الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

ألفريد فرج في وداع الخيال

أحزن رحيل الكاتب المسرحي العملاق ألفريد فرج في 4 ديسمبر كل من يعرف قدره ويحترم دوره الرائد المتفرد. وكان عندي للتأسف العميق على رحيله سبب إضافي هو شعوري بأن ذلك الكاتب العملاق قد طوى صدره - منذ سنوات طويلة – على مرارة لم يعرب عنها منذ خروجه من مصر إلي الجزائر وعمله هناك من 1974 حتى 1979، ثم رحيله إلي لندن، وأخيرا عودته للقاهرة في عام 1988، لكن مع سفر مستمر إلي لندن، واحتفاظه بشقة له هناك توحي بأنه لم يعد يأتمن الزمن على شئ. ربما أصبح من الصعب الآن أن نعرف ما الذي لم يقله ألفريد فرج، ولكن أحد أصدقائه أشار في مقال إلي مزاج سوداوي استولى علي الكاتب الكبير. وكانت مقالات ألفريد فرج المنتظمة التي جامل فيها الصغار والكبار تعبيرا عن شعوره العميق بأنه لا جدوى من أي شئ، وتعبيرا عن شعوره بأن الحقيقة التي بدأ حياته بالصراع من أجلها، قد انطفأت، ولم يعد أحد بحاجة إليها، بعد أن غمرت الظلمة كل شيء. ومع رحيل ألفريد فرج، يستخلصون لنا منه فقط صورة الكاتب الكبير المطلة بحياد وهدوء على العالم، الصورة التي لا تشبه إبداع ألفريد فرج ولا حياته ولا صراعه من أجل الجمال والعدل.

يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف إن المبدع يموت نصف موت، لأن روحه الحية تظل من بعده في أعماله. لقد رحل ألفريد فرج، وترك لنا مسرحياته النادرة المثال أو ما قال عنه هو نفسه ذات مرة "الخاطرة السحرية". وقد أشار ألفريد فرج كثيرا إلي أهمية "ألف ليلة وليلة" كمرجع لفن الكتابة قبل أن يقول عنها جابريل جارثيا ماركيز إنها أهم كتاب قرأه على الإطلاق. وكانت العودة إلي التراث مفتاحا لخلق المسرح المصري عند ذلك الكاتب العظيم، قبل أن يتحدث توفيق الحكيم عن "قالبنا المسرحي" وضرورة الاتجاه إلي المسرح الشعبي وقبل أن يتحدث يوسف إدريس عن القضية ذاتها، وقبل أن يشير د. على الراعي لذلك في كتابه "الكوميديا المرتجلة".

لقد بدأ ألفريد فرج حياته الفكرية والفنية بانخراطه في صفوف اليسار المصري بحثا عن أحلام العدل والتطور، وقدم أولي مسرحياته "صيحة مصر" عام 1956، ثم مسرحية "سقوط فرعون" عام 1957، وفيهما كان يستلهم تاريخ مصر الفرعوني، ثم فتحت أبواب المعتقلات في يناير 59 لتنطبق على كبار الكتاب والمثقفين وكان من بينهم ألفريد فرج الذي كتب رائعته "حلاق بغداد" داخل المعتقل حيث جرى عرضها هناك قبل أن تعرض على المسرح القومي عام 1964. وفي "حلاق بغداد" تحول ألفريد فرج من التراث الفرعوني إلي ألف ليلة وليلة، ليصبح أحد أبرز وألمع كتاب المسرح في الستينات. في تلك الفترة كما يرى الدكتور على الراعي كانت هناك ثلاثة اتجاهات: المسرحية الاجتماعية النقدية التي وضع أساسها بقوة نعمان عاشور، ومعه سعد الدين وهبة، ولطفي الخولي، وغيرهم، ثم ما يسميه الراعي "المسرحية التراثية" التي تستفيد من التراث الشعبي والتي كتبها نجيب سرور، وشوقي عبد الحكيم، ومحمود دياب برائعته "ليالي الحصاد" وأيضا الفريد فرج بمسرحيته "الزير سالم". الاتجاه الثالث هو المسرح الشعري الذي كتب فيه عبد الرحمن الشرقاوي، ثم بلغ به صلاح عبد الصبور ذروة التطور. ورغم أن تلك الكوكبة من الكتاب قد خلقت وأنشأت المسرح المصري في الستينات بعد جيل طه حسين وتوفيق الحكيم، إلا أن ألفريد فرج شغل موقعا خاصا للغاية، باعتماده الأساسي على ذلك الطابع السحري لحكايات ألف ليلة وليلة، ثم باعتماده على لغة فصحى شفافة، لا تضع حاجزا بينها وبين المتلقي، وبينما كانت ملامح الواقعية تفوح بقوة من مسرحيات نعمان عاشور "الناس اللي تحت" و "عيلة الدوغري" وغيرها، وأيضا من مسرحيات يوسف إدريس الأولى "ملك القطن" و "جمهورية فرحات"، كان ألفريد فرج يتألق بعالم خاص، وجو سحري، في مسرحياته: "حلاق بغداد"، و "على جناح التبريزي وتابعه قفة" عام 1968، ثم روايته "أيام وليالي سندباد" عام 1987، وقبلها "بقبق الكسلان"، وبعدها مسرحية "الأميرة والصعلوك". في حينه كان الميل للاتجاه الواقعي في المسرح والقصة قويا للغاية، وسائدا تقريبا، على حين كان ألفريد فرج يتحدث – بشأن على جناح التبريزي – عن أن: "المؤثرات الفنية الواقعية لابد أن تحطم أجنحة "على جناح التبريزي وتابعه قفه" وتهوي بها من السماء إلي الأرض، وعندئذ ستتحول هذه الخاطرة السحرية التي تستمد جمالها من طابع الحواديت الشعبية إلي مجرد قصة واقعية ورخيصة". ويقول أيضا عن تلك المسرحية الرائعة: "قصدت أن أصوغ الحكايات من نغمات شعبية صافية وساذجة، بالدق على أوتار عربية خالصة، غير أني لابد هنا أن ألفت النظر إلي أن الإنسان منذ ألف عام حين صاغ حواديت ألف ليلة وليلة وقبلها، وقبل أن يتمخض ذهنه عن الأفكار الاشتراكية والعدل الاجتماعي، كان يحلم دائما في جده وهزله بالعدل المادي. إن ثنائي التبريزي وقفة حلم جميل أبهجني، وأردت أن أبهج به غيري."

وفي تلك المسرحية المدهشة والجميلة تتقدم وتصفو كل أحلام ذلك الكاتب العظيم، وتتقدم معها تصوراته الفنية والأدبية. إن التبريزي المفلس الذي فقد ثروته يعي أن لدي الإنسان سلاحا آخر، هو الخيال، وبه يمكن للإنسان أن يغير الواقع أو على الأقل أن يراه كما يشتهي، فيترك لخياله العنان ليتصور مائدة عامرة بكل صنوف الطعام، وحين يشد رحاله إلي بلاد بعيدة، فإنه يتخيل أنه أمير تتبعه قافلة محملة بكل شئ، فتنفتح أمامه أبواب المدينة، وتجري أموالها بين يديه، فيوزعها على الفقراء. وهكذا يتمكن التبريزي – بالخيال – من تغيير الواقع وإقرار العدل. ألم يقل عالم الذرة أينشتين ذات مرة إن "الخيال أهم من المعرفة أحيانا"؟. كانت منابع الخيال أهم عند ألفريد فرج من كل مظاهر الواقع الملموس، ومن هنا كانت عبقريته. لكن الحياة التي توالت فيها الهزائم على الواقع المصري والعربي، لم تترك لألفريد فرج سوى أفراح قليلة، وأمل باهت في المستقبل. وكان آخر كتبه "شارع عماد الدين" الصادر عن دار الهلال ممتلئا بالأسف على أوضاع الثقافة المصرية الراهنة، وفيه يقول: "في شارع عماد الدين أضاء المسرح بإبداع يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلى الكسار، وبموسيقى سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وتألقت فيه من النجوم منيرة المهدية والفنانة ملك، وروز اليوسف وأمينة رزق وأحمد علام وحسين رياض واستيفان روستي، إلي آخر قائمة العمالقة في دنيا الفن.. وطالما أحببت ذلك الشارع وأهله، وتمنيت له مستقبلا كماضيه الحافل.. فهل كانت مصادفة أني التقيت بنبيل الألفي وحمدي غيث أول مرة هناك، أو كانت مصادفة أني كثيرا ما التقيت بنعمان عاشور ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي وصلاح أبوسيف وعبد المنعم مدبولي في مقاهيه؟". في كتابه ذلك، كان ألفريد فرج يتأسف بمرارة على حال الثقافة، وحال مصر، ولكنه يتأسف بهدوء مثل كل الكتاب الكبار، ويحلم بأن يكون شارع عماد الدين منتزها ثقافيا يعيد للفن وجهه المتألق. وبالرغم من قامة ألفريد فرج، ودوره، ظلت دكاترة المسرح الرسمي يماطلونه مؤخرا ويرفضون عرض مسرحيته "حلاق بغداد" على المسرح القومي، حتى عرضها على مسرح السلام، بينما كانت أبواب المسرح القومي مفتوحة على مصراعيها لمختلف الأعمال التي لا طعم لها ولا لون سوى طعم الزيف وقدرة العلاقات والمصالح على فرض نفسها وتنحية الفن الحقيقي!

قبل نحو عام أو أكثر من وفاة ألفريد فرج تسنى لي أن ألتقي به، وأن أحس بمرارة لا يفصح عنها في نظراته المهذبة، مرارة كاتب كبير وعظيم، يشهد كيف تتحطم كل أحلام العدالة من حوله بحيث لم يعد في وسعه أن يبتهج بالحكايات الساحرة، ولا أن يبهج بها أحدا. لقد رحل عنا كاتب عظيم ستزداد أعماله تألقا كلما مرت عليها يد الزمن، كاتب قال ذات يوم عن نفسه "لقد حلقت أحلام المؤلف في سماوات العدل"، وهي أحلام من القوة والصدق بحيث تظل محلقة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى