التصوف:

يمكن الحديث عن نوعين من المصادر التي كانت وراء نشوء التصوف الإسلامي: مصادر داخلية تتمثل في القرآن الكريم والسنة والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر منها الأمة الإسلامية، والمصادر الخارجية التي تتمثل في الفكر الغنوصي والهرمسية والأفلاطونية المحدثة والتشيع والفكر الباطني والتيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية. فإذا كان الزهد والتصوف الإسلامي السني لهما جذور داخلية بدون شك، فإن التصوف الفلسفي كما عند الحلاج وأبي يزيد البسطامي وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والسهروردي على الرغم من طابعه السني والشرعي في الكثير من النصوص و المواقف فإن له جذورا خارجية، نظرا لتأثره بالفكر الهرمسي كما يقول الدكتور عابد الجابري في كتابه"بنية العقل العربي": "وإنما ذكرنا الإسماعيلية هنا لأنه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته، ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية.". [23]

ويذهب ابن خلدون في كتابه "المقدمة" إلى أن المتصوفة المتأخرين قد تأثروا بالشيعة الغلاة والفكر الباطني المنحرف، يقول ابن خلدون في هذا الصدد:" إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة وملأوا الصحف منه مثل: الهروي في كتابه "المقامات" وله غيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم". [24].

وتحيل نظرية الحلول ومحبة الله ولبس الصوف على العقيدة المسيحية، بينما تحيل فكرة الفناء على النرڤانا البوذية، وتشير أفكار ذي النون المصري إلى تصورات أفلوطين، وتختلط أفكار ابن عربي بأفكار الشيعة الباطنية والهرمسية الشرقية.

وقد دفعت الشطحات التي كان ينطق بها المتصوفة كثيرا من المستشرقين ليربطوا التصوف الإسلامي بمؤثرات خارجية هندوسية وبوذية وزرادشتية مثل شطحات أبي يزيد البسطامي الذي قال: "رفعني- الله- مرة فأقامني بين يديه وقال لي يا أبا يزيد: إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك". ومن ذلك أيضا قوله: "أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت إلى وحدانيته فصرت طيرا جسمه من الأحدية وجناحاه من الديمومة، فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف مرة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية فرأيت فيها شجرة أحدية، ثم وصفت أرضها وأصلها وفرعها وأعضاءها وثمارها...فنظرت فعلمت أن هذا كله خدعة". [25]

فهذه الشطحات كثيرة في متون العرفانيين أمثال: جلال الدين الرومي والسهروردي وابن عربي وأبي يزيد البسطامي والحلاج وابن الفارض وابن سبعين...

6. تقـويم التصوف:

نشب خلاف كبير حول قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي، فهناك من يدافع عنه ويعتبره فعلا إيجابيا، وهناك من ينظر إليه نظرة سلبية ومن هؤلاء: الدكتور محمد عابد الجابري الذي اعتبر الفكر الصوفي العرفاني فكرا خرافيا أسطوريا وسلوكا تواكليا، فالحقيقة عند الصوفية" ليست الحقيقة الدينية ولا الحقيقة الفلسفية ولا الحقيقة العلمية، بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة". [26]

ولكن هناك من يشيد بالفكر الصوفي ويعتبره مسلكا للنجاة والخروج من أزمات الحياة المعاصرة، لأن مشكلاتنا مشكلات أخلاقية وأزمات روحية، كما أن الكثير من الطرق الصوفية قامت بدور هام في ميدان الجهاد وطرد المستعمر وحماية ثغور الوطن، وساهمت في خدمة المجتمع عن طريق الإنفاق والإحسان. زد على ذلك أن التصوف أصبح اليوم علاجا سيكولوجيا، لأنه يحرر الإنسان من شرنقة أمراضه العضوية والنفسية ويخرجه من عزلته الاجتماعية ويداويه من القلق والكآبة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني.

خاتمــــة:

ويتبين لنا - مما سبق ذكره- أن التصوف في دلالاته اللغوية الاشتقاقية مرتبط بالصوف، بينما في حمولاته الاصطلاحية عبارة عن تجربة روحية يمارسها إنسان متصوف يعتمد على الذوق والكشف والمجاهدة الروحانية بعد التخلص من براثن الجسد وأدرانه البدنية والابتعاد عن ملذات الحياة ونبذ شهوات الدنيا الزائلة.

وقد رأينا كذلك أن التصوف مر بأربعة مراحل كبرى، وهي: مرحلة الزهد، ومرحلة التصوف السني، ومرحلة التصوف الفلسفي، ومرحلة المذاهب والطرق الصوفية.

و بينا أيضا أن التصوف يدرس أربعة مواضيع أساسية، وهي: المجاهدات، والكرامات، والشطحات الصوفية، والتجليات الغيبية. كما أثبتنا أن للتصوف مصادر داخلية إسلامية ومصادر خارجية أجنبية.

كما ارتأينا أن الصوفية يلتجئون على المستوى المنهجي إلى لغة العرفان والذوق واستخدام الحدس واستعمال الباطن وتأويل الباطن إلى الظاهر. ويعتبر التصوف بذلك كتابة نظرية وممارسة عملية روحية واصطلاحا صوفيا. والتصوف في الحقيقة ما هو إلا جواب عن المشكلات الذاتية والموضوعية.

وما أشد حاجتنا اليوم إلى تصوف معاصر يساير الحداثة والتقدم العلمي والتقني والفني! تصوف ينخرط في المجتمع عن طريق تقديم مقاربات أخلاقية ونفسية وروحية لمعالجة كل المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر، ولاسيما أن أزمتنا المعاصرة هي أزمة ضمير وأخلاق وتردي القيم الأصيلة وانحطاط الإنسان.


[1انظر: المنجد في اللغة والأعلام، دار الشرق، بيروت، لبنان، الطبعة38، سنة 2000م، ص:441،

[2ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، لبنان، ص:467-468،

[3أحمد أمين: ظهر الإسلام، المجلد 2، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط 5، 1969، ص:150،

[4ابن عبد ربه: العقد الفريد، الجزء6، ص:225- 226 ،

[5ابن خلدون: نفس المصدر، ص:467،

[6أحمد أمين: ظهر الإسلام، المجلد 2، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط 5، 1969، ص:149،

[7ابن خلدون: نفسه، ص:467،

[8أحمد أمين: ظهر الإسلام، ص:152-153،

[9ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، لبنان، ص:474،

[10نفس المصدر، ص:474-475،

[11عابد الجابري: بنية العقل العربي، ص:282،

[12أحمد أمين: نفسه، ص:150،

[13أحمد أمين: نفسه، ص:154،

[14أحمد أمين: ظهر الإسلام، ص:150-151،

[15أحمد أمين: نفسه، ص:155،

[16أحمد أمين: نفسه، ص:156،

[17أحمد أمين: نفسه، ص:156،

[18أحمد أمين: نفسه، ص:159،

[19أحمد أمين: نفسه، ص:159،

[20أحمد أمين: نفسه، ص:163،

[21انظر محمد المصطفى عزام: المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل، مطبعة نداكوم للصحافة والطباعة، الطبعة الأولى، 2000م، ص:210،

[22أبو نصر السراج الطوسي: اللمع، تحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد القادر، مطبعة المثنى ببغداد ودار الكتب الحديثة بالقاهرة، 1960، ص:43،

[23الدكتور عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة 1، 1986م، ص:311،

[24ابن خلدون: المقدمة، ص:473،

[25عبد الرحمن بدوي: شطحات الصوفية، ص:28،

[26عابد الجابري: نفس المرجع السابق، ص:390،


مشاركة منتدى

  • عرضت بحالي الي خالقي
    سألته أن يفني مستغلقي
    كما اكرم الله فيما مضي
    كذلك يكرم فيما بقي

  • للتصوف طرق كثيرة التي توصل سالكها الي محبة رسول الله صلي الله عليه و سلم و محبة الله عز و جل. هذه الطرق تأمر سالكها اتباع الكتاب و السنة. القادرية و الرفاعية و البدوية و الدسوقية و الشازلية و النقشبندية و الكبروية و السهروردية و المولوية و البكتاشية و الحلوتية امثلة منها و اشهرها.
    .

  • .
    يا إلهي زدني علما نافعا
    زدني شوكا زدني حبا لم يزل
    هب لي لطفك هب لي قربك جامعا
    انت مغني انت خلاق الازل
    .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى