الجمعة ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٣
مذكرات المناضلة سهى بشارة المحررة من سجن الخيام في جنوب لبنان
بقلم سهى بشارة

الحلقة الرابعة عشرة - الزيــــــارات

الحلقة

لا شك أن إطلاق سراح بعض السجينات يبدّل حياة الباقيات في السجن.

في الواقع، بعد إطلاق سراح كفاح والمعتقلات الأخريات في آب / أغسطس من العام 1994، حدث تبدل في المناخ السائد داخل السجن.

فكان لإطلاق السبيل هذا أثره على الفتيات، إذ نفحهن بالأمل الذي كان آخذاً بالتلاشي، قبيل هذه المدة. ولم يعد شر الأمور أكيداً، بالمقابل. وكنا نجهل أن لجاناً من الدعم أخذت تتشكل، ولا سيما في فرنسا، وأن المحامين الإسرائيليين لبثوا يكافحون لإخراجنا من طي النسيان، وأن هذه التحولات قد لاقت ثمارها، لا سيما وأن ضغط المؤسسات الدولية بات أكثر إلحاحاً وفعاليةً من أي وقت مضى. إذاً، بعد انقضاء سنة على تلك الرحابة التي حرمتني صديقتي الأثيرة لدي، ها أن أبواب معتقل الخيام تنفتح لزوار آخرين، غير المسؤولين في جيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي.

وذات مساء من يوم الإثنين في شهر أيلول / سبتمبر، استدعت الحارسات "هنية"، وهي معتقلة نازلة الى جانبي في الزنزانة. وقيل لها إن أهلها سوف يأتون لزيارتها. هنية من سكان المنطقة المحتلة، وهي مناضلة في صفوف حزب الله، وكان جهاز الأمن رماها من معتقل الخيام بعد حلولي فيه بحوالي الثمانية أشهر. وهي الآن، في سنة اعتقالها السادسة. نادتني هنية خفيةً، وأبدت قلقها واضطرابها من هذه الزيارة، ورأيتها متأرجحة بين الفرح لرؤية أهلها، والخيبة حيال الظروف القاسية التي يفترض بالزيارة أن تتم وفقها. وراحت تشكو لي همها، قائلة: "لا يسعني أن أراهم إلا من بعيد، وفي غرفة يعلوها الشبك في منتصفها، ولا نقدر ان نتعانق أو نتلامس".

مع ذلك، لم تكن هذه النعمة الهابطة من السماء حكراً على النساء. ففي اللحظة ذاتها، أُبلغ السجناء بأن أقارب لهم سيأتونهم عما قليل، في زيارة محدودة، بعشر دقائق، كلاماً وسلاماً، في حين أن الوقت المعطى لزيارة النساء هو نصف ساعة.

ومضت "هنية" تتساءل عما سيكون تصرفها. تعرف، هي، أن والدها متقدم في العمر. وتساءلت كيف يمكن أن تجري هذه الزيارة. نهار الثلاثاء، صباحاً، راحت هنية الى الموعد، وفي القلب غصة. حتى إذا صارت حيال أمها وأخوتها لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء، وكانت عازمة، في الوقت عينه، على الظهور بمظهر الشجاعة والقوة، وهي لطالما أثارت قلقهم عليها. غير أن "هنية" لم تكن وحدها في ذلك اللقاء. فوجدت من حولها كل الناس وقد أفقدهم الموقف كل مبادرة. وللحال، وجدت الحراس والحارسات يحضون الآخرين، وبشيء من اللطف، بأن يتحادثوا في شؤون أخرى ويتركوا الدموع لوقت آخر. وراحوا يكررون قولهم للأشخاص الذي وقفوا لا يلوون على شيء، في مقابلة أعزائهم السجناء بعد طول سنوات وسنوات. "هيا، استفيدوا من الوقت، سوف يمر الوقت سريعاً".

كانت الكلمات تخرج، بصعوبة لافتة، من أفواه المتقابلين. وقبل أن تصير "هنية" قبالة هذه الوجوه القريبة، أُمرت بألا تتحدث في السياسة، ولا في ما عاشته في معتقل الخيام، والا حرمت من المقابلة. وطُلب منها أن تقول إن كل شيء يسير على ما يرام، وأن تطرح على أهلها أسئلة عن صحة كل منهم، وعن الأخبار ذات الصلة بالعائلة، من مثل الولادات والزيجات والوفيات. وأصخت السمع حين عادت جارتي الى زنزانتها. كانت هنية لا تزال تبكي وهي تجتاز عتبة الزنزانة. وجعلت تروي لي المشهد، ونوبات البكاء تقطع عليها مجرى كلامها، وقالت إنها كانت فرحة، مع ذلك لأنها تمكنت أخيراً من رؤية كل الناس.

إذاً، لقد أنجرت "لجنة الصليب الأحمر الدولي" وعدها الأول. ويعود الفضل الى نجاحها الى عناد أشخاصها وصلابة مواقفهم. لقد أمكن لها أن تنتزع انتزاعاً، من الإسرائيليين وبعد صراع حقوقي مرير معهم، حق السجناء بلقاء اهلهم. كما حصلت "لجنة الصليب الأحمر الدولية" هذه إنجازاً آخر، يتمثل في تحسين ظروف حياتنا. ولم يكن السجناء، الى حينه، قد تلقوا إلا بعض الثياب المرسلة من العائلات المقيمات في المنطقة المحتلة. ومنذ تلك اللحظة، سوف يكون لكل العائلات اللبنانية الحق بإرسال طرود تحتوي على ألبسة وأطعمة. إذ تحمل عائلات المعتقلين هذه الطرود الى مكاتب الصليب الأحمر الموزعة في لبنان. وتعمد بالمقابل، لجنة الصليب الأحمر الدولية، الى تجمعيها وإرسالها الى معتقل الخيام. وبعد تفتيش تلك الطرود، تُسلم الى المعتقلين من أصحابها. وكانت الطرود الأولى خالية من الأطعمة، إنما احتوت على محارم وصابون وشامبو. هذا الأمر كان بمثابة الثورة لنا. ومن ثم أتى دور البسكوت، والسكاكر، والسكر، والقهوة، والثمار المجففة، والحبوب على أنواعها.

وفي الصبيحة التي تلت الزيارة الى هنية، وكان يوم الأربعاء، حصل أمر مفاجئ آخر، إذ تلقى المعتقلون رسائل للمرة الأولى. وكان أن سرى الخبر في السجن كالنار في الهشيم، من زنزانة الى أخرى. وحين سلمتني الحارسات رسالتي الأولى، دعينني الى أن أقرأها بصوت عال، وكانت الرسالة هذه من ذوات الشكل المتبع لدى "منظمة الصليب الأحمر الدولية" والتي لا تنقل فيها إلا رسائل موجزة، ولا تكاد أسطرها تتجاوز الدزينة الواحدة. تعرفت الى خط والدي، فيها. وأردت أن أقرأ، ولكن الكلمات يبست في حلقي. دعتني الحارسات لشأني، وأعطينني قلماً. ولم يكن لدي سوى ربع ساعة لأخط فيه جواباً بإيجاز مماثل. وفي زنزانة مجاورة، حيث تنزل ثلاث فتيات، اثنتان منهن أميات، جعلت المتعلمة الوحيدة تنسخ الرسالة التي كتبتها مرتين أخريين، مع تبديل طفيف في الأسماء. وكانت هذه اسرع طريقة لإنشاء الرد على الرسالة، في الوقت المحدد.

وكانت الفتاة المتعلمة، والتي تحسن الكتابة، لا تني تؤنب المعتقلة زميلتها، تأنيباً رقيقاً، داعية إياها للكف عن البكاء وإعطائها أسماء أقاربها.

أما أنا فكتبتُ الإجابة على وجه السرعة وعاودت قراءة الرسالة التي بعث بها أبي.

إنه والدي، إذاً من استعاد ريشته وأخذ يكتب، وهذا ما لم يفاجئني به. عرفت، في الرسالة، أسلوبه المتزن. وشرح لي في كلما معدودة كيف تسنى له الكتابة وأحاطني علماً بمستجدات العائلة، ولا سيما ما خص والدتي. وأعلمني بالولادات الجديدة التي كان لقدومها الخير أن أغنت حياة العائلات لدى كل من أخويّ وأختي، وأكد لي أن كل الأمور تسير على ما يرام في عمله. وأخيراً، أبدى لي أمله بأن يراني حرة في القريب العاجل. ذلك أن هذه الرسالة، هي خير علامة له. وأجبته بكلمات مداعبة.

فطمأنته بأن المعنويات عالية، وأن رسالته ملأت كياني فرحاً. وأخبرته أني آكل جيداً وأنه، حين ينقصني شيء، كالبصل لاستكمال طبق الفول، فيكفي أن أنادي على جاراتي بأن يأتين لي بالمقوم الناقص في الطعام، حتى يحضر على يد الحارسات.

كانت لي هذه الرسالة فريدة للغاية، لأنها الرسالة الأولى التي خطتها يداي لعائلتي.

لم يمض يوم على الرسالة، حتى استدعيت للخروج من زنزانتي، وقيل لي: "يجب ان تأخذي حماماً". وكانت الحارسات يعلمن أني استحممت البارحة، فأدركتُ، في سري، أن ثمة زيارة تهيأ لي. استدعيت لدى المستجوبين وحالما مثلتُ أمام سمير سألني إذا كنت أخمن ما قد يحدث لي. فأجبته بأن أعضاء من الصليب الأحمر قد يكونون أتوا لزيارتي. فصحح لي سمير قائلاً: "بل إنها والدتك، أترين، نحن أناس أوادم، ولسنا مثلك تهيئين لعمليات اغتيال. سوف ترين والدتك، ولكن إياك وكلمة واحدة في السياسة، أو في ظروف الاعتقال، أو نوقف كل شيء".

في الصباح اليوم التالي، اخترت ثياباً خاصة للمناسبة، الوشاح والكنزة اللذين تركتهما لي كفاح. وأنا أعلم أن هذه الأخيرة سوف تسأل والدتي عن أخباري حال عودتها الى بيروت، وأن والدتي سوف تروي لها كل هذا المشهد. وأخال أن كفاحاً قد تسرّ بهذه الالتفاتة نحوها.

وضع الحراس غطاء الرأس علي فغادرتُ زنزانتي. وساقني هؤلاء الى قاعة يفصل ما بين طرفيها شباك طويل من فولاذ. من جهتي، كان جمهور من الناس، ولكن نظرة فاحصة أظهرت لي أنهم كل المستجوبين ورجل مقنع أمكنني التعرف إليه سريعاً: إنه وائل. انفتح الباب في مقابلتي. ظهرت والدتي، وهي تتقدم على ركبتيها باتجاه الشباك. إذ كانت تقدمت بنذورها أن تزحف على ركبتيها إن هي عادت ورأت ابنتها حية. وظلت وفية لنذرها. كانت ترتدي تنورة، وصداراً وفوقها سترة. فقلت في نفسي، ولربما كانت لا تزال تشعر بالبرد، ما دامت التنورة لا تقيها كفاية. ثم نظرتُ إليها فرأيتُ الشيب قد غزا شعرها.

قالت: "كيف حالك، يابنتي؟"
"أنا جيدة، وأنتِ؟"

وانطلقت المحادثة. فسألتني عما إذا كانت تغيرت كثيراً عما مضى، ثم أطلعتني على أخبار أخوتي، وأختي، وأولادهم. وللحال، رددتُ عليها راجيةً بألا تجلب الأطفال معها الى هنا. ثم توجهت والدتي نحو الحضور، شأن محامي الدفاع في محكمة الجنايات، في نوع من المرافعة الرنانة: "إبنتي ليس إرهابية. إنها تلميذة مجتهدة، وهي تحب الدروس، وتستحق أن يطلق سراحها لتعود الى جامعتها. الماضي مضى".

واستعرت المشار في صدرها حتى أعلنت استعدادها للقاء قائد جيش لبنان الجنوبي، ضحيتي، أنطوان لحد، إلا أني أوقفتها وقلت: "ماما ليس الآن وقته".

وطالت محادثتنا. ثم قال أحد الحراس: "انتهى". إثر ذلك، وضعت والدتي يدها على أحد القضبان وسألتني أن أعمل مثلها. كنت أعرف أن ذلك ممنوعاً، فلم أحاول. وسارع الحراس الى أخذي، حين دست والدتي يدها في الحقيبة وصرخت: "حملت لك سندويشاً!". فأجبتها بأن لا شيء ينقصني هنا، لأطمئنها. ولم أكد أنهي هذه الجملة حتى غدوتُ خارج لقاعة، مخفورة بالحراس. لن أقوى، ما حييت، على نسيان عينيها، ولا يديها بالمتشبثتين بالقضبان.

ولدى عودتي الى زنزانتي رحتُ أجري حساب هذه الأيام التي لا تصدق. وتبين لي أن امتياز اللقاءات الأولى هذه يعود الى القدامى من المعتقلين أو المعتقلات، على حد سواء. ولما كنت حذرة حيال كل الأمور، رأيت أن أمتنع عن استخراج العبر والآمال العراض، أو أتخيل إخلاءً لسبيلي قريباً.

إذاً، أمكن للمراسلات الأولى أن تبدل وضع المعتقلين. وسمعت الرجال يبلغون جيرانهم أخبار عائلاتهم، وبصوت عال، وينشرون آمالهم ومشاعرهم على الملأ. وكنت أظن أن الرسائل والزيارات يمكن أن تشكل وسيلتي ضغط علينا. على أي حال، قلت في سري أنه لن تكون لي زيارة من عائلتي، إلا قبيل خروجي من السجن. وكان هذا الاحتمال الأخير مستبعداً من ذهني لأسباب عديدة، لأني كنت أعلم أن لجنة الصليب الأحمر الدولية قادرة على زيارة المعتقلين، غير أنها عاجزة عن إخلاء سبيلهم.

واستهل العام 1995 بجو من التجديد. ورأينا أعمال الترميم جارية في المعتقل. وفي ما خص النساء، فقد أُعدت ثلاث زنزانات وأثثت على طراز في غاية الرفاهية، وهذا يعني قاعات للإستحمام مجهزة بمغاسل وبرشاشات للماء حديثة للغاية. كما أن أسرّة إسرائيلية كانت مستخدمة في الجيش، وُزعت على أغلب الزنازين، إلا ما خص زنزانتي. وكان أبو نبيل مصراً على أن أتقدم منه بطلب شخصي. وكانت الحارسات يصررن دوماً على قيامي بهذا الدور، غير أني بقيت أرفض التعاون مع قائد معتقل الخيام. مهما كان الثمن. حتى إذا مضى شهر على الزيارات الأولى هذه، رأيت عدوي ماثلاً أمام زنزانتي، واستدعى حارسة وأمرين بأن ألحق بها. فاستنتجت أنه سوف تحصل أمور جديدة، في القريب العاجل.

وفي صباح اليوم التالي، فُتح الباب واستدعيت لأمثل على العتبة. كان ثمة لجنة للإستقبال، قائمة على بعد أمتار أمامي. فعرفت منها، أبو نبيل، والحارسات، والحراس والقائد العسكري للمعتقل، أي ما مجمله سبعة أشخاص. وكان هؤلاء يحيطون بفريق مؤلف من أربعة أشخاص مجهولين، وتعلو بزاتهم شارات اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وكان المسؤول عن هذا الفريق الصغير يبدي استغرباه بالفرنسية حال اكتشفني: "أنتِ سهى ، بالتأكيد!". ثم انعقدت الأحاديث فيما بيننا على مدى دقيقتين اثنتين. وأخبرني الرجل ذاته، "بلتازار"، بأن والدتي كسرت ساقها، ثم أنبأني بأنه سوف يعود قريباً، على ما أكده عامر، المسؤول العسكري في معتقل الخيام.

وأغلق باب زنزانتي.

وتواصلت زيارة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الغد.

وهكذا تمكنت اللجنة بأفرادها القلائل، من استطلاع حال كل فرد من المعتقلين في معتقل الخيام، وإن بصورة سريعة.

ولسوف تعود اللجنة الدولية للصليب الأحمر بصورة منتظمة الى معتقل الخيام، لتنظر في أحواله، بدءاً من ذلك التاريخ. وكان "بلتازار" الذي تفاوض مع أنطوان لحد شخصياً في شأن دخول الصليب الأحمر الدولي الى معتقل الخيام، توصل أخيراً الى دفع الأمور لصالح المعتقلين، أكثر فأكثر.

ولم يمض زمن على ذلك اللقاء حتى حظي عضو من المنظمة السويسرية بالأذن بدخول أية زنزانة للتحدث مع السجناء. ذات صباح، دخلت "كلارا" الى عريني، رغماً عن تحفظات الحارسات. هي امرأة شابة بهية الطلعة في الثلاثين من عمرها. تفهم العربية وتعبر بها بيسر عما تريد. فأسرت لي برضاها بعد كل الجهود التي بُذلت، على مدار السنوات السابقة، وأكدت لي أنهم سوف يبذلون قصارى جهدهم في سبيل أن يشهد مصيرنا تحولاً إيجابياً، ثم طرحت علي أسئلة تتعلق بظروف الحياة التي عشتها، ههنا. فكان أن أثرت تجربتي في الأسر، التي رويت لها فصولاً منها، تأثيراً دفعها الى البكاء. وراحت تضاعف الأسئلة وتدون الملاحظات الكثيرة. ثم عاينني طبيب، فأثرتُ انتباهه الى الحالة المزرية التي صارت إليها الأدوات الصحية في السجن، والى حالات النزيف الحادة والخطير، التي تحدثها جلسات التعذيب في النساء اللواتي لا يزلن في فترة حيضهن.

وجرى لقاء آخر لنا في زنزانة فارغة. فرحتُ أروي، تفاصيل اعتقالي، وجلسات الاستجواب، والمرات التي وضعت فيها بالحبس الانفرادي . وكانت "كلارا" تطلب مني أن أحدد لها الدواعي التي جعلت أبو نبيل يقرر وضعي في الانفراد. وفي نهاية الحديث، انضم "بلتازار" إلينا. وقال لي أنه لن يكتفي بهذه الجهود التي قام بها. وأوصى بكتب وبأدوات يسعنا أن نستخدمها في أوقات فراغنا. وجعل يعتذر مني، مداعباً، من كوني مناضلة شيوعية ولا يسعها قراءة أعمال كارل ماركس وأنجلز. وأدركت، بعد ذلك ان الرقابة المفروضة على الكتب ذات الصبغة الشيوعية دون غيرها، هي التي حالت دون وصولها. فأكدت له أن القرآن وحده هو الكتاب الأعظم فائدة لصديقاتي المسلمات.

وقبل أن يغادر "بلتازار"، عاودت التأكيد له على انعدام العناية الصحية والأدوية من المعتقل. حتى رأيت الحارسات، إثر هذه الزيارات، وقد اعتراهن القلق، وساورتهن الشكوك، وظنن أن شيئاً ما يُحاك ضدهن. فجعلن يسألننا، ألف سؤال، لمعرفة ما قلناه للجنة الدولية للصليب الأحمر. وأبو نبيل كذلك، رايته شديد الاضطراب والقلق. حتى أنه أخذ يستدعي المعتقلات الأكثر طواعية ليستنطقهن عن الزيارات. وعلى الرغم من مخاوفي، فقد استمرت الزيارات ولم تنقطع الرسائل عبر البريد.

وقد تسنى لي أن أقابل والدتي للمرة الثانية في كانون الأول / ديسمبر من العام 1995. فكان أن اتسمت أحاديثنا، هذه المرة، بنبرة أخف وألطف من السابق. وإذ أنبأتها بأنها لم تتغير منذ رأيتها، ردت بأنها وُضعت في البراد بعيد العملية التي قمتُ بها. ولم تحدثني عن ظروف اعتقالها، هي، في هذا السجن. وقد علمت، فميا بعد، أنها، قبل اعتقالها، أُخطرت من قبل زوجة عمي، المناضلة المشهورة والمسجونة لمرات متتالية في الماضي، من كونها وُضعت قيد المراقبة في منزلها، بدير ميماس، لشهرين متواصلين. حتى صار مجموع المقابلات التي جرت لي مع والدتي في جدران معتقل الخيام ستاً، وآخرها كانت في آب / أغسطس من العام 1998.

وفي كانون الأول / ديسمبر من العام 1995، تحققت وعود اللجنة الدولية للصليب الأحمر . وها أن الحارسات يوزعن علينا الكتب من مختلف الأصناف. أما طرد الكتب الذي طالما انتظرته فلم يبلغني إلا في الثامن عشر من كانون الأول / ديسمبر. وكنت قد تلقيت، قبل ذلك بأسبوع، أول كتاب لي منذ سنوات، وهو كتاب الإنجيل باللغة العربية. في حين حيظت زميلاتي المسلمات بالقرآن، لكل منهن كتاب. وصرنا، بدءاً من تلك اللحظة، نزود بالمجلدات المرغوبة التي كان علينا أن نعيدها جديدةً، بعد قراءتها، لنحظى بغيرها. وهكذا بات لنا مكتبة متنوعة للغاية، تضمنت اعداداً كبيرة من الأعمال المتنوعة كالسير (وأذكر منها كتاباً يتناول حياة غورباتشيف)، أو كالأبحاث العلمية (شأن الكتاب الذي أصدره الاستاذ الجامعي دومينيك شوفالييه والذي خص فيه بالدراسة جبل لبنان)، أو الأعمال الروائية، التي لا تليق البتة بإطار الخيام ومعتقلها، والتي تعود الى بربارا كارتلاند. وبالمقابل كنا نقرأ الأعمال الدينية التي راح فيها مؤلفوها يمجدون أعمال المقاومة ضد المحتلين، وذلك في توطئة الكتب، كما تجد فيها رواية تاريخية تجري في ظل الانتداب البريطاني. والشيق في الأمر أن هذا الكتاب يروي حكاية مقاوم أردني تصدى للانتداب البريطاني، وقد بلغ وصف هذا المقاوم ومشاعره حداً، إذا ما قارنته القارئات في معتقل الخيام بما هن فيه لأطلقن العنان لضحكهن وسخريتهن، حتى ادرار الدمع.

كما أننا تلقينا كتباً مدرسية لتعلم اللغات الأجنبية، كالفرنسية والإنكليزية، غير أنه لم يتسن لنا على الإطلاق، أن نألف مجالاً جامعياً محدداً، كالذي وضع في تصرفنا، نظراً لظروف السجن وحداثة عهده بالشأن التربوي. والحال هذه، فقد ألزمتُ نفسي باتباع نظام صارم في ما خص القراءة، إذ ليس هناك مجال لأن أتعدى الخمسين صفحة في اليوم، تجنباً لمشاكل في الرؤية والنظر، بعد كل هذه السنوات التي قضيتها محرومة من الكتب. بيد أني فضلتُ، من بين كل الكتب الموضوعة في التداول، كتاب "رجال وسلام واحد"، لمؤلفته اللبنانية كارول داغر، والذي تروي فيه مسار السلام الإسرائيلي – العربي بعد حرب الخليج، والذي بلغ أوجه في الاتفاقات المعقودة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الى ذلك، يفصّل الكتاب في تبعات هذا السلام على لبنان والأراضي المحتلة. وكان هذا الكتاب مناسبة فريدة لي لأطلع على ما جرى في بلادي، وفي المنطقة ككل، خلال السنوات الأخيرة التي طبعتها نهاية الحرب الأهلية بميسمها.

وفي العام 1996 أدخلت إلينا اللجنة الدولية للصليب الأحمر المواد التي طال انتظارها – الأسلاك، والكرتون، والورق، وأدوات التلوين، وأحرف للطباعة. وقبل أن تأتينا هذه الدفعة المدهشة، بزمن قصير، كنتُ أهديتُ كلاً من أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر قفازاً صغيراً من عمل يدي، فحصلت "بديعة" المترجمة، و"بلتازار"، و"كلارا" وكل الآخرين على واحد من هذه القفازات. وهو عبارة عن جيب صغير، نسجتُ في داخله زهرة ذات ألوان عديدة. ذلك أن عمل النجدة، بالنسبة لي، هو أن يمد المرء يد العون الى أخيه الإنسان، وما الزهرة المحمية براحة اليد إلا الكائن البشري، بنظري. ثم إني حبكتُ وروداً لـ "كلارا" ولـ "كورين"، ولعضو آخر من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. أضف الى ذلك، أنه يوم فُتح باب الزنزانة حيث كنتُ واثنتان من زميلاتي، ووضعت الحارسات الأدوات في كيس، امامنا، لم نصدق ما تراه عيوننا. وللحال، مضت "هنية" و "فاطمة" تستخدمان الأدوات وتجهزان أساور، وأقراطاً للأذن، وعقوداً، وكانتا تبقيان لساعة متأخرة من الليل مثابرتين في عملهما. أما أنا فانكببتُ على رسم فني ذي خطوط هندسية بالغة التعقيد، لأتمه هدية للجنة الدولية للصليب الأحمر. ثم قرّ رأينا على أن ننظم جهودنا في مشاغل: أنا أرسم وزميلاتي يلونّ.

وظل الكرتون، لوجوده بين أيدينا، يحيرنا في وجه استعماله. ولما أُسقط في يدنا ولم نجد مخرجاً للأمر، طلبنا من الحارسة "سميرة" أن تكتشف لنا عما يفعله السجناء الرجال بالكرتون. فجاء جوابها صاعقاً لنا: إذ قالت إنهم يتدبرون أمرهم في هذا الشأن، حتى ليفوقوننا كثيراً. وتفكرنا في أننا ربما وجدنا فنانين، من بينهم. وظللنا مصرّات على معرفة المزيد. حتى أتتنا الحارسة وفي يدها بعض الأغراض التي صنعوها من الكرتون، فاعترفنا لها للحال بتفوقهم في هذا المجال. ورحنا ننسخ نماذج السبحات التي جعلوا يصنعونها، واستوحينا كذلك، من خبراتهم يوم ابتكرنا بطاقات للمعايدة. ولما كان السجن يحوي عدداً كبيراً من الشيعة، فقد جعل المعتقلون يرسمون شعاراً بات مألوفاً، وهو قبضة الإمام علي بن أبي طالب وهي ممسكة بالسيف، سيفه. ومن ثم أهدينا الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، رسماً هو أقرب الى الخط العربي محبوكاً على الكرتون، وقد جعلنا نجانس بين الألفاظ فيه:

"النصر نصرُ الله". بيد أن الحارسات كن لنا بالمرصاد، فصادرن نتاجنا، في اول حملة تفتيش أتيحت لهن. فالسجن هو السجن.

الحلقة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى