الأحد ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

أيام الشقرقون

ملّ عبد الموجود تتابع أيامه على رتابتها المعهودة، كأنها قد نسخت جميعا على ورقة كربون. ودّ لو يقول متهكماً:

- إنها غدت لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، لكنه أدرك سريعا أنه يمدحها بهذا الوصف؛ فتلك صفات الماء الصالح للشرب. فهي إذاً آسنة لها لون وطعم ورائحة، وأي رائحة!

قرر هذا الصباح أن يكسر رتابة الأيام، وأن يتمرد قليلا على عادته التي أدمنها صبيحة كل يوم جمعة حتى باتت تخنقه. تلك هي جولته القصيرة في الطرقات الخاوية القريبة من مسكنه، ثم الانزواء في ركن قصي، وتصفح عناوين جريدة الصباح دون تفاصيلها، لأنه يتعمد أن يترك نظارة القراءة في المنزل، فلا يستسيغ مرافقة عاهته المستجدة حيثما سار.

إنه يتوجه بخطوات ثابتة صوب موقف الحافلات القريب عند دوّار الداخلية، كأن يداً من ورائه تدفعه دفعا. عندما أشار لأول حافلة مقبلة لم يكن قد استشرف وجهة سيرها بعد، فلم يكن يقصد وجهة بعينها. ما كان يهمه سوى الانفكاك من جو المدينة هذا الصباح والتوجه نحو الريف. أي ريف! أي قرية أو مدينة صغيرة هاجعة في سكون.

لم تكن السلط على مسيرة أكثر من نصف ساعة مع هدأة حركة السير في صبيحة يوم الجمعة.

عندما لفظته الحافلة في المحطة الأخيرة ليهبط على رصيف الشارع، ألفى نفسه وحيدا مثلما اعتاد ذلك زمنا طويلا في سِنيِّ صباه، في مدن و أرياف تبعثرت في ذاكرته تبعثر البلدان العديدة التي طوّف بها. لكنه الآن يقذف بنفسه قذفة شبابية لا قبل له بها، و هو في سن الشيخوخة.

ذرع الشارع الوحيد الطويل المتدرج صعوداً صعودا، والصباح ما زال باكرا والمدينة وسنى لم تفق بعد من إغفاءتها، وبيوتها المتشبثة بقامتي الجبلين عن يمين الشارع ويساره متسلقة صاعدة توشك أن تدرك القنة العالية لكل منهما.

اختلطت المشاهد التي يطالعها بأطياف أخر عالقة في ذاكرته، فترحم على الرحالة العرب القدماء وعلى صدق حدسهم وانطباعاتهم، عندما وصفوا السلط بأنها نابلس الصغرى، و وصفوا نابلس بأنها دمشق الصغرى، فكأن بين المدن أما وابنة وحفيدة. عاد عبد الموجود أدراجه وحيدا مطرقا يراجع شتات ذكرياته عن هذا الطريق، يحاول تجميع ما بقي عالقا بعد قرابة خمسين عاما.

على يسار الحافلة اللاهثة المتقطعة الأنفاس من هول العقبة، التي جاهدت مستميتة في صعودها أكثر من ساعة، ومن بدائية الصناعة وعِلاتها آنذاك.على كتف الجبل كانت تنتصب مدرسة السلط الثانوية، التي لم يكن يدرك يومها ما أدركه لاحقا من علو شأنٍ ورفعةِ منزلةٍ لهذه المدرسة، التي بزّت الجامعات العريقة في من خرّجت من الرواد والطلائع النابهين في كل ميدان.

إنه يتلفت الآن يمينا ويسارا ليتثبت من صحة ما تذكره. يا سبحان الله! إنه يقف الآن قبالتها تماما، يطالعها عن يمينه على نفس الكتف الذي عهده يحملها بحنو منذ قرابة خمسين عاما، ما ملّ هذا الكتف من حمله ولا اشتكى.

الفارق الوحيد أنه يراها اليوم على يمين الطريق، وهو يتذكرها على يساره. فكيف اختلطت الرؤية لديه؟ لا شك أنه لم يعد يميز جيدا أكان ذاهبا أم آيبا، عندما اختزن لها تلك الصورة في ذاكرته، فهي على يمين النازل إلى وادي شعيب، وعلى يسار الصاعد إلى السلط فعمان.
اندفعت إلى صدره ونفسه نسائم هذه الأصبوحة البديعة من منتصف نيسان، تجذبه جذبا ليمضي هابطا مع الطريق العام المُرخي زمامه نزولا مع وادي السلط، فوادي شعيب مفضيا إلى قرار الغور، تبهج ناظريه خضرة ربيع هذا العام، وتطاول أعشابه ونباتاته البرية التي تنوف على القامات طولا؛ فتكسو جانبي هذا الوادي خضرة، وتنفح أجواءه عبقا يتضوّع أنفاسا ممتزجة من أطايب شتى.

هذا الأرج الواحد، أرج وادي السلط في صبيحة يوم من أيام الربيع. إن خريرالمياه يقرع أذنيه عن قرب ولما يبصرها بعد، فالخضرة التي تغلف حتى مجرى الماء في أعمق ثنايا هذا الوادي غوراً لتضن عليه، فتغيظه بإسماعه رنين خرير المياه في أذنيه بينما تحجب عن ناظريه رؤيتها.
يواصل انحداره مع هذا الطريق الذي يلوي الوادي عنانه قسرا حيثما أراد، ملتمسا نظرة في هذا السياج النباتي المنيع، تكشف له عن صفاء هذا الوجه المائي الذي يسمع وشوشاته منذ حين ولا يكاد يسفر عن وجهه.

واتته الفرصة أخيرا، يا لروعة الماء المتسلل من تحت غطاء الحبق والنعناع البري الكثيف مجتازا مسافة صخرية تكشف سره للناظرين! وتبين صفاءه ورقته.

يَهِمُّ عبد الموجود أن يجثو على ركبتيه باسطا كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ممنيا نفسه أن يتضلع من هذا الفيض الثر، وأن يغسل يديه ووجهه ورأسه وأن يبلل ما تبقى من شعيرات بيضاء على المنحدرات الجانبية لرأسه. وكم هاله في لحظة أن تتبدد كل هذه الآمال العراض التي أمّلها في حميمية العناق مع الماء، فارتعد واقفا وقد وخز عينيه مرآى اللافتة التحذيرية:( الماء ملوث غير صالح للشرب).

ملوث؟! ما الذي لوث كل هذا الصفاء والنقاء؟ ما الذي غير الدنيا إلى تلوث في الماء وفي الهواء وفي التربة؟ في كل نسمة نتنسمها وكل ذرة نلمسها. ولماذا لم يكن نبع (الفوار) ملوثا وأنا أعب منه على مبعدة أقل من متر علوا عن المكان الذي ينهل منه حماري، أو شياه جارنا، أو بقرات حراث آيب من حراثته. المهم أن يحرص كلٌ على أن يسبق دابته ولو بخطوة واحدة ناحية منبع الماء، ما همَّه إن كانت دابة غيره قد سبقته بخطوات أقرب صوب فم النبع. ولا يجد غضاضة في ذلك، وإن تطاول شخص مُصعِّدا بدوابه نحو رأس النبع، فلن يجد ما يردعه أكثر من صوت صائح في البرية ببيت من العتابا:

 ( ما بِشرب من راس العين غير العنزه الجربانه ).

سرح بعيدا في ذاكرته إلى أيام الحصاد في السفوح النائية، في عز الظهيرة، وعندما تصبح جرعة الماء أشهى وأعز إلى نفس الحاصد من مثل وزنها ذهبا، فيسارع لاهثا إلى التجاويف والشقوق الصخرية المتوارية عن عين الشمس، والتي احتفظت ببعض مياه الشتاء الذي انقضى منذ أشهر، ولا زالت تحتفظ ببعضه عميقا في التجويف الصخري هاربة به من لذعة الشمس، ليروي غُلته منه طائر مهاجر، أو حيوان بري، أو حصّاد ظامىء في ظهيرة صيفية قائظة. إنه ليطالع صفحة الحوض تغص بالأشواك والأعشاب، وما علق بها من ديدان وأحياء دقيقة، فلا تعاف نفسه الماء ولا يتردد، إنه يجثو على ركبتيه، ويبسط كفيه متكئا عليهما، نازلا بفمه إلى صفحة الماء مبتدئا بنفخة أو نفختين عن يمين وشمال، لترسو الديدان والطحالب والعيدان على جانبي الحوض هنيهة، ريثما ينهل ويعل حتى يرتوي، ويحمد الله على هذا الشراب السائغ الذي بلل العروق وأذهب الظمأ. وربما تذكر بئر الماء الذي كان يملؤه أهله بمياه الأمطار المتدفقة سيولا في طرقات القرية الطينية. يختارون هدأة الليل بعد صلاة العشاء، وانحسار حركة عابري السبيل والمواشي، ليصفوَ هذا السيل الطيني قليلا، ويخف امتزاجه بآثار أقدام العابرين وقوائم البهائم، فيحوِّلون مجرى هذا السيل عن طريقه المعتاد صوب بئر الجمع الذي نضب، فإن لم تُخيِّب الليلة ظنهم، واستمرت على شدة عزمها من المطر والبرَد، وإن كان الثلج فذلك خير عميم، وماء أكثر نقاء، فما يصبح الصبح إلا والبئر قد طفّ بابها وعبَّ عبابها، ما لم يكتشفوا صبيحة اليوم التالي أن جارا آخر قد أحاط بتدبيرهم المُحكم، بأن قطع الطريق على سيل الماء نحو بئره قبلهم بخطوات قليلة بعد عودتهم مطمئنين مؤملين خيرا.

إن حدث ذلك فليس أمامهم سوى اقتناص ليلة شتائية قادمة، وربما سهروا الليل كله ذهابا و إيابا متفقدين استمرار تدفق الماء، حتى لا يقطعه أحدهم؛ فيضيع عليهم موسم ملء البئر.
يتذكر عبد الموجود أنه عند انقضاء فصل الشتاء، وبدء استخدام المخزون الاستراتيجي من المياه التي جمعها البئر، كان الدلو الواحد منها يغص بعشرات من الديدان الحمراء الدقيقة وقد تراقصت ذنباتها، وما كان لها عندهم سوى علاج أوحد ناجع، صفيحة من الكاز ندلقها دلقا من فم البئر الواسعة، فتكون غطاء نفطيا على وجه الماء كأنه يخنق كافة الأحياء المائية، فنستريح من أذى ( البُلعُط) الأحمر، وإن كان طعم الكاز لا يفارقنا شربة ماء، حتى نضوب البئر أواخر الخريف وبداية موسم الأمطار الجديد. لكنها مع ذلك لم توصف لنا يوما بأنها ملوثة، ولم يحذرنا أحد بأنها غير صالحة للشرب، وشربنا منها ما شاء الله لنا أن نشرب، وها نحن قد شخنا وما لقينا على امتداد حياتنا لتلك الشربات سوء عاقبة.

طرد عبد الموجود من خاطره رؤاه المائية، ومقارناته بين مياه الأمس ومياه اليوم، و واصل سيره هابطا صارفا نظره إلى جهة غير جهة الماء، متأملا في الدنيا وتغير أحوالها. ولبث على ذلك حينا حتى استوقفته رغما عنه رائحة مميزة تشده نحوها شدا، إنه لم يتبين نباتها بعد، لكن الرائحة نفاذة تسرع في تغلغلها إلى أعماق رئتيه، فتوقظ طيفا كان نائما هناك منذ أيام طفولته الأولى، إنه لم يشم هذه الرائحة منذ ما يزيد على خمسين عاما. كيف تنبعث الأشياء الهامدة هكذا في طرفة عين؟! إن ما يشمه الآن يذكره بالحالة التي اعترته عندما تذوق (الطرشي) ببغداد بعد غيابه عنها قرابة ثلاثين سنة، وقتها توقف عن تناول الطعام وظل للحظات مشدوها بهذا المذاق الغريب، حتى تدارك أمره وأيقن أنه يعود ثانية لطعم اعتاده هناك قديما أيام دراسته الجامعية، ووقر في ذاكرته، وما تكرر مذاقه ثانية على لسانه في كل أنحاء الدنيا التي جابها طوال ثلاثين عاما بعد ذلك. لقد استيقظ ذلك الطعم النائم في اللاشعور عندما تذوق أول ماعون (طرشي) في الكاظمية. إنه الآن يحس بذلك الشعور، لكنه إحساس بالشم هذه المرة وليس بالذوق.اتجه صوب الرائحة التي تشده نحوها شدا دون وعي منه، حتى وجد نفسه وسط نباتات تفوقه طولا، وقد علت أفرعها وفسائلها المتشعبة شماريخ بيضاء تملأ الجو بالرائحة النفاذة التي ملأت أنفاسه، فوقف وسطها مذهولا عما حوله، وانطلقت من بين شفتيه الكلمة التي نسيها دهرا بطوله فما شَمّ يوما رائحتها، ولا انزلقت على لسانه ولو سهوا أو مزاحا، وما ظن أن أحدا خارج قريتهم يسميها بالاسم نفسه. ما تمالك نفسه عندما صاح:

 (الشقرقون)؟! يا لله! يا جُنينة القبور! تلك الناحية من قريتنا التي كان الطريق عندها يضيق فلا يزيد على موطىء القدمين عرضا بينما تتعانق على جانبيه شجيرات الشقرقون ليختفي المار بينها عن عيون الناظرين، تملأ صدره برائحتها التي أضعتها دهرا، ولقيتها الآن بعد خمسين عاما.

إنه يتذكر عبارة الكبار التي كانت تتلقفها أذنه خطفا أحيانا: (سقى الله أيام الشقرقون) دون أن يدرك ما تتضمنه من غمز ولمز، فليس من عادة أهل الريف أن يطلقوا الكلام على عواهنه.
تسمر في مكانه بين شجيرات الشقرقون ما شاء الله له ان يقف، حتى غمرته رائحتها، وهي ليست بالرائحة العطرة الجذابة، لكنها مميزة وفريدة من نوعها. تذكر أن غيبته قد طالت، وأن الظهيرة قد اقتربت وآن له أن يعود، فربما يكون قد شغل أهل بيته بغيابه الذي طال ولم يخبرهم به مسبقا، فقد كانوا نياما عند خروجه في الصباح الباكر.

كانت طريق العودة طويلة جدا، فقد أنساه اندماجه بالماء والنبات والطير طولها، ولم يجد أمامه بد سوى الإشارة لأول حافلة عائدة إلى السلط أو إلى عمان، وسريعا ما وصلت. لم يشغله أثناء رحلة العودة سوى مداراة أسباب غيبته وتبريرها.

ماذا سيقول لأهل بيته؟ أيقص عليهم قصة لقائه بالشقرقون؟ أيقول لهم:

- سقى الله أيام الشقرقون، وهو لايزال يجهل على كبره ما جهله في صغره من أسباب الترحم على أيامه. فربما استعجلوه في الإيضاح قائلين:

 ولماذا لم تلح عليه في الحضور لتناول الغداء؟ مادامت صحبتك معه قديمة إلى هذا الحد؟
لم يتقن عبد الموجود حبك خيوط القصة التي سيتذرع بها لأهل بيته تبريرا لغيابه الطويل، وأغلب الظن أن أمره سينكشف وسيسخرون من جولته الريفية تلك.

وصل بيته أخيرا، فتح الباب وألقى التحية على الحاضرين، وجلس متحفزا متهيئا للرد على الأسئلة التي ستحاصره من كل صوب مستنكرة طول غيابه، وتركهم ينشغلون عليه كل هذه المدة الطويلة.

كان المسلسل الذي يعرضه التلفاز مشوقا، واصلت العيون تسمرها على الشاشة، وتعلقت القلوب بالأحداث المتتابعة، ما أنقذ عبد الموجود من ورطته التي هيأ لها نفسه، إلا أن أحدا لم يسأله أين ذهب ولا من أين أتـى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى