الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
بقلم محمد نديم علي

الدرس الأول

كان التلاميذ يصطفون تحت الشمس الدافئة وقد انتصبت سارية العلم وسط الساحة على حين كان سرب العصافير يحلق قرب الراية التى تداعبها نسائم الصباح.؟

كان صوت المعلمة رقيقا ومتهدجا بالمشاعر فى آن واحد..فى كلمة الصباح.. عن الأرض التى علمتنا الحكمة.. عن الرجال الذين هبوا يذودون عن الوطن شر اللئام عن عيون الجند الذين أصروا ألا يعودوا بها إلا اكثر القا وتوهجا.. يطلون كرغيف خبز دافئ فى ليل الفقراء.. عن الحب الذى لابد أن يجمع كلمتنا.. عن الأمهات اللاتى يحملن الأمل فى عيونهن بالمستقل الجميل رغم اتشاحهن بالسواد.

كان وليد يقف فى الصف الأول يمد قامته يطرق آذنيه يثبت قدميه فى الأرض ومع كل حرف تقوله المعلمة كان يشد يده اليمنى حول كراسته الصغيرة.. يزم شفتيه متعجلا.. انه الدرس الأول وقد سهر الليل بطوله يدبج موضوع الإنشاء (كيف تحب مدينتك الصغيرة)، متحفزا أن تسمح له معلمته بقراءة كل حرف مما كتب أمام زملائه.

* * *

• ألم تنم بعد يا وليد؟
اعتادت أن تمر على غرفته قبل أن ينام تطمئن عليه كل ليلة قبل أن تنزوى فى فراشها تضم رضيعتها، تلقمها ثديها وتهدهدها.. حتى تنام.. فلم يبق فى المنزل غيرهم بعد رحيل الأب إلى جبهة القتال. أخبار تتناثر عبر المذياع.. محادثات قد تثمر عن وقف لإطلاق النار.. الدول الكبرى تتدخل بقوة لوقف القتال. ألأمل يراودها أن يرجع أباهم ليضمه البيت الدافئ فى هذا البرد المتوحش.
• سأتم الموضوع يا أمى وسأرسل إلى آبى نسخة منه فى خطاب. ( أوصاه أبوه بان يتشبث بالقلم.. وحب أمه.. والصلاة)
• (سيأتى أبى منتصرا رافعا هامته.. سأقبله فى جبينه.. أتلمس بذته العسكرية.. شاربه.. ضحكاته.. سيأخذنا فى رحلة إلى الأحراش الخضراء.. نشوى اللحم ونلعب الكرة ونركض خلف الفراشات.. نشرب من النبع.. ماء الجليد الذائب فى دفئ الربيع)
• إليك كوبا من الليمون الدافئ فالبرد شديد. هاأنذا إلى جانبك حتى تكمل الدرس.
قبل أن تودعه فى ذلك الصباح بعينيها الدافئتين ضمته إلى صدرها بعنف.. رعاك الله يا ولدى.
• ساعد لك طعاما طالما اشتقت إليه.
قبلها فى وجنتيها أشار إليها مودعا وهو يركض مع زملائه نحو مدرسته الواقعة فى آخر البلدة.

* * *

حين همت المعلمة بإنهاء كلمة الصباح.. سقط فى ساحة المدرسة شئ ما..أرعدت السماء.. انفجرت الشمس فى مخدعها انهمر سيل من الغبار والطين والدخان وخيم شبح من الظلام وارتجت الأرض وانقلبت المدرسة إلى خيمة من نار.

* * *

كان سرب العصافير أشلاء ومزقا من الدم والريش تحت صارية العلم.. وتناثرت أوراق ملونة من دفتر صغير وبدت فى الأفق طرقا معبدة وبيوتا من أوراق الصفصاف ونهر على ضفتيه أشجار اللوز والنخيل والبرتقال وحدائق مزهرة وأرانب وفراشات وكان وليد عصفورا أخضر يرفرف خلفها مخترقا كل المسافات.. يحلق مغردا فوق مدينته الجميلة.

القاهرة 1988


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى