الاثنين ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

الإنسان ذلك المجهول

في أعماق كل إنسان منّا رغبة فطرية ليهمس في أذن كل من تاهت به الدروب وذهبت به بعيداً بعيداً عن (مفهوم) السر الإلهي العظيم المترسب في أعماقنا جميعاً- ذكوراً وإناثاً- ليقول له : إن ما يهم الإنسان من القراءة ليس هو مجرد النظر في الحروف أو حفظها، إنما المراد فهم ما وراء السطور، فإن كانت جميع الكائنات هي كلمات الله فخصائصها هي سطورها المختبئة خلفها، فما بالنا بكلمات الله المنزلة إلينا منه!!
جاء في كتاب: (الإنسان ذلك المجهول) والذي تم نشره عام 1935 للجراح والعالم البيولوجي الفرنسي أليكس كاريل (1873-1944) الحائز على جائزة نوبل عام 1912 والذي يقول فيـه:

(.. الإنسان آلة معقدة جداً وغير قابلة للتقسيم، وما من شيء يمكنه التعبير عن الإنسان ببساطة. وليست هناك من طريقة قط لفهم الذات الكاملة للإنسان ولإدراك علاقة أجزاء جسمه بالعالم الخارجي، ونحن قد درجنا على أن نستخدم مختلف (التكنيكات) الفنية لتحليل الذات البشرية، ولقد لجأنا في هذا إلى علوم مختلفة. وطبيعي أن هذه العلوم لا تستطيع تكوين صورة موحدة لأهدافها. وهي لا تجرد الإنسان إلا من الأشياء التي تستطيع التوصل إلى دراستها بطرقها الخاصة. ولو أننا جمعنا كل تلك المجردات التي نحصل عليها عند تحليل الذات الإنسانية عن طريق هذه العلوم.. لوجدنا أن هذه المجردات أقل قيمة من الحقيقة المجردة مع أن هناك ذاتاً تبقى وراء هذه المجردات، وهي أهم منها ولا يمكن تجاهلها ألبتة!!..

إن علم التشريح والكيمياء وعلم الفسيولوجي والنفس ودروس التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي لا تعطينا نتائج قطعية عن ميادينها. وإن الإنسان الذي يعرفه علماؤنا ليس إلا إنساناً بعيداً جداً عن الإنسان الحقيقي..

إن الإنسان في وقت واحد (جثة) يعبث بها عالم التشريح بمبضعه و(شعور) يطالعه عالم النفس والجهابذة الروحانيون، و(شخصية) يتضح من مطالعتها أن الإنسان غارق في أغـوار ذاته الغامضة، و(مادة كيماوية) تتكون منها الأنسجة الجسمية والخلايا.. إنه مجموعة عجيبة من الخلايا و(الرطوبات) الغذائية التي يدرس قوانينها الجسمية علماء الفسيولوجي، إنه مركب من الأنسجة والشعور الذي يحاول علماء الصحة والتعليم تنميته عندما يكون خاضعاً لدائرة الزمان.. إن الإنسان هو (عالم الاقتصاد البيتي) الذي ليس له من هم إلا استخدام الأشياء التي اخترعها حتى يستمر عمل تلك الآلات التي أصبح عبداً لها، ومع كل هذا فهو (شاعر) و(بطل) و(ولي) من الأولياء الروحانيين..
والإنسان ليس مجموعة معقدة من الأشياء والأوصاف التي تجبر العلماء على بذل مهارتهم في تحليلها فحسب بل هو موضع آمال الإنسانية ومجال أفكارها، ولا شك في أن الإنسانية بذلت جهوداً جبارة لاكتشاف حقيقتها الذاتية، ونحن نملك الآن أكواماً غير عادية من نتائج جهود الفلاسفة والشعراء والصوفية الكبار، ولكننا لم نكتشف بعد إلا بعض جوانب شخصيتنا..

إننا لم نفهم الإنسان في حقيقته الكلية حتى الآن، ومعرفتنا– في حقيقتها– لا تتعدى التعرف على مختلف الأجزاء التي يتركب منها جسمه. وهذه الأجزاء نفسها من تقسيمنا وتفريعنا نحن وفق الطرق التي اخترعناها. إن كل إنسان منّا صورة خالية تشف منها حقيقته المجهولة. والحقيقة إن جهلنا بأنفسنا عميق جداً. إن الذين يدرسون الذات الإنسانية يوجهون إلى أنفسهم أسئلة كثيرة جداً لا إجابة عليها. إن مناطق واسعة من عالمنا الداخلي مجهولة!..
كيف تتحد الجزيئات في المواد الكيماوية لإيجاد جسم الخلايا المعقد القصير العمر؟..
كيف تقرر المادة التناسلية في نواة البيضة الطريّة الطازجة خصائص فردها الذي سيخرج من تلك البيضة؟..
كيف تتجمع الخلايا ذاتياً في مجالات الأنسجة والأعضاء؟! إن هذه الخلايا تعرف مسبقاً– شأنها شأن النمل أو النحل– ما العمل الذي يجب أن تؤديه لإبقاء مجموعتها على قيد الحياة.. وهذه الخلايا تتمكن من خلق نظام جسماني بسيط ومعقد!!..
ما نوعية المدة والوقت الفسيولوجي والوقت النفسي؟..

نحن نعرف أننا نتكون من الأنسـجة والأعضـاء والرطوبة والشـعور، ولكن العلاقة بين الشعور والدماغ لا تزال لغزاً محيراً، ونحن لا نعرف كل المعرفة أفعال خلايا الأعصاب، وإلى أي حد تؤثر القوة الإرادية في إحداث التغيرات في نظام الجسم الإنساني؟ كيف يتأثر الدماغ من حالات الأعضاء؟ كيف يمكن إحداث التغيرات في الخصائص التي يرثها الجسم والعقل الإنساني عن طريق أسلوب الحياة والمواد الكيماوية للأغذية والمناخ والموسم والتربية الأخلاقية والعلمية؟!..

إن حدود جهلنا تتسع لدرجة إننا لا نستطيع معرفة العلاقات بين الهيكل والعضلات والأعضاء والأنشطة العقلية والروحانية، ونحن نجهل أيضاً الأسباب التي ينتج عنها توازن الأعصاب وقوة المقاومة ضد عوامل الإرهاق والمرض!! ونحن– كذلك– لا نعرف كيف تنمية الشعور الأخلاقي وقوة الإرادة والجرأة!! ولا نعرف كنه الأهمية الإضافية للنشاط الذهني والأخلاقي والصوفي؟!! وما الحاجة الملحة إلى الشعور الجمالي والديني !! وما القوة التي تخلق العلاقة الإشراقية!!
ولا شك في أن بعض الأسباب الفعلية والعقلية تقرر السعادة أو التعاسة أو النجاح أو الفشل، ولكننا لا نعرف ماهية تلك الأسباب، فنحن لا نستطيع أن نخلق في إنسان ما ملكة (السعادة) بطرق مصطنعة.. ولم نعرف حتى الآن ما البيئة المناسبة لتقدم الإنسان المتمدن؟!! هل يمكن لبنائنا الفسيولوجي والروحي القضاء على الصراع والإرهاق والألم؟ كيف يمكننا منع الإنسان من السقوط في قاع الحضارة المعاصرة؟!

إن من الممكن جداً طرح أسئلة كثيرة عن هذه الأشياء التي تثير الكثير من الدهشة والتعجب، ولكن الحقيقة الواضحة أنه لا توجد ردود مقنعة على كل هذه التساؤلات..
لقد أصبح جلياً أن تقدم كل العلوم المتعلقة بالإنسان لا يكفي لإشباع احتياجاتنا عنه، وبإيجاز شديد : إن علمنا عن ذاتنا لا يزال في حال بدائية!!..
فجوهر القضية ليس في أننا لم نبذل الجهد المناسب في تشييد العلوم الإنسانية، فالحقيقة أن تاريخ البحث في العلوم الإنسانية أقدم بكثير جداَ من تاريخ البحث في العلوم المادية. ولكن بالرغم من هذا التاريخ الطويل من البحث في العلوم الإنسانية فإننا لم نحرز أي نجاح يذكر في هذا المجال، إن كلاً من الملحد والروحاني يتفقان على تحليل قطعة الصوديوم كلورايد (الملح) ولكن شتان بين رأييهما حول الذات الإنسانية)..

وفي فقرة أخرى يقول: (إن البحث عن (الله) (مشروع ذاتي لشخص ما) فكما أن شخصاً ما قد يصبح مصارعاً بجهوده الشخصية في الرياضة البدنية، فكذلك فبإمكان شخص آخر بنبذه الملذات وبالعبادة أن يصل إلى المعرفة الروحانية، فهي التي تبعث الطمأنينة والرضا تجاه أسمى الأماني البشرية. إن القوة الداخلية والنور الروحي والحب الإلهي والسكينة اللامحدودة والوجدان الديني إن كل هذه الظواهر حقيقة بنفس الدرجة التي نعتبر بها الحس الجمالي حقيقة. إن العارف بالله والشاعر يصلان إلى الحقيقة النهائية عن طريق تصور الجمال فوق البشري، فالإنسان بترويض نفسه يحاول الوصول إلى حقيقة غير قابلة للمشاهدة بالرغم من أنها حقيقة فطرية أسمى من العالم المادي. وفي سبيل هذا الهدف يعرض الإنسان نفسه لامتحانات خطيرة لا يمكن لأحد أن يجرؤ على التصدي لها، قد تنتهي إلى التحاق الروح بالحقيقة العليا وقد لا تنتهي!!)..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى