الأحد ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم ناهض زقوت

الدلالات الرمزية في فيلم «جسد»

تقول الراوية في نهاية فيلم «فاطمة»: «كتير ابعتي يا فاطمة وتحبستي في إطار الرسمة، عيبك انك عايشه جواها وما بدك تطلعي منها، بس لازم انتي وأنا وأنت وكلنا، انطلعها بره الرسمه، يمكن وقتها نعرف كيف راح تكون فاطمة».

تلك هي نظرة المخرجة وكاتبة السيناريو ريتا اسحق للمرأة، حيث أن «فاطمة» بكل دلالتها الرمزية التي جسدها الفنان ناجي العلي في تعبيراته الفنية، ما زالت أسيرة الصورة، عليها أن تتحرر كامرأة وتخرج من شرنقتها، من برواز صورتها وتنطلق إلى الحياة. ولكن ما زالت ثمة قيود تشدها إلى الخلف، وتسحبها إلى الإبقاء داخل الإطار الذي رسمته لها عادات وتقاليد المجتمع، وهذا القيد يتمثل في عدة أدوات تحد من حرية المرأة، وإبراز ذاتها كامرأة لها حقوق متساوية مع الرجل.

لقد حاولت المخرجة ريتا اسحق في فيلمها الجديد «جسد» أن تقدم أدوات قهر المرأة ونظرة المجتمع بما يمثله من ذكورية للمرأة.

وفيلم «جسد» من إنتاج الاتحاد العام للمراكز الثقافية وبتمويل من القنصلية البريطانية بالقدس عام 2011. وهو من الأفلام التي أثارت جدلا في المشهد الثقافي ـ الفني الفلسطيني، من حيث أن مساحة الرمز فيه أوسع من مساحة المباشرة، والمشاهد العربي تعود على السينما المباشرة، أما سينما الرمز والالتفاف على المباشرة ما زالت في طور التكوين. ويتميز بالتعبير الصامت من خلال لوحات بصرية ـ تشكلية شكلت مشاهد الفيلم.

ريتا اسحق كاتبة السيناريو والمخرجة حاصلة على بكالوريوس إعلام, تخصص إذاعة وتلفزيون, من جامعة الأقصى بغزة عام 2008، وحاصلة على العديد من الدورات في الكتابة الصحفية، وفي إنتاج الأفلام الوثائقية والتلفزيونية، وفي المخرجات الناشئات، وفي تعزيز الوعي القانوني والمدني لدى المرأة، وتعمل مراسلة صحفية لقناة الآن الفضائية.

حصلت على العديد من شهادات التقدير والتكريم والجوائز على أعمالها الفنية، فقد حصلت على المركز الثاني بالجائزة الفضية عن (فيلم فاطمة) في مهرجان غزة الدولي الثاني للأفلام الوثائقية عام 2010. وجائزة المركز الأول في مهرجان الإنتاج الإعلامي لطلبة كلية الإعلام, الدورة الأولى للأفلام الوثائقية عام 2006 عن فيلم (غزة البرتقالة).

أخرجت العديد من الأفلام والأعمال الفنية ما بين تسجيلية ووثائقية، منها: فيلم (سأعود إليهم) عام 2009 ، وفيلم (فاطمة) عام 2009، وفيلم (تموت البيوت إذا غاب سكانها) عام 2008، وفيلم (معاناة يتيم) عام 2008.

يطرح (فيلم جسد) قضية اجتماعية وهي الزواج المبكر، وسلب المرأة إرادتها في اختيار حياتها ومستقبلها، ويرسم مشاهد معاناة المرأة في ظل الرجل الشرقي. فبكل الصمت التي تعبر عنه المرأة الفلسطينية أو العربية تجاه حقوقها المسلوبة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، يقدم "فيلم جسد" في 15 دقيقة ملامحا من آليات قهر المرأة وإلغاء كينونتها كإنسانة في المجتمعات العربية.

يأتي الفيلم بالتعبير الصامت، المشبع بالدلالات الرمزية والإيحاءات المعبرة عن اضطهاد المرأة، وتعرية ذكورية المجتمع تجاه المرأة، دون الإغراق في الإبهام والغموض، حيث أن السينما الصامتة وهي من أصعب مجالات العمل السينمائي، تعتمد على الصورة والإيحاءات الرمزية، مع بعض الموسيقى المتدرجة حسب طبيعة المشاهد.

وقد قام البناء الفني للفيلم على مستويين: الأول، المنولوج الداخلي أو الفلاش باك، حيث الفتاة (النموذج/ الرمز) تستعيد مسيرة حياة أمها أو أختها أو عمتها أو خالتها، مع الرجل. والثاني، على التداخل بين صورتين/ أو مشهدين، صورة الواقع بما يمثله من قسوة تجاه المرأة، وصورة الصحراء بما تمثله من صورة متخيلة محملة بدلالات الجفاف وانعدام الحياة والخوف، جفاف الحياة الزوجية، والحرمان وعدم الشعور بالأمان، والجمع بين هاتين الصورتين يكتمل المشهد المعبر بإيحاءاته ودلالاته ورمزيته.

يفتتح الفيلم مشهده الصامت على شخصية "المأذون" الجالس في زاوية مع بعض الناس، في لقطة سريعة يتحدث، ونحن نفهم ما يقوله بحكم العادة، ثم يختفي. لتظهر فتاة في سن المراهقة يعتصرها الألم، تحتضن حقيبتها المدرسة، ثم تسبل عينيها. وتنتقل الكاميرا إلى الصحراء، حيث مشهد إلقاء الكتاب، وظهور الفتاة تحمل حقيبتها المدرسية وتجر بحبل مربوط بقدمها كتابا وتنظر إلى السماء.

يمنحنا هذا المشهد بالعديد من الدلالات، احتضان الحقيبة المدرسية دلالة على تمسك الفتاة بمدرستها وعدم رغبتها بالزواج وهي مازالت على مقاعد الدراسة. إلقاء الكتاب وهو دلالة رمزية على انهيار ثقافة المجتمع. والفتاة الحاملة حقيبتها ومربوطة بحبل وتجر كتابا دلالة على القيد الذي يقيدها اجتماعية والمرتبط بثقافة المجتمع.

وتعود الكاميرا إلى مشهد الزواج، فنلاحظ أن الفتاة/ الزوجة واضحة في المشهد في حين أن الزوج في الخلف بملامح سوداء، وتعبر حركة الشفاه عن خبايا النفس تجاه الأخر، ويدفع الزوج الزوجة بكل قسوة إلى السرير. لينتقل المشهد إلى الصحراء، فنجد الفتاة/ العروس بفستان الزفاف وبكامل زينتها وشفاه ملوثة، ملقاة على رمال الصحراء، وملامح الخوف والرعب تنتابها، وتنظر إلى السماء كأنها تستمد منها العون والأمان، أو تسألها لماذا أصبح حالها هكذا، وفي هذا المشهد تقترب السماء من رمال الصحراء.

ينتهي المشهد، وينفتح على مشهد جديد، الزوجة الغارقة في أعباء المنزل وتمارس حياتها الطبيعية في منزلها، تغسل الأكواب، وتظهر قادمة تحمل جنينا في بطنها وصينية الشاي لتقدمها لزوجها الجالس وهو يدخن، لتعود إلى أعباء المنزل ويبقى هو يحتسي الشاي.
نلاحظ في هذا المشهد دلالتين، الأولى تعبر عن نظرة الرجل الدونية للمرأة، وذلك من خلال الإشارة لها بيده أن تبتعد وتحمل هذه الإشارة تعبيرا عن الاهانة وعدم الاحترام، والثانية اختفاء الزوج ولا يظهر منه غير ملامح رجل جالس على كرسي، كأن وجود هذا الرجل في حياة المرأة هامشي، وهذا في الواقع مخالف للحقيقة.

موقف الرجل/ الزوج يدفعها إلى الصحراء، لتظهر من وسط الرمال في جو عاصف، تجر نفسها بحبل في قدمها مربوط فيه الكتاب والحقيبة وفستان الزفاف، وجنينها في بطنها، يعتريها شعور بالإرهاق والتعب وهي تجر نفسها، وتركز الكاميرا على مشهد الحبل المربوط بالقدم وما يحتويه. ونلاحظ أن هذه الأيقونات الثلاث تبقى مسيطرة على مشاهد الصحراء طوال الفيلم حتى نهايته.

ينتقل المشهد إلى غرفة الزوجية، لنجد الزوجة جالسة تهدهد طفلها الباكي، والزوج غير الظاهر نائم يتقلب في فراشه لا يعرف النوم من صوت الطفل، فيشير لها بيده لكي تخرج من الغرفة دون أدنى مسؤولية، كان هذا الطفل ليس ابنه وليس من مسؤوليته الاهتمام به والسؤال عما به أو لماذا يبكي، كل همه النوم والراحة وترك الأمر للمرأة. وهذا ما صوره المشهد، لا ندري مدى مصداقية هذه الرؤية في واقعنا؟.

وتحمل الزوجة جنينها وتذهب به إلى الصحراء، دلالة على شعورها بالجفاف في الحياة الزوجية والحرمان من الحب وعدم الشعور بالأمان، فتجر نفسها على رمال الصحراء مقيدة بالأيقونات الثلاث، تنظر حولها كأنها تبحث عن شيء ضائع وتنظر إلى جنينها.

في مشهد جديد يوضح الحياة التي تحياها الزوجة/ المرأة، في بيت شبه خرابة يفتقر إلى أدنى المكونات الحديثة للبيت العصري، فهي ما زالت تغسل على يديها. قد يكون هذا المشهد معبرا عن بعض فئات المجتمع ولكنه لا يعبر عن الكل.

ولكي تزيد المخرجة من اضطهاد المرأة على يد الرجل، تبرز موقف الابن/ الرجل من أمه، حيث يمر عنها دون أدنى احترام، ويلقي حقيبته المدرسية أمامها، ويذهب، والأم تنظر إليه بكل استغراب وألم، ثم يعود الابن مع أبيه بكل حميمية، تفتقدها الأم. كأنها أرادت أن تقول كل رجل كبير أو صغير يضطهد المرأة ولا يحترمها حتى الابن. إن مصداقية هذا المشهد مهزوزة على المستوى الواقعي، فالابن دائما يلجأ إلى أمه دون أبيه، وعلاقته بأمه أكثر حميمية من علاقته بأبيه.

يعود مشهد الصحراء بصورة مغايرة، إذ يركز المشهد على إبراز تكوينات الرمال المتعرجة وغير المستوية، كأنها تمثل حياة هذه المرأة/ الزوجة. فالكل يضطهدها ويجور عليها بكل قسوة. وتأتي من بعيد تجر نفسها ومربوطة بالأيقونات الثلاث، وتصل إلى مساحة من الصحراء مستوية دون تعرجات، دلالة البحث عن حياة مستقرة آمنة، وترتمي عليها صارخة، وناظرة إلى السماء كأنها تستنجدها أو تخلصها من العذاب والقهر.

وتصل الحياة إلى شيخوختها، فيبرز المشهد قبل الأخير الزوجة وقد كبرت في السن، تحمل صورة لابنها الشهيد أو الأسير أو المهاجر (دلالة رمزية) وهي تبكي، مما يعطي دلالة على أن الأم/ المرأة هي التي تتحمل وحدها مصائب الأبناء، والأب/ الرجل في نفس المشهد جالس ويدخن دون اهتمام. وتبرز قمة المأساة في موقف الابن الذي يتقدم ليقبل يد أبيه دون أمه، هذه المرأة الباكية والمتحملة قسوة الحياة.

ويأتي مشهد الصحراء ليكمل التعبير عن قسوة الحياة بالنسبة للمرأة وجفافها، فتظهر وهي عجوز ومازالت مربوطة بالأيقونات الثلاث، تجر نفسها على رمال الصحراء المستوية دون تعرجات، كأنها وصلت إلى مبتغاها ومرادها، وقد أنهكها التعب والإرهاق، وسنوات الصبر والتحمل، لتسقط على الرمال، وتفارق الحياة.

تستيقظ الفتاة من غفوتها، من ذاكرتها، وتنظر إلى صورة امرأة معلقة على الجدار، بكل حرقة وألم، فهي قد استعادت مسيرة حياة امرأة في ظل رجل، قد تكون أمها أو أختها أو خالتها أو عمتها (دلالة رمزية). ويقف الأب في نفس المشهد في الظل/ أو خلف ستار ليقدم التعليمات لابنته عن العريس المنتظر.

وينتهي الفيلم بإلقاء الرمال على الأيقونات الثلاث، كأنه يدفنها، فهي سبب تعاسة المرأة واضطهادها. وهذه الأيقونات الثلاث بما تحمله من دلالات وإيحاءات رمزية، هي كما ذكرنا، الكتاب ويمثل ثقافة المجتمع، وحقيبة المدرسة وتمثل الزواج المبكر، وفستان الزفاف والذي يمثل الحياة الزوجية التعسة. وتمثل هذه الأيقونات الثلاث رؤية الفيلم لأزمة المرأة ومأساتها في المجتمع، والخلاص منها قد يعيد التوازن لموقف المجتمع/ الرجل من المرأة.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل حياة المرأة الفلسطينية أو العربية كلها تراجيديا، ألا يوجد فيها لحظة أو لحظات من الرومانسية؟. لقد صور الفيلم وبالغ في الموقف من الرجل كأنه مجرم وغير إنساني وليس لديه أدنى مسؤولية، والمرأة تعيش في ظله بكل جفاف وحرمان وعدم أمان. والرجل أيضا كما صوره الفيلم جالس في البيت يدخن ويشرب الشاي، كأنه لا يعمل ولا يشقى من أجل أسرته، فلا ندري من أين جاءت المرأة بثمن الشاي. وهذا يؤكد أن الفيلم يتبني الرؤية الانتقادية وليس الرؤية الواقعية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى