الاثنين ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم فيصل سليم التلاوي

الخديعة

أفضى طرزان إلى رفيقه شيتا بالسر الذي ناء به صدره طويلا منذ بداية لقائهما في الغابة، وصحبتهما لعالم الحيوان والطير وسائر الدواب والهوام بعد أن أعيته الحيلة في تفسير هذه الظاهرة الشاذة التي لم يلحظها إلا عند صنف واحد من الوعول البرية دون غيره من سكان الغابة. فبادر صديقه بالسؤال:

- ألم تلحظ يا شيتا ما لحظته من انفراد الوعول بنوع من الحياة الاجتماعية غريب وفريد من نوعه بين سائر الكائنات؟

 بلى

رد شيتا ساخرا مستهزئا.

 لعلك تقصد اجتماعها البليد في أُسر تحت رآسة كبير منها تعتمد عليه في تدبير شؤون حياتها مما يورث صغارها وإناثها الكسل والسمنة والبلادة.

 ذلك بالتحديد ما قصدته في سؤالي, فلمَ يختلف هذا الصنف من الحيوان في سلوكه وعاداته عن بقية الكائنات؟

أجاب شيتا بعد أن أعمل فكره:

 ما ورثته كل كائنات الغابة أبا عن جد, وما تمارسه في حياتها هو مظهر واحد مشترك في الكد سعيا وراء قوت يومها، لا ينوب ذكر عن أنثى, ولا كبير عن صغير, إلا أن يكون رضيعا أو وليدا، تتكفل أمه بإرضاعه،أو اصطياد الفرائس وتمزيقها له ريثما يشب عن الطوق, فيعتمد على نفسه,ويشق دربه في الحياة اعتمادا على قدراته, فالبقاء للأقوى والأصلح في قانون الغاب.
أما مواسم التزاوج، فهي منظمة ولها مواعيد سنوية محددة لا تتقدم عنها ولاتتأخر، فلكل صنف موسم للتلاقح وأوان للولادة لا يحيد عنه.

ليس الحبل عندها على الغارب, و لا النكاح في كل آن، و لا المواليد في كل الفصول كما هو شأنكم معشر البشر.

تختار الأنثى أو الذكر رفيقه الذي يعجب به من بين سائر جنسه, فيتبادلان أعذب ألوان الغزل في حركاته و إيماءاته, وأحر قبلات الغرام والهيام على مدى أيام الموسم، ويختمان تلك الصحبة الحميمية بالتزاوج لغرض بقاء النوع، ثم يفترقان بعد أن تطمئن الأنثى إلى أنها قد حملت الوديعة الغالية في أحشائها، لتتكفل وحدها بمواصلة حمل الأمانة جنينا فرضيعا أو زغبا، حتى يشتد عودها وتتمرس على مواجهة الحياة، فتجدد تجربة آبائها وأمهاتها في موسم تزاوج مقبل.
أما الأب فإن دوره ينتهي في هذه المسرحية الحياتية بعد أن يؤدي دوره في غرس بذرة الحياة في جوف الأم.إلا أن يكون له دور ثانوي يكمل به مهمته عند بعض الأنواع، كالتناوب على تدفئة البيض ريثما يفقس عند بعض الطيور.

لا يجمع العاشقين المولهين السابقين جامع بعد لقائهما الموسمي، وتتلاشى العاطفة التي جمعتهما قبل حين، ولا يخطر ببالهما معاودة التجربة أثناء الحمل أو بعده، حتى تتحرك في أعماق كل منهما بذرة الحياة الكامنة في موسم جديد.

هكذا تمارس الكائنات حياتها الهانئة المتجددة، وكل منها يمارس خياره، ويتمتع بحريته, وينطلق غير مثقل بقيود تشده من ورائه ومن أمامه إلا فصيلة الوعول البرية، فإن أحدها ما إن يختار شريكته في موسم تلاقح حتى يحتكرها لنفسه أبد الدهر، وينصّب نفسه حارسا ووصيا عليها أثناء الحمل وبعد الولادة، وبعد ترعرع الأبناء بل وبعد فتوتهم وشبابهم، بل إنه يرسم لهم مجرى حياتهم المستقبلية بتدخله في اختيار شريكات حياتهم وفقا لمزاجه الخاص، مثلما اختار له أبوه من قبل.

لا يتنازل عن وصايته أبدا، ولا يتخلى عن موقعه إلا أن يهدّه العجز، أو يدفعه عنيد من أبنائه أو أحفاده دفعا إلى التخلي عن هذا الموقع، أو تمله أنثاه فتهجره بعد أن تتلاشى مواهبه القيادية، وتنضب ينابيعه الجوفية.

الأثرة وحب التملك هي الغريزة المحركة لهذا الكائن. إنه يجد من المتعة في تسلطه على أنثى واحدة مدى الحياة، ما يجده غيره من متعة في أن ينقل فؤاده حيث يشاء من الهوى في كل موسم، إلى جانب خلو البال من تبعات العناية بالصغار وتنشئتهم, وتتندر حيوانات الغابة إناثها وذكورها ساخرة من طباع هذا النوع من الوعول في مجالسها ومنتدياتها، فمن قائل:
 إنه يجامع أنثاه خلال فترة حملها!

 بل وأدهى من ذلك، بعد ولادتها وعلى مرآى صغارهما!

- وطوال العام من الموسم إلى الموسم!

 إية فضيحة هذه! كأنه لا يفكر إلا في ذلك الشيء.

 إنه أسوأ من القردة التي تتلهى بأدواتها حين لا تجد ما تتلهى به, لكنها لا تمارس الفعل، أما هذا الوعل فيعبث ويمارس الأمر فعليا في كل وقت.

 ياله من كائن يثير السخرية !

 ألا يمل تكرار الشرب من نفس بئره الأولى؟

 لعله لم يذق طعم غيرها قط، وربما غيّر كل عاداته لو غرر به أحدهم وجعله يجرب ذلك.

 أبدا. إنه لا يغير شيئا من طبعه، فقد حدث أن بعض ذكوره قد كررت التجربة فعلا مرة ثانية وثالثة.

 وما الذي حدث؟

 إنه يضم أنثاه الجديدة وصغارها إلى حوزته، فينتشي بتعاظم نفوذه وسلطانه، وازدياد عدد رعاياه، وتوسع أرجاء مملكته الأنثوية.

ويواصل شيتا سرد حكاية الوعل البري ساخرا:

 غير أن أنثاه التي تستمريء هذه اللعبة التي عوّدها عليها، تعمد إلى إيقاعه في حبائلها، وقد أدركت نزعة الغرور التي تسكنه وتحركه، فتعمد إلى استغلال احتكاره لها، وتقديم تسهيلاتها له دون أدنى جهد منه ووقتما يشاء. تعمد مقابل خدماتها المجانية تلك إلى ابتزازه إلى أبعد حدود الابتزاز, مشترطة في البدء أن يتكفل بإيوائها وإطعامها وحمايتها من عاديات الطبيعة وسباع الغابة، لتتفرغ لطلباته، وتتهيأ للقائه الدائم في أبهى صورة. فتخلد نهارها وليلها إلى سكينة وادعة لا يعكرها اصطياد الطرائد، ولا يكدرها استعداد دائم لدفع الوحوش الضارية، ولا تحرشات الذكور من أبناء جنسها في موسم التزاوج، بعد ان ألقت بكل تلك التبعات الجسام عل عاتق سيدها المطاع، الذي يضاعف جهده مرتين ليفي بحاجاته وحاجاتها الغذائية والدفاعية، فيمضي نهاره مطاردا الفرائس من جهة، وذائدا عن حرمه المصون من جهة أخرى.

ولا تكتفي أنثاه منه بذلك، بل إنها كلما آنست منه اعتيادا عليها وألفة لها، وربما عجزا عن تلبية بعض مطالبها، التي تزداد مع خلودها للراحة وهدوء البال ليل نهار، مادام لا يهدّ بدنها مشقة مطاردة ولا مدافعة، فإنها تصبح أكثر منه إلحاحا و رغبة في الأمر الذي حبسها من أجله وعوّدها عليه.

إنها تمعن في الإيقاع به وقد أدركت نقاط ضعفه، وأيقنت أنه بات في موقع لا يستطيع فيه إلا التقدم في الطريق المرسوم، فقد ملأ صغارها الغار الذي تأوي إليه, ويكفي أنها تتكرم عليه بإرضاعهم حشاشة قلبها، وخلاصة بدنها الذي تخشى عليه الهزال والتغضن، فلا يعود مغريا ولاجذابا لأبيهم كسابق عهده، فتملي عليه شروطها الجديدة:

 إطعام الصغار واصطياد الفرائس لهم وتأمين حمايتهم من مسؤولياتك الجديدة يا أبا العيال. يكفيني إرضاعهم لك، وتدبير شؤون منامهم وتدفئتهم في كهفك الذي ضاق بهم.
فيضاف إلى عبئيه السابقين أعباء جديدة، ويحمل على منكبيه المهدودين مسئوليات جسام تنوء بحملها العصبة أولو القوة.

بينما تسترسل وصغارها في لهو ومرح يمضون به سحابات أيامهم, فإن الوعل (الزعيم) يوهي قرنه نطاح الوعول وسائر الضواري، ليؤمن الزاد والحماية لأفراد القطيع المنضوين تحت لوائه، المستلقين على ظهورهم في كهفه انتظارا لعودته غانما يجر صيده.
وهنا يقاطع طرزان حديث شيتا إذ لم يطق عليه صبرا:

 إنه يستحق ذلك وأكثر ما دام يجني حصاد ما زرع. لكنني أتحرق شوقا إلى معرفة مصيره الذي يؤول إليه عندما تدركه الشيخوخة؟

 عندما يحين أوان ذلك، تلفظه أنثاه وتنصرف عنه إلى فحل فتيّ، ربما كان أحد أبنائها أو أحفادها، إن كان لا يزال بها كبد رطب وبقية من رواء لطول خلودها للراحة والسكينة، فإن يبس عودها مثله ولم تبق بها باقية، فإنها تمضي بقية أيامها متمسحة بأعتاب الأقوياء من أبنائها، متوسلة فتات موائدهم. يدفعها هذا عن بابه مرة ويتفضل عليها ذاك مرة أخرى، وقد أنسيت ذكر سيدها القديم.

أما أبناؤه الذين حلم طويلا بإلقاء تبعات عجزه وهوانه عليهم, وطالما أشبعهم مواعظ ودروسا في وجوب رد الجميل للوالد، والسهر على راحته وتأمين احتياجاته عندما تدركه الشيخوخة ويقعده العجز, فإنهم لا يلقون بالا لما سمعوا منه سابقا, وقد شغل كل منهم عنه بأمر يغنيه. فيظل مهملا عاجزا إلى أن تلفظه الحياة على مرآى أبنائه الذين أمّل فيهم كثيرا. بينما يعاود كل منهم لعبة المزاوجة بين شهوة السطوة والنفوذ و بين الوقوع في فخ الخديعة ذاتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى