الخميس ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم صبحي غندور

أين نحن من الوطنية والعروبة والدين؟

ثلاثية متلازمة تقوم عليها الحياة العربية لأكثر من قرن من الزمن، هي ثلاثية "الوطنية والعروبة والدين". فمنذ مطلع القرن الماضي، وعقب سقوط الدولة العثمانية، رسم البريطانيون والفرنسيون خريطة جديدة للمنطقة العربية قامت في محصلتها دول وحكومات، ثم تبلور هذا الواقع مع النصف الثاني من القرن العشرين بصورة أوطان لها خصوصياتها الكاملة يعيش العرب فيها وينتمون إليها كهوية قانونية.

لم يكن القصد البريطاني والفرنسي من رسم الحدود بين أجزاء الأرض العربية مجرّد توزيع غنائم بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين آنذاك، بدلالة أنّ البلدان العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ منهما تعرّضت هي نفسها للتجزئة، لكن كان الهدف الأول من ذلك هو إحلال هويات وطنية محلية بديلاً عن الهوية العربية المشتركة، وإضعافاً لكل جزء بالانقسام عن الجزء العربي الآخر.

ورافقت هذه الحقبة الزمنية من النصف الأول من القرن العشرين، محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية والسعي لزرع التناقضات بين الهويات الوطنية المستحدثة وبين الهويات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة والإسلام في أطر الصراعات الفكرية والسياسية.

ثمّ تميّزت الحقبة الزمنية اللاحقة، أي النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية تغذّي أحياناً المفاهيم الخاطئة عن الوطنية والعروبة والإسلام، أو لا تجد في فكرها الآحادي الجانب أيَ متّسع للهويات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. ففي هذه الأمّة الآن مزيج مركّب من هويات قانونية (الوطنية) وثقافية (العروبة) وحضارية (الإسلام). وهذا واقع حال ملزم لكل أبناء البلدان العربية حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويات أو بعضها.

ربما العرب اليوم هم أحوج ما يكونون لاستيعاب هذا المزيج من ثلاثية الهوية. فالبلدان العربية تعيش جميعها الآن مخاطر التهديد لوحدتها الوطنية كمحصّلة للمفاهيم والممارسات الخاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من البلدان العربية وما يزال من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية وارتباط مؤسساتها بحزب أو بعائلة ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

أيضاً، اعتقد بعض العرب، خاصّةً ممّن هم في مواقع الحكم، أنّ إضعاف الهوية الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، لكن كان ذلك كمن أراد إضعاف التيارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه، عوضاً عن الطرح السليم للعروبة والدين، وبإفساح المجال أيضاً لحرّية التعبير السياسي والفكري لكلّ التيّارات.

وهاهي المنطقة العربية الآن تعيش أخطر التحديات على بلدانها وأرضها وثرواتها ووحدة مجتمعاتها، دون أي سياج فكري يحصّن الأوطان أو يساهم في دفع الأوضاع نحو مستقبل أفضل.

حتى الأطر السياسية لحركات المقاومة القائمة الآن في المنطقة العربية هي أطر محكومة بمواصفات فئوية مهما كانت قيمة أعمالها وشمولية إنجازاتها.

وهذه الأطر السياسية الحاملة لمشعل المقاومة ضدّ الاحتلال هي قائمة في ظلّ بيئات موبوءة بأوضاع طائفية ومذهبية تحاصر الإنجازات وتشوه أحياناً صورة العمل المقاوم نفسه.

إنّ البلدان العربية هي الآن على مفترق طرق بين واقع الانقسام أفقياً على مستوى الحكومات، وعامودياً على مستوى الشعوب، وبين أمل البناء السليم للأوطان وللعلاقات الإيجابية بين دول وشعوب الأمَّة الواحدة.

لكن الخيار في اتجاه الطريق لا يتوقف فقط على وجود الرغبة بل على مدى القدرة، ولن يحصل القرار الصحيح بمجرّد الإعلان عنه بل بالعمل الجاد والفاعل لتحقيقه. وهذا الأمر هو مسؤولية عربية مشتركة تشمل الحكومات والشعوب وكل مواقع الفكر والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.

إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكل من "ثلاثيات الهوية" في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) يتطلّب نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود بين الدول العربية.
إنّ معظم البلدان العربية تعيش الآن أزمة في الحاضر وخوفاً من المستقبل، وفي ظلّ عالم محكوم اليوم بهواجس الخوف من الآخر، وبنهج التطرّف في الأساليب والسياسات..

ولا أعلم أيّ وصف ينطبق على واقع الحال الراهن في المنطقة العربية؟ أهو انقسام.. عجز.. جمود.. أم تخاذل؟

ربّما يصحّ كلٌّ من هذه الأوصاف، إلا أنّ أكثرها تعبيراً عن واقع حال أمّة العرب هو أنَّها أمَّة مستباحة.

فما يحدث في قلبها وعلى أطرافها هو حالة الاستباحة بكلّ معانيها وصورها. ولئن تواصل إسرائيل قتل المدنيين في غزة (بعد عدوانها الغاشم على لبنان)، ولا يتحرَّك العالم ولا تختلّ الحسابات السياسية في المنطقة، لهو دلالة على استباحة إسرائيل المستمرّة لأرض فلسطين ولشعب فلسطين..

وأيّ منطقٍ هذا الذي يعطي واشنطن حقّ إرسال مئات الألوف من الجنود الأمريكيين لتغيير نظامٍ في العراق منعت واشنطن نفسها من سقوطه بالإرادة الشعبية العراقية عقب حرب الخليج عام 1991، ولا يُعطي الفلسطينيين واللبنانيين الحقَّ بالمقاومة من أجل تحرير أرضهم المحتلة؟

تُرى، لو لم تستبِح جيوش دول عربية سلطات أوطانها أولاً ثمَّ حقوق دولٍ عربيةٍ أخرى، ولو لم تستبِح حكومات عربية حقوق مواطنيها، هل كان للأمَّة العربية أن تصل إلى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟

أمَّة العرب تعاني الآن من ضعفٍ وعطبٍِ في الداخل، ومن جبروت الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب سيهدد هذه الأمَّة بالتحوَّل إلى أمَّةٍ مستباحة أرضاً ومتصارعة شعباً، حتى إشعار آخر!

إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم الّتي تغذّي الصّراعات والانقسامات.

إن الدين يدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. إن العروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. إن الوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين نحن من ذلك كلّه؟

إنّ ضّعف الولاء الوطني يصحَّح من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد.

كذلك هو الأمر بالنسبة للهوية العربية حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيئة جرت من قبل حكومات أو منظمات أساءت للعروبة أولاً وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هوية ثقافية جامعة تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.

أيضاً، إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأي صراع طائفي أو مذهبي يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة، لكن يحقق غايات الطامحين للسيطرة على الأرض العربية.!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى