الاثنين ٣ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

الأدب المغربي الفرنكفوني

من بين أهم الأشياء التي يمكن أن تثير فضولنا المعرفي، العلاقة التي ينسجها، من خلال الإبداع، الأدب بوقائعَ تاريخية واجتماعية. وهي رحلة نحو تمثيل الحياة بكل واقعية، بل نسخها ونحتها في قالب أدبي و تخييلي مميز. في رحلة الأدب الواقعي لابد أن نصادف، ونحن في الطريق، نتفا تاريخية تجعلنا ننصت، بل نرهف الإنصات إلى همسات منسية من سير أسمعت من به صمم. وبهذا، لا يجرنا الحديث، أبدا، إلى أمهات السير ذاتية العربية، التي شقت الأرض وغيَََمت السماء (الأيام، الخبز الحافي، زمن الأخطاء، في الطفولة...)، وإنما سيكون الكلام مقتصرا على روايتين كتبتا بلغة موليير؛ فأصبحتا مزارا لكل المتيمين بالأدب المغربي ـ الفرنكفوني.

إن"صندوق العجائب"لأحمد الصفريوي، و"الماضي البسيط"لإدريس الشرايبي اعتبرتا من بين الإبداعات المؤسسة للأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، ولأنه التأسيس، لابد أن يتفردا في بنائهما الأدبي، وأن تكون لهما نقط مشركة ذات منحى واقعي وتاريخي بالأساس، ومن هذه الزاوية يصبح التاريخُ معطفا أنيقا تتدثر به السيرة الذاتية.

فالحياة التقليدانية التي عاشها المغرب، إبان فرض الحماية للسلطات الفرنسية، كانت مشتلا حيا لهاتين الروايتين. واستطاعتا أن تعبُرا مسافة زمنية دامت زهاء سبعة عقود من الحضور و التألق و التشكل المستمر.

ففي "صندوق العجائب"نحتفي بالبدايات، فالسيرة الذاتية، هنا، تركب ذاكرة مغلفة من شمع، قابلة للذوبان في أية لحظة. ومن حيث إنها ـ أي الذاكرة ـ قطعت امتداداتها المعرفية والإثنوغرافية مع الشرق الحالم والمبدع والمهيمن نصيا، وتخيليا سارعت بفضل ذلك إلى إنشاء عوالمها الخاصة المتميزة والحرص على الخصوصية الثقافية، ممتدة كسرب حمام على طول سيرة أحمد الصفريوي الذاتية. ومن ثم جعلت من الحنين و العودة إلى البساطة في كل شيء، التيمة التي تهز أركان هذا النص الأدبي الباذخ.

فعبر "المتريركية ـ الأم"، التي لزمت المجتمع المغربي قبيل الاستقلال، استطاعت المرأة أن تدخل عالم التدبير الممنهج، والسيادة المطلقة على البيت و الأسرة وامتداداتها. ولازالت هذه الظاهرة الاجتماعية محافظة على وجودها وكيانها في المجتمع المغربي إلى الآن، خصوصا في مناطق متفرقة من الشمال المغربي. وتبدو أن"المتريركية"في النص تتلون بعدة ألوان ؛ فالمحافظة على التماسك الأسري، عند المرأة المغربية، هَمٌّ ثقيل ينكشف عبر التدبير الجيد، بما هو مظهر أساسي من مظاهر هذه اللحمة المجتمعية عند الأم. يقول أحمد الصفريوي في النص :"طلبت منها الجارة رحمة أن تستعلمها عن أثمان الأقمشة في السوق، خاصة عن ثوب الشاش المسمى"بقدونس"وعن الثوب الحريري المسمى"باقة السلطان"، الذي كان على رأس قائمة الموضة آنذاك". كما أن سعيها الخبيب نحو استقرار الأسرة، والمحافظة على ثوابتها الأساسية، يدفعها إلى تعقب أثر الزوج ومعرفة مصيره إبان غيابه، ولو على حساب قناعات ومبادئ ؛ كالتردد على العرافات وقارئات الحظ. وهي صورة أخرى تعكس، بقوة، مركزية الأب في العلاقات الاجتماعية للأسرة المغربية.

انكشفت، مع أحمد الصفريوي في"صندوق العجائب، عوالمُ النساء الداخلية في الأسرة المغربية. من خلال حواراتهن، التي كانت تسيج هذا النص الأدبي المفعم بالحيوية، حول مشاغل الدنيا والآخرة والصحة والمال والعلاقة، التي تربطهن بأزواجهن. فلولا حكي الصفريوي، وهو لازال صغير السن، في عشرينيات القرن الماضي، لظلت حياة المرأة، في المدينة القديمة بفاس، لغزا محيرا. على اعتبار الطابع المحافظ، والمهيمن في الآن ذاته على العلاقات بين النساء والرجال في المجتمع المغربي إبان فرض الحماية الفرنسية. ومن ثمَّ جاء تصوير الخصوصية المتفردة في الموروث الشفهي، التي تتمتع بها النساءُ في"صندوق العجائب"، انطلاقا من الأم لالة زبيدة مرورا بلالة عائشة والجارات الأخريات رحمة وكنزة. والمتمثل أساسا في تسلط الذكورة و عادات وتقاليد الأسلاف، فضلا عن انكسار الأحلام و خيبات الأمل في العيش جراء غياب الرجل، الذي يتحمل عبء الأسرة.

أما إدريس الشرايبي، في "الماضي البسيط"، كان رمزا للثورة على الموروث القديم، والانتصار اللامشروط للحداثة ؛ فكرا وإبداعا وسلوكا. وإذا كان واقع الأحداث في"الماضي البسيط "مطواعا و لينا في يد التسلط الأبوي، باسم الدين والتقاليد، فإن الخطاب الروائي عند إدريس الشرايبي يركب صهوة الثورة على هذا الجمود والتحجر، بهدف الانفتاح على ثقافة الآخر، وركب الحداثة والتحديث الليبرالي والعقلاني. تحكي الرواية عن إدريس فردي، الشخصية التي اختارت طريق الثورة على تسلط سي السيد، باعتبار هذا الأخير، القوة التي ينتكس عندها مشروع التحديث، فضلا عن استعذابه ـ أي الأب ـ التعذيب و الإهانة. وبهذا، فالرواية تفضح الأقنعة التي يتستر وراءها الأب المتسلط، بما هو السبب المباشر في الخلل الموجود في بناء الفرد داخل المجتمع والكابح للطاقات الخلاقة، التي تطمح إلى الحرية والانعتاق من أغلال ثقافة الوصاية المفروضة على كل مداخل ومخارج البيت.

فأيا كانت الدوافع التي تؤطر "الماضي البسيط"فإن خطابها يلج عالم التأويل من أوسع أبوابه، مادام النص نصَا تأسيسيا. وعلى اعتبار، أيضا، أن الرواية طبعت في فرنسا، فضلا عن مرحلة فرض الحماية، التي تطبقها السلطات الاستعمارية على المغرب. فمن بين أهم الزوايا التي يـُنظر بها إلى"الماضي البسيط"، هي أن شخصية إدريس فردي تعيش تحت رحمة استعمارين، استعمار الأب البيولوجي، موروث التخلف والقمع والاستبداد من جهة، واستعمار ثان سياسي تنتهجه القوة الامبريالية الفرنسية، ومن يدور في فلكها. هكذا نجد أن تلقي رواية"الماضي البسيط"لم يخرج عن إطار ما رسمه الكاتب إدريس الشرايبي من إيحاءات ورموز، ترمز إلى أن التخلف، في العالم العربي، ممهد أسنى للاستعمار.

وبهذا فإن هذين النصين التأسيسيين "صندوق العجائب" لأحمد الصفريوي، و "الماضي البسيط لإدريس الشرايبي كانا، ولا يزالا تحفا فنية، اعتمدا على أسلوب التشظي السردي و الإيقاعي في انحدار سريع إلى ما هو شعري. هذا التداخل السريع في الأزمنة والأمكنة، وخصوصا عند الشرايبي، نعته بعض النقاد ب"فوكنر المغربي"، حيث استلهم من المدرسة الأمريكية، التقاطع و التنافر في كل مكونات عمله الروائي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى