السبت ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم جميلة شحادة

الرغيف الأسود، والطفولة البائسة في وطنها

أي مصادفةٍ هذه التي ساقتني لأقرأ كتاب الرغيف الأسود، للكاتب المغربي، حسن المصلوحي اليوم، والغيوم حالكة السواد، ترمي شوارع وبيوت مدينتي، الناصرة، بكل ما في جوفها من مطرٍ وبَرَد وربما ثلج، في أقصى مرتفعاتها. إنه يوم عاصف، شديد البرودة، حالك، لم نعتد عليه كثيرًا في مدينتنا، فلَزِمنا بيوتنا (وبالذات مَن لا حاجة له بالخروج من بيته)، ونشدنا الدفء، وراح الكثيرون يعبّرون عن هذه الأجواء برومانسية. وحتى لا يُتهم بعض هؤلاء بغياب الضمير وقسوة المشاعر، نشروا على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، صورًا لأطفال لاجئين قد تركوا أوطانهم مع عائلاتهم نتيجة الحروب ومآسيها، وتشتتوا في بلاد الغربة. أكاد أن أجزم، أن البعض من هؤلاء قد نشروا صور الطفولة البائسة، وهم يحتسون شرابهم المفضّل الساخن، ويجلسون على الأريكة الدافئة أمام المدفأة. لقد نشروا صورًا لأطفالٍ ونساء لاجئين من سوريا، واليمن، والعراق، وأفغانستان وغيرها من البلاد المنكوبة؛ نشروا صور أطفال وهم يتجمدون من شدة البرد، ويبتهلون، ربما، الى "الرحمن الرحيم" بأن يأخذهم إليه ويريحهم من العذاب. أي نفاقٍ هذا!؟ وأي إنسانية زائفة هذه!؟

صور الطفولة البائسة التي نشرها الأصدقاء على صفحاتهم، أثارت بي الغضب والسخط، فكيف بمَن عاشها أو ما زال يعيشها!؟ مؤلف كتاب "الرغيف الأسود"، حسن المصلوحي، وأصدقائه في "دوار بو غابات" قد عاشوا هذه الطفولة البائسة، وكشف لنا الكاتب المصلوحي عن ذلك في كتابه، "الرغيف الأسود".

كتاب "الرغيف الأسود"، هو برأيي، عبارة عن لوحاتٍ انتزعها حسن المصلوحي من مخزنها في ذاكرته، أو الأدق قد انتقاها، لتخرج الى النور على شكل كتاب. وأقول انتقاها، لأنه حدثّنا عن أصدقائه، وجيرانه في دوار "بو غابات"، وعن جدّته حنّة وحنانها وكرمها، وعن مدرسّيه، ووصف لنا شظف العيش في الدوار الذي سكنه، وعلاقته بأصدقائه، وصيده للعقارب والطيور، ووصف لنا نهج المدرسين في عقاب التلاميذ؛ لكنه لم يبُح، ولم يكتب عن والدته، ووالده، وأخته خديجة، وأخوته الثلاثة، الا النزر القليل، وفي سياق أحداث أخرى، دون أن يخصّص لهم فصلًا (لوحة) خاصًا بهم، كما فعل مع غيرهم كجدته حنّة مثلًا. هذا يعني أن الكاتب ما زال لديه الكثير ليقوله عن طفولته واختار أن لا يقلها في هذه المرحلة.

إن مضمون كتاب "الرغيف الأسود"، وما جاء فيه من وصفٍ لحي فقير، يقاسي ساكنوه من العوز، والقهر، وقسوة الحياة، ليس غريبًا على القرّاء؛ فقد سبق وأن كتب كتّاب آخرون عن الطفولة البائسة، وعن الأحياء الفقيرة، ووصفوا صعوبة العيش فيها... عندما قرأت عنوان، "الرغيف الأسود" وعرفت أن كاتبه مغربيّ الأصل، تبادر الى ذهني فورًا كتاب "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري، وحسبت لأول وهلةٍ، أن "الرغيف الأسود" يشبهه من حيث المضمون وأسلوب السرد؛ لكن سرعان ما تبيّن لي الاختلاف بين الكتابيْن، ولو أنهما يلتقيان بوصف طفولة بائسة، مع فارق كبير في سير الأحداث. فعلى سبيل المثال، إن شظف العيش والفقر في دوّار "بو غابات" لم يؤديا الى انحراف أطفاله، كما عرفنا من كتاب " الرغيف الأسود"، مثل ما حدث مع محمد شكري وأصدقائه. على أي حال لست الآن بصدد إجراء مقارنة بين الكتابيْن، وإنما ما أثار تعجبي هو أن كتاب" الرغيف الأسود" صدر عام 2020 ومؤلفه، حسن المصلوحي، يصف فيه طفولته القاسية، أي أنه يتحدث عن سنوات التسعينات، وهي فترة ليست ببعيدة عنّا زمنيًا؛ فهل يعقل أن في هذه السنوات ما زال يعيش الناس في مناطق من دولة المغرب، هذه الحياة القاسية؟ هل يُعقل أن المدرسين في سنوات التسعينات في هذه المنطقة من المغرب، ما زالوا يستعملون الفلقة لمعاقبة تلاميذهم؟ لكن مهلًا لماذا أتعجب وأستغرب، والطفولة ما زالت مسروقة، وحقوق الأطفال منتهكة في البلدان العربية، والبلدان المحتلّة، وغيرها من دول العالم الثالث!

برأيي تكمن قيمة كتاب، "الرغيف الأسود" ليس بموضوعه، أو وصفه حياة الشقاء لشريحة من الناس في المغرب في سنوات التسعين، وإنما تكمن في أنه وثّق هذه الحياة في بقعة معينة من المغرب. لقد وثّق صورة العلاقة بين الأفراد في هذه البقعة، وأنواع الأكلات فيها، وأنواع الألعاب التي يلعبها الأطفال .... وهنا، كان من المفضّل أن يذيّل الكاتب بعض صفحات الكتاب بشرح لأنواع هذه الأكلات والألعاب التي ذكرها، ليتسنى للقارئ غير المغربي من التعرف عليها.

المصلوحي، أسهب في وصفه مشقة العمل لفئات الناس المستضعفة في لوحته " لاقطات البطاطس أو الموقف" ولاقطات البطاطس، ذكرتني برواية "الحرام" ليوسف أدريس، والتي حوّلها المخرج المبدع، يوسف شاهين الى تحفة سينمائية، بطلتها سيدة الشاشة، فاتن حمامة، هذه القصة صدرت عام 1959، وها هو حسن المصلوحي بعد خمسين عامًا تقريبًا، يصدر كتابه، "الرغيف الأسود (عام 2020) ويصف فيه ذات القهر، وذات حياة البؤس والفقر، لفئات مستضعفة تعيش في المغرب بعيدًا عن عاصمتها!؟

في اللوحة الأخيرة من كتاب، الرغيف الأسود، والمعنونة "برقصة الموت"، ينتظر الكاتب المصلوحي، الموت. يقول في صفحة 112 من الكتاب: "على موعد مع "الموت". أخبرني قبل عام ونصف تقريبًا، أنه سيزورني ليلًا، لكنّه لم يأتِ". وفي ذات الصفحة يكتب: "الليلة أيضًا يبدو أنك لن تأتي، وأنا سئمت الانتظار على حافة شرفتي". وهنا يسأل السؤال: لماذا يُنهي الكاتب كتابه بهذا اليأس؟ وهو شاب قد تعلم ونجح ويعيش اليوم في إيطاليا ووالدته وجيرانه في المغرب يفخرون به. لماذا يقف على حافة شرفته ويستذكر طفولته في دوار بو غابات وينتظر الموت؟ هل يعاني تأنيب الضمير بسبب ما يقاسيه أبناء منطقته في المغرب؟ لكن، هو ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي تسود مناطق في وطنه المغرب. ألم يكن من الأجدى بأن ينهي الكتاب ببصيص من أمل، وبالنية لمحاربة الظلم ومكافحة القهر...!؟ المواطن الذي يعيش في هذه البقعة من المغرب، ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي يعيشها، وإنما المسؤول هم أولئك الذين يسكنون في أبراجهم العاجية وقد نسوْا شعبهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى