الأحد ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم حسين أبو سعود

الدونمة: مسلمون أم يهود؟

الدونمة بين اليهودية والاسلام هو عنوان كتاب استمتعت بقراءته كما توقع كاتبه الدكتور جعفر هادي حسن عندما ذكر في السطر الأخير من كتابه ما نصه:هذا ما أردنا الحديث عنه في هذه الطبعة وأملنا أن يكون القارئ قد قضى وقتا ممتعا في رحلته مع الكتاب.

والحق أن ها كانت رحلة شيقة مليئة بالمعلومات والخفايا عن اليهود الدونمة أو المسلمين الدونمة، وقد كنت إلى فترة قصيرة لا أميل إلى الدراسات التي تعنى باليهود واليهودية حتى قدمت المؤلف يوما في ندوة عن اليهود في الديوان الثقافي العراقي بلندن فغرس في نفسي باسلوبه السلس وطريقته السهلة في الافهأم بالاضافة إلى روحه المرحة، غرس في نفسي رغبة الاطلاع على الدراسات اليهودية مما جعلني اوسع دائرة معارفي لتشمل اليهود لا سيما أن معرفة المخالف ضروري للتوصل إلى صيغة مناسبة للتعامل معه، وأنا شخصيا لا اعتبر اليهود اعداء ولكنهم يعتبروننا اعداء لهم حسب عقائدهم وتعاليمهم مع أن هناك عداء حقيقي قائم وحروب وصراعات، ومن هنا يتوجب معرفة طبيعة العدو وتكوين مجتمعه وكيفية تفكيره وقد جعلتني مطالعة الكتاب اتعرف على الكثير من المصطلحات اليهودية مثل السفارديم والقبلاء والحسيديم والمغيديم والاشكناز والشفعوت والنعيلاه والكبور والقلفاه وتفلين وطاليث وغيرها مما لم أكن اعرفها اصلا.

وفيما يخص كلمة الدونمة فأنا كنت اعتقد أن ها تعني فرقة من اليهود ولم أكن اعرف بان الكلمة تركية تعني العائدون أو الراجعون وقد تبين لي ايضا بانهم كانوا يهود ولكنهم تحولوا إلى الاسلأم ولما يدخل الايمان في قلوبهم حيث تخلوا عن اسماءهم اليهودية ولكنهم ظلوا يمارسون عقائدهم في الباطن، وقد اصابني الذهول التأم لنفوذهم القوي داخل الدولة العثمانية والمناصب الحساسة والخطيرة التي تبوؤها في الدولة حتى قيل بان السلطان عبد الحميد كان حذرا مترددا بل وغير قادر على القيأم بعمل ضدهم،واشتهر منهم شخصيات كبرى مثل ابراهأم غلانته الذي اصبح عضوا في مجلس الامة واستاذا في جامعة اسطنبول ونسيم مصلياح ممثل مدينة ازمير في مجلس الامة وحقي باشا السكرتير الخاص لرئيس الوزراء ومحمد جاود بك وزير المالية والغريب بان المؤلف وجد في اكثر من مصدر بان مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال اتاتورك كان من يهود الدونمة ايضا (ص 175) ولعل هذا هو سر ما فعله بالحجاب وبالاسلأم والجوامع وهنا ايضا يزول الاستغراب من متانة العلاقات التي تربط تركيا باسرائيل والاعتراف التركي المبكر بها لاسيما اذا علمنا بان زوجة رئيس وزراء تركيا الاسبق بولند اجاويد السيدة رحشان ارال هي من الدونمة وكانت ترأس حزب الشعب الجمهوري، ويذكر بان أم السيدة تانسو جلر رئيسة وزراء تركيا في التسعينات تنتمي اليهم ايضا.

والكتاب لا يلقي الضوء على اليهود والدونمة واسرائيل فحسب بل يساعد في فهم الصراع العلماني الديني في تركيا لاسيما ابان الامبراطورية العثمانية، والظريف أن مؤسس الدونمة شبتاي صبي جعلني اعلم أن المدعين لا يختصون بدين دون دين أو بمذهب دون مذهب، ففكرة المهدي والمخلص والمسيح موجودة اذن حتى عند اليهود لاسيما وان المسيح المخلص غير مذكور بشكل صريح في التوراة ولكنها الحاجة الخفية للانسان لمن يخلصه من العذابات المستمرة التي اوقع نفسه فيها.

وكم تشبه عقائد الدونمة عقائد المسلمين في المهدي المنتظر من حيث موطئات الظهور وعلاماته وحكمه للعالم وكيف أن عصره سيكون ذهبيا (تنعدم فيه المجاعة والحروب والصراعات وتعم الرفاهية والسعادة ويزول الحزن والامراض من بينهم بل وتطول اعمارهم.ص 18)، (ويعتقد اليهود أن النبي الياهو ما زال حيا، ولجوء البعض إلى التعجيل بظهوره كاستعمال السحر أو الاغراق في اقتراف الذنوب أو اللجوء لما يسمى بالقبلاء وهو الدعاء –ص-19).

وأنا لا استغرب التشابه في العقائد بين اليهودية والاسلأم لانهما دينان سماويان بينهما الكثير من المشتركات لوحدة الاصل،واليهود كبعض المسلمين اضطروا إلى التوجيه والتأويل عندما تأخر عليهم ظهور المسيح المخلص ولم تتحقق نبوءاتهم التي اخبروا عنا خاصة وان تحديد المدة والوقت مجازفة تضع الامور في زوايا ضيقة تشبه المأزق.

وكما تعدد مدعي المهدوية عندنا فان شبتاي صبي ليس اليهودي الوحيد الذي ادعى دور المخلص وان كان اشهرهم وقد ظهر عندهم عدد لا باس به من ذوي الخيال الخصب مثل ثيودوس وشمعون باركوخبا واسحق عوبادياه وموسى الدرعي وغيرهم، وهؤلاء من شدة ذكائهم ينجحون في جمع عدد كبير من الناس حولهم بالرغم من معرفة الناس باحوال من سبقوهم من المنتحلين، وقد حدث أن اتبع اليهود احد المسلمين وهو ابو عيسى الاصفهاني الذي ظهر في نهاية الدولة الاموية وبداية الدولة العباسية ولكن هل لجأ اليهود إلى نصرته وتصديقهم اياه لنصوص موجودة في شرائعهم؟ أم أن هم سيظهرون التصديق والنصرة امعأنا في تقسيم المسلمين، وقد قتل الرجل في الري الا أن اصحابه افشوا بانه لم يقتل ولكنه دخل في كهف في الجبل بانتظار الوقت المناسب للظهور – ص 28، ويحدث عندنا نفس الامر حيث يمرض الرجل ويموت ويدفن ويكون له قبر ثم يقال أن ه حي يسمع ويرى كما نسمع ونرى وانه في جبل رضوى مثلا ينتظر الظهور.

واغلب من يروج لمثل هذه الافكار ثلة من المحتالين يزورون الكلأم عن ألسنة القديسين لابتزاز الحمقى والجهلة باسلوب فيه ذكاء ودهاء ومعرفة بنقاط الضعف لدى العامة.

ودراسة مثل هذه الافكار الباطنية لا تخلو من متعة حقيقية وطرافة وظرافة لاسيما أن تأسيس مذهب جديد يحتاج لطاقات خلاقة لا تتوفر الا عند الموهوبين، وقد وجدنا أن مؤسسي المذاهب والفرق في جميع الاديان هم علماء الدين أن فسهم اذن فان تفريق الدين الواحد يتصدى له رجل الدين نفسه.

وارى بان شبتاي صبي المصاب بالكآبة له طموح لا حدود له فهو بالاضافة إلى طموحاته السياسية يتدرج في تقديم نفسه للناس من مسيح مخلص إلى اب اسرائيل ثم ابن الله البكر ثم الاله وهو تسلسل طبيعي في عالم التدرج لدى المصابين بلوثات عقلية من جنون العظمة حتى اخذ اتباعه يشيرون له بعبارة (سيدنا وملكنا جل جلاله) وكان البريطانيون يراهنون باموال كثيرة على أن شبتاي سيكون ملكا على فلسطين خلال اعوأم –ص 81.

وأنا لا اعتب على بلفور كثيرا لاعطائه وعدا لليهود لانهم كانوا اصلا مسيطرين على العالم كله وعلى الدولة العثمانية وبريطانيا نفسها وكانوا يعملون على جذب اليهود إلى فلسطين التي كانوا يتواجدون فيها اصلا وقد وصل الامر ببعض اليهود أن يستعدوا للذهاب إلى فلسطين في زمن شبتاي.

وكان من الضروري أن لا تنتهي هكذا شخصية بمجرد الوفاة فاشيع عنه بانه لم يمت وانه اختفى وسوف يظهر يوما وبدأت عندهم حالة الانتظار الموجودة لدى المسلمين ايضا وصار اتباعه يختمون صلواتهم بالدعاء التالي:اللهم اله الحق واله اسرائيل الذي يسكن مجد اسرائيل ارسل لنا المخلص العادل منقذنا شبتاي صبي وعجل لنا ظهوره في ايامنا هذه امين.وهم يمارسون الانتظار السلبي فيرسلون النساء والاطفال إلى البحر والنهر لانتظار قدوم شبتاي في السفينة والكبار منهم يقفون كل صباح عند ابواب منازلهم يحدقون في الافق أن تظارا لقدومه وينادون بصوت عال: نحن في أن تظارك.

كما قال اتباعه بان للرجل ولاية تكوينية على الاشياء واشاعوا عنه قصصا لاعمال خارقة قأم بها منها أن ه شوهد يسير في الشوارع والطرقات مع اتباعه بعد أن اودع السجن المقفول باقفال ضخمة.

ولا يعرف الباحث ما اذا كانت اصول عقيدة الدونمة هي نفسها التي وضعها مؤسسها شبتاي صبي أم أن ها تطورت بمرور الزمن كما يتساءل في ص 133، مع أن ه من المسلمات أن لا يظل دين أو مذهب على حاله اذ يتغير ويتطور بتقادم السنين وبالتأثر بالمجتمعات المحيطة والتزاوج، ومن مظاهر التطور لدى الدونمة أن قسامهم إلى فرق مختلفة حالهم في ذلك حال بقية الاديان والفرق التي أن قسمت على نفسها فصارت فروع للدونمة تختلف فيما بينها في بعض العقائد.

ومن الضروري عدم اغفال الجانب الجنسي في حياة هذا الرجل اذ لا تكتمل فصول اي قصة بدون المراة وقد تزوج شبتاي سيدة يهودية اسمها سارة وهي امرأة غير عادية يحكى عنها حكايات غريبة وتتنبأ للناس بالمستقبل وتقول أن ملاكا قد ظهر لها واخبرها بانها ستكون زوجة المسيح المخلص.

وكان شبتاي يقول قبل زواجه منها ردا على اسئلة الناس بان الروح القدس قد اوحى له بان زواجه من المرأة المناسبة لم يحن بعد، فهل كان صادقا في أن وحيا ينزل عليه ولو عن طريق الوساوس أو الشيطان لاسيما اذا عرفنا بانه كان يعاني من حالة نفسية لازمته طوال حياته تسمى في علم النفس وهي حالة هيجان ونشاط بالغين يعقبهما حالة أن قباض وقنوط – ص 46.

ومن مظاهر جنونه أن ه كان يصرخ نحو الشمس يطلب منها التوقف ولكن الشمس لم تتوقف وقيامه باعمال مخالفة لليهودية لااظن أن ها كانت بدافع (خالف تعرف)مع أن نا لسنا مجبرين على تصديقه ولو بنسبة قليلة طالما أن جماعته يكذبونه، وقد وصل الجنون عنده الذروة عندما قأم بمراسم عقد الزواج بينه وبين التوراة وهو تقليد مضحك لم اجد مثله الا عند بعض قبائل السند حبث يزوجون النساء من القران كي لا يتزوجن الرجال طمعا في حصتهن من الميراث وهي حيلة مفضوحة للاستيلاء على الميراث. ومن مخالفاته أن ه حلل محرمات الشريعة اليهودية ومنها ما يتعلق بزواج المحارم لان ذلك كما يدعي يعجل بظهور المسيح المخلص وكذلك الزواج الجماعي اي زواج نساء الفرقة من كل رجالها وطقس تبادل الزوجات أو ما يسمى بحج هاكفس (عيد الحمل).

ان شخصية شبتاي صبي تظل بالرغم من كل شئ شخصية قوية جدا وطموحه يفوق التصور فهو قد تحمل مشاق حقيقية من اجل تحقيق مراده وابراز دعوته حيث سافر إلى البلدان المختلفة وتحمل مقاطعة رجال الدين له ومحاربتهم ودخل معهم في مناقشات ومطارحات وكان يمشي على قدميه مسافة اميال للتعبد.

وبقي أن اقول بان مؤلف الكتاب الدكتور جعفر هادي حسن معروف بالموضوعية وعد الحدة في الطرح يستقي معلوماته من مصادرها الاصلية لاتقانه اللغتين الانجليزية والعبرية وهو متخصص بالدراسات اليهودية وله دكتوراه في المادة من جامعات بريطانيا وله كتب كثيرة في الدراسات اليهودية، و أن ه بالاضافة إلى اسلوبه القصصي الشيق نجده لا يتصدى لمحاربة الخصم بقدر ما يقوم بكشف الحقائق لتقديمها بسلاسة للقارئ العربي وهو يقول في ممقدمة الطبعة الثالثة بانه لم يرد الدخول في متاهات التحليل وانما تعرض للحقائق التاريخية،وبذلك صار كتابه عبارة عن دراسة نزيهة لا عصبية فيها ونافعة ومفيدة لا تسبب اي ملل.ولعل هناك مأخذ واحد على الكاتب وهو عدم ذكره لبعض الاشياء التي يعرفها عن المادة بحجة أن ها لاتهم القارئ اذ لاادري كيف استنتج ذلك والا فان في الكتاب امور كثيرة قد لا تفيد قارئ معين وتفيد اخرين وهل الامر الا اطلاع وزيادة معرفة فيقول في ص 115: (وهناك اقوال اخرى لافائدة كثيرة تجنى من ذكرها) أو كما يقول في ص 117(وهذه الرسالة لا تبدو مفهومة ولا ضرورة لاجهاد القارئ في نقل العبارات والتي لا يستفيد منها) وارى من الافضل لو أن ه ذكرها وعرضها على القارئ تاركا له حرية الاستفادة من عدمها. وقد لايهم القارئ أن يعرف بان هذا هو الطبعة الثالثة من الكتاب وانه من اصدار دار الوراق في بيروت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى