الأربعاء ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
قراءة في الصفحات الزرقاء
بقلم نجاة الزباير

أشجار من ذاكرة الألم

إطلالة على (نبض) الشاعرة فاطمة بوهراكة

أخطو مسافاتي على الجمر

قطرة من نبع البداية:
كما همسات الصباح تُشرق
تمشي الهوينى بين سنابل العبارة
تضعُ شارة اختلافها وتصدح عاليا بالغناء
يتوهجُ شِعرها بأسرار صغيرة
ترسم ملامَحها بأنفاس الفجر
فتولدُ من كفها أوطان من ماء.

فاطمة بوهراكة؛ هذه الشاعرة التي تسكنها هواجس الكتابة، فتحت باب إبداعها للجمال غازلة الحب بخيوط الروح لكل الغاوين.

هل موسيقاها تلك؛ قد صنعت من اسمها أيقونة تميزها، أم تراها مثل النهر الهادر الذي تزهر في جنباته الأحلام؟

الوقوف على عتبات الجراح

حين نحاور قصائد الشاعرة بوهراكة، يتحقق لنا عنصر الرغبة في اكتشاف ذاتها التي تشكل النص من خلال خيوط خفية تربط بنياته الجمالية، وترسم طقوسا فنية تحمل طاقة لغوية تفجر مكنونا نفسيا هو بمثابة اعترافات منكسرة على عتبة العتاب. تقول:

أيها الساطع في نور مهجتي
أهديتك سنبلة
مضمخة بالحب والوفاء
أهديتني خنجرا
مرصعا بالدم والوعود.(..)

هكذا تفتح ذاكرة العشق النازف حاملة كل أوجاع الكلام، حيث جاءت كلماتها متدثرة بالشجن الكثيف، فشتاء الخيانة يصب في وريدها انكسارا لا يلملم شظاياه غير التأمل في الذي كان.

غبية هي الذكريات
المشتعلة في صدري
الملغوم بالأسرار
تافهة هي حواديث
الزمن المر
المكدسة على جدران
الخيانة.

فهل احتراق الذات الهشة في كف المعاني المسكونة بالأوهام الكاذبة قد مزق نسيج قلبها، فأضحت مثل كتاب البحر الكبير الذي تدفن فيه أسرارها؟

بلهاء هي الأرصفة المعبدة
تحت قدمي
تجالسني خلسة بين الحضور
وقيت المساء
تسدل الستائر الغجرية
على قلب جريح (..)

لقد خلقت شاعرتنا علائق بينها وبين المكان، وانفتحت على التحاور الصامت معه، مكتفية بالتقاط صورة تواجدها في انسياب عاطفي أثرى اللحظة الإبداعية.

فهي تنقل للقارىء مشهدا غنيا بالتوتر والقلق، إذ أسقطت ظلالها المشروخة ذات مساء على الرصيف الجامد كي تخرج من دائرة الألم، واصفة شرود الروح وهي تقتنص معاني وحدتها.

أتوجع
أتوسد بقايا أشلائي
المبعثرة.

إن هذا البعد الاستعاري قد حمل في إشاراته الرمزية فيضا من الألم، جعل الشاعرة تتمدَّدُ بين سطورها وهي تردد من خلال ناي أوجاعها نشيدها الغجري الحزين الخاضع لبنية الاستمرارية، من خلال حضور الفعل المضارع بشكل قوي.(أتوجع، أتوسد).

شراييني مدججة بالعطاء
ساعة الجحود
متعبة أنت يا أنا
لحظة الوعود
تكتبين نهاية الألم
المدفون
في ذاكرة الزمن التائه.

لقد استثمرت لغة مكثفة كي تحاور ذاتها، إذ ترددت في جنبات نصوصها حيرة حاصرتها في دائرة زمنية تائهة.
إنها الأنا الممزقة بين العطاء والخذلان، فهذه الطاقة المتْعبَة لا تتحرر إلا من خلال نثر الصخب النفسي بين البياض والسواد.

وريدي مدجج بالصراخ .تقول

لكن سرعان ما حاولت الذات الملتاعة استثمار طاقتها في الصمود لاستعادة جزء كبير منها.

ساعة الإقصاء
أتحول ..أتيه
أتمرد
داخل هذا القفص
أنقش الحناء فويق الورق
المبعثر على الجدران
ألهو بالألم
أنسى ما تبقى مني
أداعب جرحي
لأرسم وجها يشبهني
كثيرا يشبهني.

في مخدع الجراح حملت لنا الشاعرة مراوغاتها التي رصدت اغترابها وهي تنسكب فوق الورق (تيها وتمردا)، تحاول بحس مزاجي أن تُحَوِّل ظل الاحتراق الذي يلازمها إلى شمس تخفي من خلالها ذكريات لم تحمل غير الندم.

آه، كم عمرك أيها الوجع
المشاغب تحت الظلام
وحرقة السؤال تعصف بي

تتأوه شاعرتنا وحيدة بين ضلوع السؤال (كم..) ، والذي يحلينا نحو خراب عاطفي لا نهاية له، مخاطبة الضياع والسلبية التي تحيط بزمنها النفسي لتصير الذات هنا ذاتين، فأي انشطار هذا الذي يستخدم مفردات تفتح عينيها على واقع يغرق في لجة الغيم؟

وحيدة أشاطر نصفي
لأرسم وجها نورانيا
يخيفني هذا الوجه
يشنق يدي – عبثا.
لتكون الكتابة خلاصها وهي تنتقل رحالة بين دروب لياليها.

نبض يضيء ليل الحنين

بين الشغف والتمرد نسمع نبضا خافتا يمر على جسد القصيدة كي يعلو صراخها، (لكل هذا الألم أرفض كينونتي). تقول هكذا تحولت الشاعرة إلى لغة تطوف بنا أحداق المساء، متماهية مع ذاتها في تفاعلها مع الوجود، فلماذا تُصر على أن تقص علينا قصصا من نار خساراتها، فهل هي مرآة هشة لواقع كسر أغصانها المرهفة، حتى تحول جسدها إلى مرفأ لنوارس الخيبة والندم؟

تقول:

أيها الراحل عبر المسافات
كسرت صوتي
حطمت وجهي
ونسيت أني المزهوة
بالانتصارات ....

إذا كان للوجه دلالات مختلفة حسب المفردة المستعملة، فإن الشاعرة هنا قد شكلت معانيه من خلال صراع صارخ بين عواطف غائبة بعيدة في الزمن، لكنها منثورة في الحاضر مثل حُبيبات الندى.

فالفضاء الدلالي لانكسار الصوت و تحطيم الوجه، تعنيف يسلط الضوء على مغاليق النفس التي تحاول أن تجد مهربا في الاعترافات الشجية التي رافقت ضعفها، فتجربة الشاعرة داخل نصها يذكرنا بانتصاراتها التي نسيها الآخر، أيا كانت طبيعة تواجده في حقل انفعالها العاطفي الذي يفغر فاه أمام مرايا عنفوانها. تقول:

نزيف القلب
المهجور … المكسور
وأنا القريبة / البعيدة
أضحك / أبكي
أمزق بقايا المرايا
المرصعة
في قلبي المحمول على
النعش
أحتفل بزغاريد الشجن
أمضي
أمضي
فأمضي …

إن امتداد الحزن في نصوص الشاعرة فاطمة بوهراكة قد جعلها تنوء تحت ثقل الاغتراب النفسي الذي يعتبر من لبنات الشعر المعاصر، والذي يواجهه الشاعر من خلال القصيدة.

هكذا استطاعت أن تَعْبُرَ بالقارىء نحو ضفة أخرى، حيث خلقت علاقة مصالحة مع الذات من خلال تقبل قلق الحياة والتحليق في المدى العاري.

فبنية التكرار (أمضي..) قد أحالتنا نحو حالة معنوية وضعت فاصلا زمنيا بين الذي كان وبين ما سيكون، إنه التوغل في أحراش لغة رشيقة تنتصر على تقاسيم الألم.

فما هذا النحيب الذي أسال القصائد مطرا لا يستقر إلا بين ثنايا الروح، وهي تحاول الانتصار على الشعور بالتعاسة من خلال التخييل؟

سقوط الذات بين ذراعي المعنى

تتحرك شاعرتنا المتألقة تحت سقف لغة شفافة كي تصطاد جدائل الريح المسافرة بين الآهات، وفوق خِصر الوقت نراها مثل قيثارة حزينة تردد:

بين الجدران
متعبة أنتِ يا أنا.

نلمس من خلال هذه الصورة البصرية زخما نفسيا اجتاح البياض، وكأن المفردة أضحت من طين تنفخ فيه من روحها فتغدو حمامة تبحث عن السلام الروحي.

وما (الجدران = سجن الواقع) سوى هذا النبض الذي سال قصائدَ احتفت بالذات الإنسانية على حافة الكون.
تقول:

تصرخ لحظة الألم
حمقاء هي الذكريات
مفعمة بلغة البلاء / الغباء
تؤثثني هذه الجنازة
الضاربة في عمق الجسد
تقطع شهيتي ليلة
الفرح
وكأس دمع يعزف سمفونية
الإخلاص المر.

فهل تُشكل هذه المرارة انهزامها أمام توترات الحياة، أم هو مجرد أكسجين جمالي تتنفس من خلاله الرئة المبدعة كي تستقبل نصالا تتكسر فوق النصال؟

تقول:

غريب هو الصدق
ملعون هو الصبر
في زمن الغدر
المقنع بالعسل
المتيم بالخطيئة.

إنها دروب تستضيء بمصباح بكاء خفي، حيث يقطع جسد الحلم المسافات ركضا، ثم يستلقي بين لثغة معانيها.

جسدي سنبلة صيف
راقصت أوتار
العشق والقدر
داعبت أغصان الهجر
ساعة الصخب الممتد فيك
إلى الأبد....

نظرة من أفق النهاية:

تعتبر الشاعرة والباحثة الباذخة العطاء فاطمة بوهراكة اسما متفردا في الساحة الثقافية، فكان ديوان (نبض) المترجم إلى ست لغات( العبرية / الفرنسية / الانجليزية، الاسبانية / التركية والكردية) ريحانة زرعتها بأنفاسها في تربة القصيدة المغربية المعاصرة.

فجاء شعرها حزينا يتشظى فيه الجسد، وتتمرد الروح على السائد لكي تقول للعالم (أنا هنا للتميز أغني.)
وهي لم تكتف بالتعبد في محراب القصيدة، بل سافرت إلى كل مكان كي تغني نشيد اختلافها، من خلال بحثها وعملها الدؤوب على توثيق القصيدة العربية في موسوعات متعددة.

* صدر ديوان (نبض) سنة 2012

مرفق النص كملحق في ملف بي دي إف


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى