الاثنين ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم سلوى أبو مدين

اذكريني

ذاتَ مساءٍ صيفي حار اقترحت أمي أن تصحبني إلى نزهة متواضعة للترويح عن نفسي، فنحن قلما نبرح المنزل، خصوصاً وأنا أنسى نفسي بين أمواج الحروف والكتابة وغابات الورق.

سارت بنا السيارة وسط زمجرة أبواق العربات المسرعة وطرق مضاءة بألوانِ قوس قزح.

توقفت بنا العربة حيثُ مقهى أكثر من متواضعٍ، كان عند مدخله رجلاً يجلس وحيداً على كرسي معدني ممسكاً بيده فنجان القهوة المرّة وفي اليد الأخرى النارجيلة ويبتسم بحنانٍ صافٍ. خِلتُه حقيقياً لكنه كان رجلاً من شمع. صعدنا السلالم العالية التي قادتنا إلى طاولة صغيرة، وكراسي ضيقة، وأماكن بعددِ الأسماء.

في ذاكَ الفراغ الشاسع وتلك الهاوية جلسنا قبالة صخرة كبيرة شامخة خُط فوقها بلونٍ أسود عبارة (اذكريني دائماً).

وتحتَ الصخرة كتب حرفان باللغة الإنجليزية .

جلستُ مأخوذة بذاك الحبر الذي خط به فوق الجبل ثم سألت النادل الذي قدّم لنا المرطبات ، فألقى تنهيدة طويلة وهو يمسح جبينه الذي لمع من شدة الحر وقال بصوتٍ خفيض: هذه قصة لفتى يدعى محي الدين أحب فتاة اسمها أميمة لكن أسرة الفتاة أكرهوها بالزواج من رجل آخر، وحينَ سمع الفتى بذلك، انزوت روحه في ركن مظلم تسلق الجبل وخط حروف ورحل بصمتٍ أبيض.

صمت برهة ثم أردف وكأنه يستجمع شتاته، حينَ سمعت محبوبته بالخبر فعلت الأمر مثلهُ، فخطت عبارة مماثلة في الصخرة من الجهة الأخرى (لن أنساك).

سألتُ النادل بأسى: منذ متى هذه الحادثة؟ أجاب ما يقارب الخمس وعشرين عاماً.

كانت علامات التعجب والدهشة واضحة على وجوهنا (أنا - وأمي) عم الوجوم لحظات وأنا بينَ مدٍ وجزر وأنفاس تضيق وتتسع.

قصة هذا العاشق جعلتني أبحر بمركبٍ ورقي غطاه اليم بقصص العشق القديمة كقيس وليلى روميو وجوليت وعنتر وعبلة، رحل ولم يترك سوى حروف باهتة وحكاية ذرفها المطر بدموعه السوداء.

مدة وأنا أتأمل تلك الصخرة السامقة التي حملت مأساة لأرواح شفيفة حفرت على جذع شجرة وأغصانها سكبا على ثوب الليل دموعهما فتلألأت السماء نجوماً.

وتحتَ مظلّة العتمة والدهشة سألتُ النادل الثاني الذي مر أمامي مستفسرة عن الدراجة النارية التي ربضت بثقة عند بداية الجبل بهيئتها القديمة المًغبرّة فقال: قصة مغايرة عن الأولى: وإن - الدراجة - تخص الفتى.

وما زال جبل الربوة الشامخ يروي لمرتادي المقهى حكاية محي الدين وأميمة من شوارع دمشق العتيقة ومن حاراتها التي اعتادت على معانقة الياسمين والنوم على ضوء قمر جميل، ودمعة على هدب الشتاء.

ما من مدينةٍ قادرة على احتواء حبهم سافروا بلا أوراقٍ أو حقائب من الحلمِ إلى العتمة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى