الجمعة ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩
بقلم عبد الله المتقي

«أغاني تساوت» والنبش في الذاكرة المغربية

ضمن منشورات"فالية للطباعة والنشر والتوزيع"و في طبعة أنيقة مما لم تألفه مطبوعاتنا، صدر للروائي والباحث والمترجم المغربي عبدا لكريم جويطي، ترجمة لكتاب"مريريدة نايت اعتيق" أغاني تساوت"، لفرنسي"روني أولوج"، يقع في 212 صفحة، وتزين صفحاته لوحات للفنان"عبدالله لغزار"، ليندرج في إطار التنقيب والبحث في الذاكرة الشعبية، والتعريف بكنوز التراث المغربي،وخاصة قصائد الشعر الأمازيغي الشفوي، على اعتبار أن المترجم يعد من خيرة المولعين بالبحث في الذاكرة المغربية وتواريخها، ولعل كتابه الصادر مؤخرا حول تاريخ تادلة، يعضد ولعه بمسارب الذاكرة حتى لا تدخل مسارب النسيان والمحو.

وقبل أن يورطنا"جويطي" في متن"مريريدة"، سعى في المفتتح إلى كتابة تقديم وسمه ب"وادينا صغير والعالم كبير"، من خلاله تحدث عن أسباب نزول هذه الأغاني وتحولها من الشفوي إلى التدوين، إنها" الصدفة الرحيمة التي جعلت في سنة 1932 معلما فرنسيا شابا يلتقي في ماخور بمدشر أزيلال بامرأة استثمائية تلقب بمريريدة"ص"3

حيث بساطة الحياة والطبيعة في أبهى مشاهدها من قمم باسقة، وأشجار مسنة،وأودية جارية، كل هذا سيفتن روني اوجار ويتعلم الأمازيغية، ويكتمل الهيام بقصائد مريريدة وحتى لا تدخل مسارب المحو والنسيان يحولها إلى قصائد مكتوبة.

ولم يفت الأستاذ جويطي الإشارة إلى النزعة الفوقية والاستعلائية الغربية والمتمركزة حول ذاتها حيث التقابل بين ثقافة غربية عالمة عارفة، وثقافة فطرية بسيطة، وهذا من خلال إحصاء أوصاف"أولوج"لشعر مريريدة في مقدمته من قبيل:" فن خشن، بسيط، بربري، متوحش .. وأن مريريدة ومهما شمخت فهي ليست سوى سافوا أمازيغية أو أمارييليس، أي ظل ونسخة لأصل أقوى وأعظم"ص4

و يجلو لنا التقديم ثانية دحض الباحث لهذه النزعة الاستخفافية والادعاء الفج نقراذأ في ص4:" لا شك أننا ندين ل"أولوج" بمعرفة شعر"مريريدة"، غير أن شعرها يدحض ادعاءاته حول العزلة والانغلاق التام لوادي تساوت"

فهذا الكنز الشفوي الموسوم ب" مريريدة - أغني تساوت"، وهذا الاحتفاء كما قدمه"رونيه اولوج"، يورطنا إيجابيا في ذاكرتنا المغربية من خلال الاقتراب من تجربة شعرية كادت تدخل النسيان المحو"لولا المسعى الرحيم والعطوف لليد الغربية التي أخذت على عاتقها صيانتها ونشرها"ص4

وعليه، يكون هذا التدوين لهذه الذاكرة الشفوية قصائد لا يعاد إخراجها وتجربة متفردة"حين كان روجيه أولوج يدون قصائد مريريدة كان يلاحظ بأنها لا تكرر القصيدة الواحدة دون أن تغير فيها، فكل إنشاد جديد للقصيدة هو حالة فريدة لا تتكرر"ص5

من هنا، تكون"مريريد" ة قد أخذت لبه" أولوج"كما جدتها شهرزاد، ويكون هو قد استمتع هو بجسدها في الماخور:" في لقائهما الأول أخذ رونيه اولوج جسد مريريدة وأخذت هي روحه، ومثلما تمكنت شهرزاد في لياليها البيضاء من ترويض شهريار بالحكايات التي يلد بعضها البعض"ص6

ولم يفت عبدا لكريم جويطي في سياق هذه المتعة الجسدية والشعرية النبش أكثر في تفاصيل هذه الذاكرة وبوعي الحرفيين أن يتساءل عن طبيعة هذه الرابطة بين أولوج ومريريدة:" كم من مرة رأى أولوج وسمع لمريريدة طيلة السنوات التي عرفها فيها؟ وماهي شكل العلاقة التي جمعتهما؟ وكيف تأتى له هو الذي أفرط في الكتابة عن أبناء الظل"وحاول في محكياته الكثيرة جدا بأن يحيط بكل تفاصيل حياتهم، بأن يقل حد التكتم في الحديث عن علاقته بمريريدة.. فذكر ما هو أساسي فقط؟"ص7، وليستشف بعدها:" لقد انطوت علاقتهما على جرح أو جراح ما أو على الأقل على ألغاز، ومثلما هيأها القدر بكرم أنهاها أيضا بعدم اكتراث"ص7

ويأتينا التقديم بعدها بنهاية كالحداد"في سنة 1942سيصاب أولوج بالعمى وبعيد الحرب العالمية الثانية 1942سيعود للبحث عنها ولم يجد شيئا، لقد تبخرت مثلما تبخر بصره"ص7،
هذا الاختفاء سيفتح الباب للتشكيك في انوجاد"مريريدة"وأنها من صنع الخيال،"غير أن قراءة أن قراءة الديوان بتأن لا تسعف هواة إنكار كل شيء"ص8، لأن قصائده حافلة بتقاليد وطقوس وبيئة تساوت وتمثلات ساكنتها

ليخلص إلى طرح مجموعة من الأسئلة حول نقل أولوج وبأمانة أشعار"مريريدة"إلى لغته الأم؟ أم قام بخيانة مزدوجة، خيانة الترجمة وترويض هذه"القصائد المتوحشة"لتمسي أطباقا شعرية مستساغة؟

بداءة، يعترف المترجم بصعوبة الحكم نظرا لغياب النص الأصلي بقصد المقارنة"غير أنه يجب الإقرار ل"أولوج"بأنه حاول جاهدا بأن لا يترجم فقط كلمات بل يترجم على الأخص روح النص الشفوي الأمازيغي" ص8

ومتنيا، يكشف لنا"جويطي"تصوير قصائد"مريريدة"لواقع حال مغربها الذي يأكل منه المستعمر ودهاقنته، بتصويرها لعذبات العودة الخائبة للشباب من حروب لا تعنيهم، ومثلما تؤجر المرأة جسدها يؤجر الشباب عرقهم لنيران الحروب وعرق المعامل، هذا التصوير فتح شهية البعض باعتبارها شاعرة متمردة وثائرة، بيد أن"جويطي"يرى انه"ينبغي أن تقرأ – مريريدة- كما هي لا كما يراد لها أن تكون، فهي لم تسع أبدا إلى مواجهة مجتمعها بقدر ما نددت بقدرها وباللعنة أو السحر الذي سلط عليها وجعل منها امرأة لكل الرجال"ص11

وعليه، تكون أشعار تساوت كما يراها"جويطي" وكما لو تماهيا مع التشكيلية"فريدا كويلو"فكلاهما حزمة من الألم وامتلاء بالحب واستعادة للجسد الهارب منهما، وبذلك تكون منتخبات مريريدة الشعرية انغماسا في الحب والرغبات المجنونة، وغرقا في الأناشيد الملتاعة، وفي الأحزان والنكسات والتجارب المستفزة.

وفي الختام، يخلص" جويط"ي إلى أن مريرية صوت متفرد"صوت الأعالي المدوي الذي رضعته من ضفدعة البراري الخضراء الرشيقة رضعته من الطبيعة في قوتها وعنفوانها واندفاعها"
وصفوة القول، لا نملك سوى إلا أن نحيي عبدالكريم جويطي الدؤوب والمجتهد، ونستنهض عزيمته، للبحث أكثر في ذاكرتنا المغربية المؤهل لها،وهي ذاكرة تحتاج إلى مزيد من النبش لإخراج معادنها وخصوبتها،وإن رهاننا عليه كبير، ولا نعتقد أن قراءه سيخسرون الرهان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى