الاثنين ٢٢ شباط (فبراير) ٢٠١٠
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

الأعمال عرض لا يوزن

في كتابه «معارج القدس في معرفة النفس» يتساءل شيخنا حجة الإسلام الامام الغزالي عن «التأويل» فيقول: -

.. نعم، بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر، والخائضون فيه- أي في التأويل- تحزبوا إلى مفرطٍ بتجريد النظر إلى المنـقول، وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسطٍ طمع في الجمع والتلفيق.

والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلاً، والمنقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل المنقول أصلاً، والمعقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل كل واحـد أصلاً ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما فهم إذن خمس فرق..

الفرقة الأولى: هم الذين جردوا النظر إلى المنقول، وهم الواقفون على المنزل الأول من منازل الطريق، القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع، فهؤلاء صدّقوا بما جاء به النقل تفصيلاً وتأصيلاً، وإذا شُوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكُلِـفوا تأويلاً امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كل شيء. فإذا قيل لهم مثلاً: كيف يرى شخص الشيطان في حالة واحدة في مكانين، وعلى صورتين مختلفتين؟ قالوا: إن ذلك ليس عجباً في قدرة الله، فإن الله قادر على كل شيء. وربما لم يتحاشوا أن يقولوا: إن كون الشخص الواحد في مكانين في حالة واحدة مقدور لله تعالى.

 الفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم، وجردوا النظر إلى المعقول، ولم يكترثوا بالنقل، فإن سمعوا ما يخالف عقولهم زعموا أن ذلك صـوَّره الأنبياء، وأنه يجب عليهم النزول إلى حـد العوام، وربما يحتاج أن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه. فكل ما لم يوافق عقولهم حملوه على هذا المحمل. فهؤلاء غلوا في المعقول حتى كفروا، إذ نسبوا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- إلى الكذب لأجل المصلحة. 

ولا خلاف بين الأمة أن من جوَّز ذلك على الأنبياء- صلوات الله عليهم- يجب حـز رقبته، وأما الأولون فإنهم قصروا طلباً للسلامة من خطر التأويل والبحث، فنزلوا بساحة الجهل، واطمأنوا بها. إلا أن حال هؤلاء أقرب من حال أولئك، فإن تخلص هؤلاء عن المضايق بقولهم: إن الله على كل شيء قدير، ونحن لا نقف على كنه عجائب أمر الله. ومخلص أولئك بأن قالوا: إن النبي إنما ذكر ما ذكره على خلاف ما علمه، للمصلحة، ولا يخفى ما بين المخلصين من الفرق في الخطر والسلامة.

 الفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلاً فطال بحثهم عنه، وضعف عنايتهم بالمنقول، فلم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة المتصادمة في باديء الرأي، وأول الفكر المخالفة للمعقول، فلم يقعوا في غمرة الإشكال، لكن ما سمعوه من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه، وأنكروه، وكذبوا راويه، إلا ما يتواتر عندهم كالقرآن، أو ما قرُب تأويله من ألفاظ الأحاديث، وما شقّ عليهم تأويله جحدوه حذراً من الإبعاد في التأويل. فرأوا التوقف عن القبول أولى من الإبعاد في التأويل. ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا.

الفرقة الرابعـة: جعلوا المنقول أصلاً وطالت ممارستهم له فاجتمع عندهم الظواهر الكثيرة، وتطرفوا من المعقول ولم يغوصوا فيه، فظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات. ولكن لما لم يكثر خوضهم في المعقول، ولم يغوصوا فيه، لم يتبين عندهم المحالات العقلية، لأن المحالات بعضها يُدرك بدقيق النظر وطويله الذي ينبني على مقدمات كثيرة متوالية ثم انضاف إليه أمر آخر، وهو أن كل ما لم يُعلم استحالته حكموا بإمكانه. ولم يعلموا أن الأقسام ثلاثة:

قسم عُلِم استحالته بالدليل، وعلم علم إمكانه بالدليل، وقسم لم يُعلم استحالته ولا إمكانه. وهذا القسم الثالث جرت عادتهم بالحكم بإمكانه إذ لم يظهر لهم استحالته. وهذا خطأ كمن يحكم باستحالته إذا لم يظهر إمكانه. بل من الأقسام ما لم يُعلم إمكانه ولا استحالته. إما لأنه موقف العقل وليس في القوة البشرية الإحاطة به، وإما لقصور هذا الناظر خاصة وعدم عثوره على دليله بنفسه وفقده لمن ينبهه عليه.

ومثال الأول: من حس البصر قصور الحس البصري عن أن يعرف عدد الكواكب أنه زوج أو فرد، وأن يدرك عِظَم الكواكب مع بعدها على ما هي عليه.

ومثال الثاني: وهو القصور الخاص، قصور حس بعض الناس عن أن يدرك منازل القمر، وظهور أربع عشرة منها في كل حال، وخفاء أربع عشرة مقابل درج المنازل في الغروب والشروق، وغير ذلك مما وقف عليه بعض الناس بحس البصر دون بعض. كذلك يتطرق إلى إدراك العقل مثل هذا النوع من التفاوت.

وهؤلاء لما قلَّ خوضهم في المعقولات لم يكثر عندهم المحالات فكفوا مؤنة عظيمة في أكثر التأويلات إذ لم ينتبهوا للحاجة إلى التأويل، كالذي لم يظهر له أن كون الله بجهة محال إذ استغنى عن تأويل الفوق والاستواء وكل ما يشير إلى الجهة.

 والفرقة الخامسة: هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلاً مهماً، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقاً، ومن كذّب العقل فقد كذّب الشرع، إذ بالعقل عُرِف صدق الشرع. ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب. وكيف يُكذَّبُ العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل.

وهؤلاء هم الفرقة المحقة، وقد نهجوا منهجاً قويماً. إلا أنهم ارتقوا مرتقىً صعباً، وطلبوا مطلباً عظيماً، وسلكوا سبيلاً شاقاً، فلقد تشوقوا إلى مطمعٍ ما أعصاه، وانتهجوا مسلكاً ما أوعره، ولعمري أن ذلك سهل يسير في بعض الأمور، ولكن شاقٌ وعسير في الأكثر.

نعم، من طالت ممارسته للعلوم، وكثُر خوضه فيها، يقدر على التلفيق بين المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة، ويبقى لا محالة عليه موضعان: موضع يُضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها، وموضع آخر لا يتبين له فيه وجه التأويل أصلاً فيكون ذلك مشكلاً عليه من جنس الحروف المذكورة في أول السور إذا لم يصح فيها معنى بالنقل ومن ظن انه سَـلِمَ عن هذين الأمرين فهو إما لقصوره في المعقول وتباعده عن معرفة المحالات النظرية فيرى ما لا يعرف استحالته ممكناً. وإما لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع له من مفرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول. فالذي أوصيه به ثلاثة أمور:

أحدها: أن لا يطمع في الاطلاع على جميع ذلك وإلى هذا الغرض كنت أسوق الكلام. فإن ذلك في غير مطمع وليتل قوله تعالى: «وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً».

ولا ينبغي أن يستبعد استتار بعض هذه الأمور على أكابر العلماء فضلاً عن المتوسطين. وليعلم أن العالِم الذي يدعي الاطلاع على مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره.

الوصية الثانية: أن لا يكذب برهان العقل أصلاً. فإن العقل لا يكذب، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع. فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب. والشرع شاهد بالتفاصيل. والعقل مزكى الشرع.

وإذا لم يكن بد من تصديق العقل لم يمكنك أن تتمارى في نفي الجهة عن الله، ونفي الصـورة، وإذا قيل لك: (إنّ الأعمال توزن) علمت أن الأعمال عرضٌ لا يوزن، فلا بد من تأويل، وإذا سمعت: (أن الموت يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح) علمت أنه مـؤول، إذ الموت عرض لا يؤتى به، إذ الإتيان إنتقال ولا يجوز على العرض ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح، إذ الأعراض لا تنقلب أجساماً ولا يذبح الموت. إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ما له رقبة ولا بدن فإنه عرض أو عدم، عرض عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذاً لا بد من التأويل!!

الوصية الثالثة: أن يكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات فإن الحكم على مراد الله سبحانه، ومراد رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالظن والتخمين خطر، فإنما تعلم مراد المتكلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر فمن أين تعلم مراده إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات ويبطل الجميع إلا واحداً فيتعين الواحد بالبرهان.

ولكن وجوه الاحتمالات في كلام العرب، وطرق التوسع فيها كثيرة، فمتى ينحصر ذلك؟ فالتوقف في التأويل أسلم. مثاله: إذا بان لك أن الأعمال لا توزن، وورد الحديث بوزن الأعمال، ومعك لفظ الوزن، ولفظ العمل، وأمكن أن المجاز لفظ العمل، وقد كنى به عن صحيفة العمل التي هي محله حتى توزن صحائف الأعمال، واحتمل أن يكون المجاز هو لفظ الوزن، وقد كنى به عن ثمرته، وهو تعريف مقدار العمل إذ هو فائدة الوزن، والوزن الكيل أحد طرق التعريف. فحكمك الآن بأن المؤول لفظ العمل دون الوزن، أو الوزن دون العمل من غير استرواح فيه إلى عقل أو نقل- حديث البطاقة يعين وزن صحف الأعمال- حكم على الله وعلى مراده بالتخمين.

والتخمين والظن جهل، وقد رخص فيه لضرورة العبادات والأعمال والتعبدات التي تدرك بالاجتهاد. وما لا يرتبط به عمل إنما هو من قبيل العلوم المجردة والاعتقادات، فمن أين يتجاسر فيها على الحكم بالظن؟ وأكثر ما قيل في التأويلات ظنون وتخمينات، والعاقل فيه بين أن يحكم بالظن، وبين أن يقول: أعلم أن ظاهره غير مراد فلا أدري ولا حاجة إلى أن أدري. إذ لا يتعلق به عمل ولا سبيل فيه إلى حقيقة الكشف واليقين. ولست أرى أن أحكم بالتخمين وهذا أصوب وأسلم عند كل عاقل، وأقرب إلى الأمن في القيامة إذ لا يبعد أن يسأل في القيامة ويطالب ويقال: حكمت علينا بالظن، ولا يقال له لِمَ لَمْ تستنبط مرادنا الخفي الغامض الذي لم يؤمر فيه بعمل؟ وليس عليك فيه من الاعتقاد إلا الإيمان المطلق، والتصديق المجمل. وهو أن يقول: «آمنّا به كل من عند ربنا».

فهذه المطالبة في القيامة بعيدة وإن كانت فالجواب عنها أسهل ولأجله قال الإمام مالك- رضيّ الله عنه- لما سُئل عن الاستواء: «الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».

وبهذه الوصايا يستبين عذري في كراهيتي للجواب عن مثل هذه الأسئلة . لكن مع هذا أوثر مساعدته في بعض ما أورده فأقول: (أما قوله - صلى الله عليه وسلم- : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» فإشارة إلى سريان أثره في جميع باطن الإنسان كما تجري أجزاء الدم وتسري في جميع باطنه، وليس المراد أن جسمه يمازج جسم الإنسان ممازجة الماء للماء. وهذا قول عن تحقيق يطول شرح مقدماته وأدلتها عقلية. وأما كيفية مباشرته للقلوب فليس بتخايل يظهره الحس، فإني أصادف الوساوس في قلبي، ولست أتخيل شيئاً ولا أشاهده بعينيَّ عند اختلاج الوساوس. وهذا الحكم مقدمات دليـله أكثرها حسية. بل الوسواس من الشيطان كالإلهام من الملك. ونحن نصادف في قلوبنا خواطر مختلفة. إذ يدعو بعضها إلى اتباع الهوى، وبعضها إلى مخالفته، وهذه خواطر مختلفة بدليل اختلاف مقتضياتها وهي مفترقة إلى أسباب لأنها حادثة، والمختلفات أسبابها مختلفة فسمى الشرع السبب الذي يحصل منه إلهام ملكاً، والذي منه يحصل الوسواس شيطاناً، والإلهام عبارة عن الخاطر الباعث على الخير، والوسواس عبارة عن الباعث على الشر، والملك والشيطان عبارة عن أسبابهما. وكما أن النار يستنير بها جوانب البيت، فكذلك- أيضاً- يسود بها سقفه، فنعلم أن النور يخالط السواد، ونعلم أن سببه مخالط لسببه، وإن سبب النور ضوء النار، وسبب السواد دخانه، فبذلك يُعلم أن سبب الوسواس غير سبب الإلهام، نعم، يبقى النظر في أن ذلك السبب عرض أو جوهر قائم بنفسه، وقد ظهر أنه ليس بعرض بل هو جوهر، فيبقى النظر في أنه حي أو ليس بحي؟ وظهر أيضاً أنه حي بأدلة شرعية، وللعقل أيضاً فيه مدخل ما.

فأما قول الفلاسفة والطبيعيين أنه الأخلاط فهو جهل محض، لأن تأثير الأخلاط لا يعدو مقتضى الطبائع الأربع من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والخواطر، والاعتقادات، والعلوم لا يجوز أن تكون من آثار الطبائع التي هي أعراض جمادات، بل هي نازلة من فوق الأرضيات بالرتبة، فينتج أنه جوهر غير متحيز، أو هو جسم متحيز، ويمنع أن يوجد غيره بحيث هو لطيف كالهـواء، وكثيف كجسم آخر، وهذا النظر في الملك، والجن، والشيطان، فذهبت طائفة إلى أن كل ما هو قائم بنفسه جسم، ووصفوا به الخالق. تعالى الله عن قولهم، إذ لم يعقلوا إلا جسماً. 

وقالت طائفة: كل قائم بنفسه جسم إلا الله تعالى، وأحالوا أن يكون في الوجود سواه جوهر قائم بنفسه لا يتخيل.

وقال قوم: إن الملك، والجن، والشيطان كل هؤلاء جواهر حسية قائمة بنفسها وليست بأجسام ولا متحركات، وإنما استعمال النزول، والانتقال، والمجيء، والذهاب عليها استعارة كما في حق الله. بل ثار هذا الخلاف بينهم أيضاً في الجوهر العالم المدرك من الإنسان.

فقال قوم: هو جزء لا يتجزى، ولا يتحيز، فلا هو داخل البدن، ولا هو خارجه، ولا هو متصل، ولا هو منفصل: بل لا يجوز عليه هذه الصفات. ولست أذكر ما انكشف لي فيه فإن الصورة المجملة لا تفيد كشفاً بل تقليداً، ولست بالتقليد أولى من غيري، ولا منفعة في التقليد في المعقولات، وأما كشفه ففيه طول، ولو لم يطل أيضاً لكان الاقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الكف عن ذكره أولى، وإنه لم يذكر سر الروح وهذا بحث عنه، فلا ينبغي أن يزاد عليه في الإيضاح.

وأما ما شاهده الأنبياء، والأولياء من صور الملائكة، والشياطين فهي في الأكثر أمثلة تنافي معانيها وتقوم مقام مشاهدة عين المعاني كما يُرى الأنبياء في المنام ويُستفاد منهم، وإنما المشاهد في المنام مَثَلهم، فأما أشخاصهم فلم تنتقل عن مواضعهم.

فذكرت تفصيل ذلك في كتاب «عجائب القلب» وكذلك القول في الجن، ولذلك ترى صوراً مختلفة إذ التمثيلات لا تنحصر وجوهها، كما أن من يرى النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يراه على صورة واحدة. إلا أن هذه التمثيلات تكون للأنبياء والأولياء في اليقظة. ولغيرهم تكون في المنام فقط. وفي الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم ير جبريل على صورته عدا مرتين مع كثرة رؤيته له في كل حين.

وأما الكلام المسموع من المصروع فهو كلامه. وقول القائل تكلم الجني بلسانه كلام غير معقول. نعم، الجن سبب لوقوع خواطر، وتمثيلات، وخيالات في قلبه تنبعث بسببه داعية الكلام والحركة، وكلامه مثل كلام النائم، والنائم هو المتكلم لا غيره. وأما إخبار المصروع بالغيب فسببه أن جميع ما كان وما يكون مسطور ثابت في شيء خلقه الله، تارة يسمى لوحاً، وتارة إماماً، وتارة كتاباً. كما قال الله تعالى:« في كتاب مبين» و «في إمام مبين». وثبوت الأشياء فيه كثبوت القرآن في دماغ الحافظ للقرآن، وليس مثل الرقوم المكتوبة المرتبة في جسم متناهٍ، لأن غير المتناهي لا يمكن أن يكتب في المتناهي كهذه الكتب الظاهرة، والقلب مثل مرآة، واللوح مثل مرآة ولكن بينهما حجاب فإذا ارتفع ترآى في القلب الصور التي في اللوح، والحجاب هو الشاغل، والقلب في الدنيا مشغول، وأكثر اشتغاله التفكر فيما يورده الحس عليه. فإنه من الحواس في شغل دائم. فإذا ركدت الحواس بالنوم، أو الصرع ولم يكن من فساد الأخلاط شاغل آخر في الباطن ربما يرى القلب بعض تلك الصور المكتوبة في اللوح، وتحقيق هذا يطول وقد أشرت إلى ملامح منه في كتاب «عجائب القلب»، وكذلك ما يظهر عند سكرات الموت حتى ينكشف للإنسان موضعه من الجنة فيكون بشرى، أو من النار- والعياذ بالله- فيكون نذيراً، لأن الحواس تركد في مقدمات الموت قبل زهوق الروح.

وأما حديث غذاء الشيطان من العظم، وحصاصه، وحديث الحوض، والبرزخ فما عندي في تفصيل المراد به تحقيق. بل بعض ذلك مما أوصي بالكف فيه عن التأويل، وبعضه مدركه النقل المحض، وبضاعتي في علم الحديث مزجاة، فموضع الحوض لا يُعرف إلا بمجرد النقل فليرجع فيه إلى الأحادي، والبرزخ يمكن أن يكون المراد به مرتبة بين الجنة والنار لمن ليست له حسنة ولا سيئة. كالمجنون، والذي لم تبلغه الدعوة. والحكم بأن المراد إحداهما دون الأخرى تخمين إلا أن يدل عليه النقل، والله - سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى