الاثنين ٢١ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

الحربُ والسّلمُ في فكرِ ميخائيلَ نعيمةَ

مقدّمة:

لكلِّ أديبٍ لمساتٌ فنّيَّةٌ تعبِّرُ عن شخصيَّتِه، وتُبرزُ مكنوناتِ ذاتِه بألفاظٍ ومعانٍ وأساليبَ تدلُّ بوضوحٍ على صاحبِها، إن في الشَّعرِ أم في النّثرِ، وصاحبُ الذَّوقِ السّليمِ والثّقافةِ الأدبيّةِ الأصيلةِ هوَ مَن يستطيعُ تلمُّسَ هذهِ المميّزاتِ على يراعِ صاحبِها دونَ غيرِه من الأدباءِ. وما ينطبقُ من ملكةِ هذا التّمييزِ في الأدبِ، ينطبقُ على غيرِه من إبداعاتِ الحياةِ الأخْرى، سواءً في الفنِّ رسْماً ونحتاً أم مُوسيقا وغِناء، أم في الهندسةِ والبناءِ، وغيرِها من ميادينِ الحياةِ.

ومن هُنا أستطيعُ القولَ بأنّ كاتبَنا ميخائيلَ نعيمةَ اختطَّ لإبداعِه الأدبيِّ طرقاً تقودُكَ بأسلوبِها وعمقِ فكرِها، وقدرتِها على توظيفِ الألفاظِ والعباراتِ في جملٍ تفيضُ بالحكمةِ والمنطقِ والتّحليلِ الدّقيقِ للأفكارِ الموشَّاةِ بالصّورِ والتّشبيهاتِ، والقصصِ والحكاياتِ والأمثالِ والمعارفِ الموروثةِ، مستمدَّةً من البيئةِ بكلِّ ما فيها من تناقضاتٍ، استطاعَ نعيمةُ بقريحتِه المتأجِّجةِ بالحقيقةِ والواقعيَّةِ أن يصوغَ منْها فكراً ينبضُ بخصائصِ حكمتِه وبراعتِه وعبقريّتِه الأدبيّة والفلسفيّةِ والإنسانيّةِ، ليرتقيَ بالأدبِ العربيِّ إلى مصافِّ الإبداعِ العالميِّ في الفكرِ والأدبِ.

في هذهِ الدِّراسةِ سأتناولُ عبقريَّةَ نعيمةَ في توظيفِ الموروثِ الثّقافيِّ من حكمٍ وأمثالٍ وأقوالٍ وقصصٍ وعبرٍ وحكاياتٍ، إضافةً إلى الموروثِ الدّينيّ بكلِّ أطيافِه؛ ليغربلَ الحقيقةَ من بينِ أكداسِ الوهمِ والادّعاءِ في مضمارِ السّلمِ والحربِ؛ ليصوغَ منْها فكراً يُناجي الأفهامَ بكلِّ مستوياتِها، فيجعلُ من أدبِه مرآةً تعكسُ رؤيتَنا للحياةِ بكلِّ صدقٍ وشفافيةٍ، دونَ مُواربةٍ أو محاباةٍ أو حسابِ لائمةِ لائمٍ أيَّاً كان انتماؤُه الدّينيُّ أو السِّياسيُّ أو الفكريُّ، من خلالِ أسلوبٍ أدبيٍّ راقٍ يُقرّبُ الخيالَ إلى ساحةِ الوعيِ، ويُطلقُ العنانَ للأفكارِ الجامدةِ كي تُحلِّقَ في الفضاءِ، ويُميطُ اللّثامَ عن طلاسمِ ما يعتمِلُ في فكرِ الإنسانِ من صراعٍ بين متناقضاتِ الحياةِ بكلِّ ما فيْها، وفي مقدّمتِها (السّلمُ والحربُ).

وتتجلّى عبقريَّة نعيمةَ في توظيفِ الموروثِ الثّقافيِّ في كلِّ مقالةٍ خطَّتْها يراعتُه، أو كلِّ قصيدةٍ عزفَتْ ألحانَها أوتارُ فؤادِه، وها أنا إذْ أرسمُ تلكَ المعالمَ الإبداعيَّةَ في تسخيرِ ذلك الموروثِ في إنتاجِه الأدبيِّ، أقفُ وقفةَ باحثٍ ومحلِّلٍ وناقدٍ يستنضِحُ معانيَ الجمالِ والإبداعِ في تجسيدِ الفكرِ الإنسانيِّ وبيانِ تناقضاتِ الحياةِ وصراعاتِها من خلالِ التّوظيفِ الدّقيقِ لكلِّ فكرةٍ أو قصّةٍ أو واقعةٍ يَعجنُها عجْناً بقريحتِه المتأجِّجةِ بالإنسانيَّةِ، فيصوغُها في حلَّةٍ جديدةٍ تدلُّكَ بوضوحٍ على شخصيَّةِ نعيمةَ الفذَّةِ في الخلقِ الأدبيِّ والفكريِّ والفلسفيِّ!

العالمُ ريشةٌ في مهبِّ الرّيح:

فهَا هو يشبِّهُ العالمَ من حولِه، وهو يتخبَّطُ في سلمِه وحربِه بريشةٍ في مهبِّ الرّيحِ، وهو تشبيهٌ مبتَذلٌ لكثرةِ استخداماتِه، لكنّه آثرَ توظيفَه هنا، واستعارَه لينقلَ إلى أذهانِنا صورةَ العالمِ، كما تراءَى لهُ أيّامَ كان قلبُه ينبضُ بالحياةِ، إذْ قالَ: "فهوَ في نظرِي ريشةٌ - وأخفُّ من ريشةٍ - في مهبِّ الزَّعازعِ الهُوجِ الّتي تجتاحُه من كلِّ فجٍّ وصَوبٍ". وذلكَ لأنَّ البشريَّةَ لم تعرفْ خلالَ تاريخِها الطّويلِ فترةً من الارتباكِ، والقلقِ، والذُّعرِ، وتشرُّدِ القلبِ والذّهنِ کالفترةِ الّتي تتخبَّطُ في دياجيرِها في زمنِ نعيمةَ، وكذلكَ لأنّها ما فتئَتْ تهيمُ على وجهِها وهي تفتِّشُ عن مخارجَ من مآزقِها، لتدخلَ في مآزقَ أخْرى أشدَّ وأعتَى، فلا خلاصَ لها؛ وكأنَّها ريشةٌ في مهبِّ العواصفِ ليس لهَا من قرارٍ.

ولعلَّ تشبيهَ نعيمةَ العالمَ في ضياعِه بريشةٍ في مهبِّ الزَّعازعِ يذكِّرُنا بقولِ المتنبّي في هجاءِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ والي ساحلِ الشَّامِ، حينَما وافتْهُ المنيَّةُ، فأراحَتْ مَن حولَه مِن شرورِه:

قالوا لَنا ماتَ إِسحاقُ فَقُلتُ لَهُم
هَذا الــدَواءُ الَّذي يَشفي مِنَ الحُمُقِ
ما زِلتُ أَعـــرِفُهُ قِـرداً بِـلا ذَنَبٍ
صِفراً مِنَ البَأسِ مَملوءاً مِنَ النَزَقِ
كَريشَــةٍ بِمَهَبِّ الــريحِ سـاقِطَةٍ
لا تَســتَقِرُّ عَلى حـــالٍ مِـــنَ القَــلَقِ

إذْ يصفُ المتنبّي مهجُوَّهُ بالطّيشِ، وأنّه لا يثبتُ على حالٍ. ومنهُ قولُ ابنِ الرّوميّ وهو يهجُو خصمَه بالطّيشِ وخفّةِ العقلِ وثقلِ الظّلِّ والرّوحِ:

فحِلمُك أطيشُ من ريشةٍ
وروحُك من هضبةٍ أرجحُ
فردَوسُ السَّلامِ المفقودِ:

وحينَما يتأمّلُ نعيمةُ العالمَ، وهو في أوجِ تخبُّطِه وضياعِه وضلالِه حينَما يدعُو إلى السِّلمِ في كلِّ مناسبةٍ وفي كلِّ محفلٍ دوليٍّ، دونَ أن يخطوَ خطوةً حقيقيَّةً إلى فردوسِ السَّلامِ، إلّا بالخُطبِ الرّنَّانةِ والمؤتمراتِ الخدّاعةِ، فيُشبِّهُ حالَ العالمِ وهو في نشوةِ هذهِ الدّعواتِ كأنّه يدخلُ فردوسَ السَّماءِ بسلامٍ، وقد تخلَّى عن شرورِه وآثامِه وصراعاتِه وأعبائِه الّتي تقضُّ مضْجعَه، وتهدِّدُ أمنَهُ وسلامَه، إذ نراهُ يُعطي مثلاً ناصعاً على تخبُّطِ العالمِ لا منَ الحربِ، وإنَّما منَ السّلمِ الّذي يشبّهُ غزارةَ الدّعواتِ إليهِ بشلّالاتِ (نياجرا)، وهي تنهالُ من مِنبرِ العجوزِ المتهالِكةِ المسمَّاةِ (الأُمم المتّحدة)، ومن شتّى منابرِها من معابدَ ومدارسَ وصُحفٍ.. فنراهُ يشبّهُ العالمَ في دعوتِه إلى السِّلمِ بالفردوسِ الّذي وعدَت به الأديانُ معشرَ الّذينَ آمنُوا وعمِلُوا الصَّالحاتِ. فلا حروبَ، ولا عداواتٍ بينَ أسْوَدِها وأبيضِها، وأصفرِها وأسمرِها، وبينَ حاكمِها ومحكومِها، وجائعِها ومُتخَمِها، وملحِدِها ومؤمنِها. بل هنالكَ تساهلٌ، وتفاهمٌ، وأخوّةٌ وتعاونٌ، وسلامٌ لا يشوبُه خِصامٌ. ولكنّ هذهِ النّشوةَ بأنغامِ السّلمِ سرعانَ ما تنقلبُ إلى قُشَعريرةٍ حينَما نسمعُ تلكَ الجوقةَ الّتي تعزفُ أنغامَ السَّلامِ هي ذاتُها الّتي تعزفُ ألحانَ الحربِ وبحماسةٍ أشدَّ من الأُولى.

ولعلّ نعيمةَ استعارَ هنا وصفَ فردوسِ السَّلامِ على الأرضِ من الموروثِ الدّينيّ الّذي يدعو المؤمنينَ الصَّالحينَ والأتقياءَ إلى دخولِ جنّة النعيمِ، في قولِه تعَالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ). أي: دخولاً مقروناً بالسَّلامةِ من الآفاتِ والشُّرورِ والآثامِ.

طبولُ الحربِ ودعواتُ السَّلام:

يرى نعيمةُ أنّ ساسةَ العالمِ الّذينَ ملؤُوا العالمَ تسبيحاً للسِّلمِ هم أنفسُهم الّذين ملؤُوه تجديفاً عليه من خلالِ حثِّ النّاسِ بالوعدِ والوعيدِ على الاستعدادِ للحربِ. فهم يُبرِّرون التَّناقضَ الفاضحَ ما بينَ أقوالِهم وأفعالِهم، حينَما يبشِّرُون بالسِّلمِ إذ تراهُم يُعدُّون عدّةَ الحربِ، فيُجيبُون بكلِّ صفاقةِ وجهٍ "أنّهم لا يُروِّجون للحربِ حبّاً بالحربِ، بل حفاظاً على السِّلمِ". وفي خِضمِّ استعدادِهم للحربِ يُرهقُون النّاسَ بالضَّرائبِ ويبتزّون منهم جَناهم، ويسوقونَهم سوقَ الأنعامِ لیدرّبُوهم على فنونِ التَّقتيلِ والتَّدميرِ، ويَطردون الرّاحةَ والهناءةَ والأملَ من قلوبِهم وأفكارِهم ومساكنِهم ليبذرُوا مكانَها الخوفَ والشّكَّ والقلقَ، ببناءِ الأساطيلِ البحريّةِ والجويّةِ، وتكديسِ القذائفِ الجهنَّميّةِ، فهم يَفعلُون ذلك لا لينتَهِكُوا بها حرمةَ السِّلمِ، بل ليُقيمُوا منها سدّاً منيعاً بينَ الحربِ والسِّلمِ. ويرى نعيمةُ أنّهم بفعلِهم هذا إنّما يُهوّلُون على الحربِ بأحبِّ الأشياءِ إلى قلبِ الحربِ – بالمدفعِ والقنبلةِ والدَّبّابةِ، وغيرِها من وسائلِ التّدميرِ الّتي هي خبزُ الحربِ ولحمُها ودمُها وعضَلُها: "إنّهم يهوّلون على الذِّئبِ بجماعةٍ من الحِملانِ، وعلى الهرِّ برهْطٍ من الفئرانِ!"

وفي ذلكَ منتهَی الاستِهتارِ بالعقلِ والمنطقِ، ومنتَهى الاستِخفافِ بالنّاسِ وآمالِهم وأقداسِهم.

ونرى نعيمةَ يحشدُ قوانينَ الطّبيعةِ القائمةِ على التّناقضِ والّتي لا يُمكن أن تَحْيا دونَ صراعٍ ودونَ قتلٍ، ويستعينُ على ذلكَ بقانونِ الغابِ الّذي يحكمُ فيه القويُّ الضَّعيفَ، فيَرى أنّه أكثرُ أمْنا من قانونِ الحربِ إذْ يقولُ: "قد تكونُ الزَّرافةُ في عرينِ الأسدِ، والشَّاةُ في وجارِ الذِّئبِ، والفأرةُ بينَ براثنِ الهرّ أوفرَ أمناً على حياتِها من السّلمِ في فُوّهةِ المدفعِ، وفي جوفِ الدَّبّابةِ، أو في قلبِ القذيفةِ الذّرّيّةِ. وقد يَصلح إبليسُ قيّماً على الجنَّةِ قبل أن تَصلُحَ الحربُ قيّمةً على السّلمِ".

ثمّ يستطردُ بأمثلةٍ من تجاربِه ومشاهداتِه في الحياةِ، فيَروي أنّه مرَّ ذاتَ يومٍ بجماعةٍ من الصِّبيةِ يلعبُون في ظلِّ شجرةٍ باسقةٍ. فوجدَهم في هرْجٍ ومرجٍ عظيمينِ. ووجدَ أحدَهم في أعلى الشّجرةِ وقد راحَ يشدُّ حبلاً إلى جذعٍ من جذوعِها. ورأى الّذين على الأرضِ قد أخذُوا بالطّرفِ الآخرِ من الحبلِ، وانبرَوا يتسابقُون إلى إحكامِ ربطِه حولَ عنقِ هرّةٍ رقْطاءَ. وسمعَ طفلاً في أعلى الشَّجرةِ يصيحُ بالّذين على الأرضِ: "شدّوا! شدُّوا!" وحينَما سألَهم عن الجريمةِ النّكراءِ الّتي اقترفَتها تلكَ الهرّةُ المسكينةُ فاستَحقَّت من أجلِها الشّنقَ، أجابَه أصغرُهم بمنتَهی الجِدّ والبساطةِ: "هَيدي مرجُوحة!"، وعندئذٍ أدركَ كيفَ تعبثُ الدَّعاواتُ الخبيثةُ بالمفاهيمِ البشريّةِ، فتغدُو المشانقُ أراجيحَ في لغةِ السّياسةِ. ويصبحُ الاستعدادُ للحربِ خيرَ ضمانٍ للسِّلمِ.

ومن هذهِ القصّةِ الّتي حدثَت أمامَ ناظريهِ في الحياةِ نراهُ يُصعّدُ من هجومِه على ساسةِ العالمِ وقادتِه قائلاً: "لستُ أرى عظيمَ فرقٍ بينَ ذهنيَّةِ أولئكَ الصِّبيةِ وذهنيَّةِ ساسةِ العالمِ وقادتِه. فهُم في تسابقِهم الجنونيِّ إلى التّسلّحِ يُحكِمُون الخِناقَ على السّلمِ يوماً بعدَ يومٍ، ثمّ لا يخجلُون من أنْ يُجاهِروا بأنّهم يفعلُون ما يفعلُون لا في سبيلِ الحربِ، بل في سبيلِ السّلمِ والتّرفيهِ عنه والحفاظِ عليه".

خرافةُ توازنِ القِوى لتحقيقِ السّلام:

ويرى نعيمةُ أنّ منطقَ السّباقِ إلى امتلاكِ القوّةِ من أجلِ فرضِ السَّلامِ على الآخرِ قد قادَ العالمَ إلى منطقٍ آخرَ أشدَّ اعوجاجاً منه حينَما خلقُوا خُرافةً أطلقُوا عليها اسماً غرّاراً عليهِ مِسحةٌ من المنطقِ هو (توازنُ القِوى). وذلك من خلالِ توازنِ القوى الحربيّةِ بين معسكرینِ متخاصِمين، فلا يجرؤُ أحدُهما على مهاجمةِ الآخرِ. وهكذا يبقَى السِّلمُ بينَهما في مأمنٍ من الحربِ، وعلى هذا الأساسِ، فإنّ دولَ العالمِ إذا شاءَت سلماً دائماً، فعليها أن تحفظَ التّوازنَ في قواهَا الحربيّةِ إلى الأبدِ. وفي ذلك من التَّضليلِ ما فيه؛ لأنّ هذا التّوازنَ وهمٌ لا يُمكنُ تحقيقُه؛ لاختلافِ الظّروفِ والإمكاناتِ المادّيّةِ والعلميَّةِ، وتبدُّلِ القادةِ، وتحكُّمِ ظروفِ الحياةِ الطَّارئةِ، فأيّةُ دولةٍ تستطيعُ أن تَمضيَ في التّسلُّحِ عاماً بعد عامٍ وعينُها الواحدةُ على جارتِها مخافةَ أن تسبقَها خُطوةً، وعينُها الأخرى على خزينتِها الّتي تنضبُ يوماً بعد يومٍ، وعلى شعبِها الّذي أرهقَتهُ الضّرائبُ، فباتَ يمشي حثيثاً إلى الفقرِ فالجوعِ فالفناءِ؟

ولكنّ نعيمةَ يأتي بالحجَّةِ والبرهانِ على مفهومِ التّوازنِ من البيئةِ والموروثِ الثّقافيّ القائمِ على منطقِ القانونِ الصَّحيحِ في الحياةِ، فيستعينُ - لتوضيحِ ذلك - بقانونِ كفَّتيّ الميزانِ، إذ يقولُ: "إنّا إذا وضعْنا كمّيَّةً من الشّعيرِ في كفّةٍ من الميزانِ، ووضعْنا كمّيّةً مثلَها في الكفّةِ الأخرى، استطْعنا بأخذِنا منْها أو الإضافةِ إليها أنْ نحصلَ على توازنٍ تامٍّ بين الكفّتينِ، وأيقنّا أنّ كمّيّةَ الشّعيرِ في الواحدةِ تعادلُ الكمّيّةَ في الأخْرى بغيرِ زيادةٍ أو نقصانٍ".
ثمّ نراهُ يسوقُ أدلّةَ العارفينَ من ثقافتِه الواسعةِ بأحوالِ الأممِ الدَّالةَ على اعوجاجِ هذا المنطقِ في توازنِ القِوى المادّيّةِ والمعنويّةِ وفي ظروفِ الزّمانِ والمكانِ بين معسكرينِ متخاصمينِ، مؤكّداً استحالةَ ذلكَ بسببِ المتغيّراتِ المرهونةِ بظهورِ زعيمٍ جديدٍ أو اختفاءِ زعیمٍ قديمٍ، وانتشارِ مذهبٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ لم يكنْ في الحسبانِ، وسنةِ قحطٍ أو سنةِ خصبٍ، ووباءٍ أو زلزالٍ، واختراعٍ جديدٍ أو اکتشافِ ثروةٍ مجهولةٍ، وغيرِ ذلك ممّا يُمكنُ أن يُحدثَ خللاً في توازنِ القِوى المزعومِ.

عدّةُ السلمِ وعدّة الحربِ:

يوظّفُ نعيمةُ هنا المُتناقضاتِ اللّفظيّةَ والمعنويّةَ لتوضيحِ الفروقِ والدّوافعِ بين طرفيّ الصّراعِ (السّلمِ والحربِ)، فيَرى أنّه كان من الأَوْلى لزعماءِ العالمِ وقوّادِه، إذا هُم صفَتْ نيّاتُهم للسّلمِ، أن يستعدُّوا للسّلمِ قبل استعدادِهم للحربِ؟ فللسّلمِ عدّتُه كمَا للحربِ عدّتُها. ونراهُ يسوقُ الدّلائلَ والبراهينَ المنطقيّةَ من الحياةِ تبيِّنُ البونَ الشّاسعَ بين كلٍّ منهُما، فإنْ تكُن عدّة الحربِ مدافعَ وقنابلَ وإثارةَ أبشعِ ما في القلبِ البشريِّ من عفنِ البغضِ والحقدِ والشَّهواتِ السُّودِ، فعدّةُ السّلمِ قوتٌ للجياعِ، وكساءٌ للعراةِ، ومأوىً للمشرّدينَ، ودواءٌ للمرضَى، وكرامةٌ للمُهانينَ، وحرّيّةٌ للمقيَّدينَ، ومعرفةٌ للجاهلينَ، وانعتاقٌ للمستثمَرينَ من المستثمِرين، وغفرانٌ للمذنبينَ، وعدلٌ للمظلومينَ، واعترافٌ بأنّ الإنسانَ أخو الإنسانِ وعونُه ونصيرُه أينَما كانَ ومن أيّ جنسٍ كان، وبأنّ الأرضَ میراثٌ الجميعِ، وها هيَ الفروقُ بينَ عدّتيّ السّلمِ والحربِ:

"عدّةُ السّلمِ الصّدقُ، وعدّةُ الحربِ الكذبُ
عدّةُ السّلمِ الأمانةُ، وعدّةُ الحربِ الخيانةُ
عدّةُ السّلمِ الثّقةُ، وعدّةُ الحربِ الشّكُّ
عدّةُ السّلمِ التَّعاونُ، وعدّةُ الحربِ التَّنابذُ
عدّةُ السّلمِ العطاءُ، وعدّةُ الحربِ النَّهْبُ
عدّةُ السّلمِ المحبّةُ، وعدّةُ الحربِ البغْضُ
عدّةُ السّلمِ التّعْميرُ، وعدّةُ الحربِ التَّخريبُ
عدّةُ السّلمِ الإيمانُ بالإنسانِ، وعدّةُ الحربِ الكفرُ باللهِ وبالإنسانِ معاً.
عدّةُ السّلمِ الحياةُ، وعدّةُ الحربِ الموتُ".

الإنفاقُ على الحربِ والشُّحُّ على السِّلم:

لقد أنفقَ العالمُ على عدّةِ الحربِ نفقاتٍ ليس لها عدٌّ ولا حصرٌ، فما مِن أرقامٍ تستطيعُ أن تؤدّيَ إلى أذهانِنا المقاديرَ الهائلةَ من القِوى الرّوحيّةِ والمادّيّةِ الّتي أنفقَتْها الإنسانيّةُ على الحربينِ العالميَّتينِ الأخيرتينِ بغضّ النّظرِ عنِ الحروبِ الثّانويّةِ الّتي نتجَت عنهُما. فلا يُمكنُ إحصاءُ الدّيارِ الّتي دُمِّرَت، أوالأراضي الّتي عُقِّمَت، أوالأموالِ التي هُدِرَت، أو الأجسادِ التي شُوّهَت، أو الأرواحِ التي أُزْهِقت، أو العيالِ التي شُرّدَت، أو الدّواجنِ الّتي أُتلِفَت، أوخطوطِ المواصلاتِ الّتي عُطّلَت. فكيفَ بالقلوبِ الّتي أحرقَها الحزنُ، وبالمآقي الّتي قرّحَها الدّمعُ؟
وفي المقابلِ لو سألتَ هذه الإنسانيّةَ بعينِها ماذا أنفقتْه على عدّةِ السّلمِ: "لكانَ جوابُها هزّةً من كتفٍ، أو قبلةً من شفةٍ، أو شقلةً من حاجبٍ". ذلك لأنّها ما أنفقَت شيئاً على الإطلاقِ، فمنذُ أن قامتِ الدّولُ في الأرضِ، وراحَت تنظّمُ أعمالَها الدّاخليّةَ والخارجيّةَ بوزاراتٍ للنّهوضِ بها، ما سمِعْنا بدولةٍ أوجدَت لها وزارةً للسّلمِ. في حين أنّهُ ما من دولةٍ على وجهِ الأرض - مهما صغُرَ حجمُها وشأنُها بين الدّولِ - إلّا لها وزارةٌ للحربِ.

والاعتماداتُ التي تُخصّصُ لوزاراتِ الحربِ في كلّ مكانٍ هي اليومَ مضربُ المثلِ في التّضخُّمِ والسَّخاءِ. كما نرَى الكثيرَ من الشّعوبِ يُقتِّر على نفسِه في المأكلِ والمشربِ وغيرِهما من مقوّماتِ الحياةِ؛ ليكفلَ لجيشِه المزيدَ من الزّادِ والعتادِ. أمّا السّلمُ فما سمعْنا بعدُ بشعبٍ جاعَ في سبيلِه، أو بدولةٍ فرضَت على نفسِها التّقشُّفَ لتتذوّقَ لذّةَ السّلمِ وبركاتِه.

وربَّما يُتَّهمُ نعيمةُ بالغلوِّ في كلامِه من الكثيرينَ الّذين يرونَ أنّ الدّولَ لا تقومُ بوزاراتِ الحربِ وحدَها. فهنالكَ وزاراتُ الصّحّةِ والزّراعةِ والاقتصادِ والمعارفِ والمواصلاتِ وغيرُها، وكلُّها يهدفُ إلى الأعمالِ العمرانيّةِ. فهيَ حَريّةٌ بأن تُحسَبَ من عدّةِ السّلمِ.

لكنَّ نعيمةَ يردُّ كيدَ اتّهامِ هؤلاءِ بتشبيهاتٍ من صورِ الواقعِ تشهدُ - على النّقيضِ من ذلك – "بأنَّ الحربَ ما مشَتْ يوماً في الأرضِ إلّا جرّتْ في ركابِها كلَّ جهودِ النّاسِ، وكلَّ أقداسِهم. فهيَ التّنّينُ الّذي لا يشبعُ، والبئرُ الّتي لا تمتلئُ. حتّى الدّينُ الّذي كانَ من المفروضِ فيهِ أن يكونَ أقْوى دِعامةٍ للسّلمِ، لا يلبثُ أن يحملَ العلَمَ، وينفخَ في البوقِ، ويدقَّ الطّبلَ ويمشي في الطّليعةِ حالمَا تُكشِّرُ الحربُ عن أنيابِها للسّلمِ؟.

ولكنّه لا يبخسُ البشريّةَ جهدَها اليتيمَ الّذي تمنُّ به على أبطالِ سلمِها وعلمائِها بمنحِهم جائزةَ (نوبل) مخترعِ الدّيناميتِ الّذي استغلّتْ دولُ الشّرِّ اختراعَه لفناءِ البشريّةِ، وهذا الجهدُ لا يُعدُّ نقطةً في بحرٍ: "لعلّ الظّاهرةَ الوحيدةَ الّتي تستحقُّ أن تُسجَّلَ لحسابِ السّلمِ هي الجوائزُ الّتي تُمنحُ من حينٍ إلى حينٍ باسمِ السّلمِ. ولكنّها، إذا قیسَت بآلافِ آلافِ الملايينِ الّتي تُنفقُ في سبيلِ الحربِ بدَت كنقطةٍ من الزّيتِ في بحرٍ من الزّئبقِ، أو كحمامةٍ منتوفةِ الرّيشِ بين سربٍ من الغربانِ، أو كبنفسجةٍ ذاويةٍ في حقلٍ من العَوسجِ".

قتلُ قابيلَ لهابيلَ بدايةُ الحربِ على السَّلامِ:

يرى نعيمةُ أنّ السلمَ باتَ شريداً طريداً في الأرضِ يطلبُ ملجأً فلا يجدُه، وأنّ الحربَ أضحَت سيّدةَ الأرضِ بغيرِ منازعٍ منذُ أن أودَى قابيلُ بحياةِ أخيهِ هابيلَ. فالحربُ تغفُو فترةً من الزّمنِ، ثمَّ تستفيقُ وقد تضاعفَتْ شراهتُها للدَّمِ ومقدرتُها على التّخريبِ، ويحسبُ النّاسُ غفوتَها سلماً وما هيَ بالسّلمِ. وهي إنْ خمدَ أوارُها هنيهةً في مكانٍ، اشتدَّ لهيبُها في مكانٍ آخرَ. وهكذا راحتِ الحربُ تفتَنُّ في توزيعِ قِواها، وتنميةِ مواردِها، وتنظيمِ حركاتِها على مدارِ العصورِ حتّى بلغَت ذروةَ الكمالِ الّذي يجعلُ منّا ومن دنيَانا ريشةً في مهبِّ الرّيحِ، وهو كمالٌ: " يُنذرُنا، إنْ لم يكنْ بالفناءِ التّامِّ، فبالعودةِ إلى عالمِ الغابِ، ونظامِ الظّفرِ والنّابِ، وبالتّخلّي عن بدائعِ حضارةٍ خلقْناها بكدِّ الجفنِ والدّماغِ، وإرهاقِ العظمِ والعضلِ، وشدَدْناها بعضَها إلى بعضٍ بنياطِ القلبِ وأشواقِ الرّوحِ".

السّلامُ وأسيادُ الغربِ؟

لقد أضحَى العالمُ اليومَ ريشةً في مهبِّ الرّيحِ. فهلْ من حلٍّ لهذهِ المُعضِلةِ؟!

يجيبُ نعيمةُ على ذلكَ السّؤالِ بما في موروثِه الثّقافيِّ بقولِه: "إذا نحنُ شئْنا أنْ نستردَّ لأنفسِنا شيئاً منَ الثّباتِ، إمّا أنْ نزيدَ في وزنِ الرّيشةِ، وإمّا أن نُخفّفَ حدّةَ الرّيحِ. أو أنْ نجْترِحَ العجيبتينِ معاً".

لكنّه يُجيبُنا إجابةَ العارفينَ من خلالِ تساؤلٍ يحبلُ بالاستِنكارِ، ويولّدُ الدّهشةَ والاستغرابَ من استِحالةِ الحلِّ بقولِه: "فهلْ من سبيلٍ إلى ذلكَ؟ ومَنْذا الّذي سيدلُّنا عليهِ ثمَّ يدرّبُنا على سلوكِه؟".

فتأتي الإجابةُ صاعقةً من رحمِ المأساةِ: "من الأكيدِ أنّ الذينَ جعلُوا منّا ريشةً لن يستطيعُوا أن يجعلُوا من الرّيشةِ طَوداً. والّذين أطلقُوا عليْنا الرّياحَ الهُوجَ لن يكونَ في وسعِهم أن يجعلُوا من تلكَ الرّياحِ نُسيماتٍ بليلاتٍ. أولئكَ همُ القابضونَ بأيدٍ من حديدٍ على أزمَّةِ حياتِنا الجسديّةِ والعقليّةِ والقلبيّةِ".

ويبلغُ التّساؤلُ عندَه مبلغَ انفجارِ البركانِ، والعالمُ في غفوتِه لا يَدري كيفَ ثارَ البركانُ: "أوَتدرونَ مَن هُم؟". لكنّهُ يبرِّدُ حممَ البركانِ ببرَدِ المعرفةِ واليقينِ: "إنّهم أسيادُ الغربِ الّذي انتقلَت إليهِ زعامةُ العالمِ منذُ أيّامِ أثينا ورومة فما تخلّى عنْها حتّى اليومَ إلّا في خلالِ فتراتٍ قصيراتٍ".

والغربُ بتزعُّمِه العالمَ خلقَ من زعامتِه حسناتٍ أطلقَت العقلَ البشريَّ من عقالاتِه، ثمَّ أحسنَت تدريبَه وتنظيمَه، فأدهشَ العالمَ بمكتشفاتِه ومخترعاتِه، فراحَ يرُودُ العوالمَ المحيطةَ بهِ؛ يعالجُ طلاسمَها، ويُظهرُ ما خَفيَ من مكنوناتِها. وإذا بالأرضِ تفيضُ للإنسانِ بكنوزِها الدّفينةِ في أحشائِها، وإذا بالسّماءِ تبوحُ له بالكثيرِ من أسرارِها، حتّى باتَ يعتقدُ أنّ سيادةَ الأرضِ والسّماءِ توشكُ أن تصبحَ في قبضةِ يدِه.

لكنّ الغربَ إن أحسنَ توجيهَ العقلِ البشريِّ وتدريبَه وتنظيمَه حتّى بلغَ بهِ ما بلغَ من مكانةٍ في دنيا الصّناعاتِ والعلومِ والفنونِ، فقدْ أهملَ القلبَ كلَّ الإهمالِ، "والقلبُ هو مهبُّ العواصفِ الّتي تعبثُ بنتاجِ العقلِ، ومصدرُ السّمومِ الّتي تُفسدُ على النّاسِ الاستمتاعَ بذلك النّتاجِ".

ولئنْ نجحَ الغربُ في تحريرِ العقلِ من عقالِه، فقد أخفقَ في سبرِ أغوارِ قلبِه، والقلبُ البشريُّ على صغرِ حجمِه هو ذلكَ العالمُ الشّاسعُ الّذي يلاصقُ فيهِ الإنسانُ الحيوانَ من جهةٍ، ويعانقُ اللهَ من الأُخرى، لكنّ أنبياءَ الشّرقِ همْ مَن حرّرُوا القلبَ من أسرِ جحيمِ الشّهواتِ والضّلالِ والكفرِ إلى نعيمِ القيمِ الرّوحيّةِ السّاميةِ والهدايةِ والإيمانِ: "وحتّى اليوم ما تمكّنَ أحدٌ من سبرِ أغوارِه السّحيقةِ وتسلُّقِ أعاليهِ الرّبّانيّةِ غيرُ نفرٍ قليلٍ من النّاسِ أنجبَهم هذا الشّرقُ هداةً للبشريّةِ وقادةً لخُطاها من الحيوانِ القابعِ في أغوارِها إلى الإلهِ المتألِّقِ في أعاليْها. أولئكَ هم أنبياءُ الشّرقِ الّذين مرُّوا بالأرضِ مرورَ الشّهبِ في الفضاءِ، ومرورَ البرقِ في مطاويْ الظُّلماتِ، فرسمُوا للنّاسِ طريقَ الخلاصِ بخطوطٍ من نورٍ".

خاتمة:

وفي الختامِ نرى أنّ نعيمةَ استطاعَ بعبقريّتِه الأدبيّةِ والفكريّةِ أن يُميطَ اللّثامَ عن حقيقةِ البشريّةِ الّتي تدعُو إلى السِّلمِ بلسانِها، لكنّها تطبّلُ للحربِ من أجلِ فرضِ السّلمِ، وفي ذلك خداعٌ وضلالٌ؛ لأنّ السّلمَ لا يتحقّقُ إلّا بنوايا السّلامِ، والحربُ تنّينُ يبتلعُ السّلمَ وكلَّ خيراتِ السّلام. وقد أبدعَ نعيمةُ في توظيفِ اللّغةِ والمعاني المستمدّةِ من ثقافتِه الأدبيّةِ ومن بيئتِه الاجتماعيّةِ، فشبّهَ العالمَ في ضلالِه بينَ السّلمِ والحربِ بريشةٍ في مهبِّ الرّيحِ، كما شبّهَ دعواتِ البشريّةِ إلى السّلامِ بفردوسٍ موهومٍ، وذلك لأنّها تدعُو إلى السّلامِ وشهوتُها إلى الحربِ أشدُّ وأعْتى، وتنشِدُ أناشيدَ السّلامِ، وفي جعبتِها أسلحةُ الدَّمارِ لإقامةِ السّلامِ، وهي تدركُ جحيمَ الحربِ، لكنّها تجهلُ بركاتِ السّلامِ، وتنفقُ على الحربِ كلَّ ما تملكُ من قوىً مادّيّةٍ وروحيَّةٍ، وتبخلُ على السّلمِ ببعضِ ما تملكُ، وقد اقترفَت البشريّةُ أُولى جناياتِها على السّلمِ بقتلِ قابيلَ أخيهِ هابيلَ، ويظلُّ السّلمُ أسيراً ما دامَ قيادُ العالمِ بأيدي أسيادِ الغربِ الّذين امتلكُوا زمامَ العقلِ، وخسِروا فردوسَ القلبِ الّذي أحياهُ أنبياءُ الشّرقِ بأنوارِ هدايتِهم للبشريّةِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى