الأربعاء ٦ أيار (مايو) ٢٠٢٠

الزمكان في رواية «الإسكندرية 2050» لصبحي فحماوي

عزوز اسماعيل

كان الكاتب صبحي فحماوي مدركاً لحقيقة وضع عدد من الأزمنة بداخل الرواية، فهو، وإن كان ينادي الإسكندرية في 2050، فهو في الوقت نفسه يحن إلى القديم إلى الإسكندرية عام 1966، وهنا يعمد الكاتب إلى تزاوج الأمور بعضها مع بعض، مما يوحي بنوع البعد الزمني المرتبط بالمكان "الزمكانية"، والرواية في الوقت نفسه تمزج بين ما هو حقيقي وما هو خيالي لتبرهن على حقيقة بحث الكاتب عن المستقبل من خلال الماضي أو الحاضر، محاولاً في الوقت نفسه السعي لإيجاد حلٍ لذلك المستقبل، والذي سيصبح غريباً في معظم مناحيه، وهل نستطيع وقتها أن نكون قادرين على مواجهة تلك الحالة من الخيال العلمي أو الابتكار في العلوم المستقبلية.

كانت البداية الخاصة بهذا العمل هي المفتاح الذي يسير عليه المتلقي أو الكشاف الذي يدخله إلى دهاليز الرواية، لأنَّ الكاتب بيَّـن منذ البدء ما انتواه من فعل وخيال سيسبح فيهما عبر العمل ليصل إلى آخره، وهنا يتجلى شعاع فكري يجعل المتلقي في يقظة وحيطة، حول ذلك الرجل محل الاختبار، والذي سنكتشف كل ما كان يدور في خلده ساعة الاحتضار، وكما قال الكاتب: "وما نشفطه من ذكريات وأفكار وخيالات في ذهن الرجل ونسجله على قرص مدمج، مدهش حقاً تستطيع أن تسمعه بسهولة ويسر على جهازك الخلوي" ويدعو المتلقي إلى وجبة دسمة من المعلومات التي لم تكن لتأتي على الإطلاق إلا من خلال ذلك الجهاز المخابراتي العجيب، ويبدأ تلك المعركة مع النفس من خلال الساعة "صفر" ويضعنا الكاتب في المكان الذي ستدور فيه الحكاية، حيث الطائرة التي ستقل البطل من مطار دبي إلى مطار الإسكندرية في نصف ساعة، والنصف ساعة هذه بالنسبة لنا هي حالة غريبة؛ لأنه لا يمكن في الوقت الحاضر أن تنتقل من تلك المسافة البعيدة حتى الإسكندرية في نصف ساعة، ربما يكون هذا في المستقبل كما يتنبأ الكاتب يقول في ص11: "مدى الجاذبية الأرضية مثل انطلاق الأقمار الصناعية، لتقطع المسافة بين دبي ومطار الإسكندرية الدولي خلال نصف ساعة فقط، كما يقول قائدها الآلي، والطائرة بأبخرة أطعمة ركابها، ومشروباتهم المختلفة الروائح وعطورهم الفواحة ". نلحظ هنا أنَّ الكاتب يستخدم بعض الكلمات الدالة عل الإثارة والباعثة على التفكير في المستقبل، نحو كلمة "انطلاق" وبعدها كلمة :الأقمار الصناعية" وهل من الممكن أن نستخدم ذلك الانطلاق في نقل الركاب بالطائرات من مكان إلى آخر، كما هو الحال في انطلاق الأقمار الصناعية، ليس ببعيد أن يحدث ذلك في المستقبل القريب وليس هناك ما يمنع في ظل هذا التقدم العلمي الرهيب خاصة في مجال التكنولوجيا. ويتناول الكاتب ما حدث لمنطقة "أبو قير" و "أبو صير" وكيف أنَّ البقاء للأقوى، حيث كان أبو قير أقوى من "أبوصير" في محاورته لتمكين القوى ليصبح اسمه موجوداً تأكيداً على استعلاء القوي فلم يعد أحد يتذكر"أبو صير" وهو يقصد من ذلك المكان الموجود الآن بالإسكندرية، الذي يتميز بشاطئه العجيب والرائع وكثيرة هي الناس التي تصطاف في هذا المكان يقول الكاتب: "معظمهم يحبون اللعين"أبوقير" حتى أنت أيها الفاني هل تكره "أبوقير" بالطبع لا فأنت تحبها وتتمنى أن تعود لتتنسم هواءها الشرقي اللطيف الحامل معه رائحة ثمار مزارع الجوافا الشهية، وتغرق تغرق في بحرها الهادئ الجميل".

هذا وصف لأحد الأماكن المهمة في الإسكندرية، حتى يضع القارئ في موقع الحدث المستقبلي، والذي يحاول من خلاله خلق حالة من التشويق لما سيكون عليه ذلك المستقبل، خاصة في ظل التقدم التكنولوجي الرهيب، ونراه كذلك يربط بين حبه لتلك المدينة التاريخية العتيقة الإسكندرية وبين حب أنطونيو لكليوباترا، وهو ما يشي بالتاريخ والارتباط بالقديم، حيث قراءة التاريخ "أنطونيو مستمتع بحب كليو باترا الخاضعة له وأما أنا فخاضع لغرامك المتحكم فيَّ أيتها الإسكندرية، كم سنة مضت وأنا غائب عنك! يقولون: إن البعد جفاء وأنا والله لم أجفُ ولكن الزمان جفا تنقَّلت في بروع الكرة الأرضية". بالفعل الكاتب لديه حب البحث والتنقيب عن الأماكن التاريخية وأيضاً الأشخاص من الأدباء والمفكرين فهو حريص على ذلك، ونراه دائماً متنقلاً من مكان إلى آخر يطوف البلاد شرقاً وغرباً باحثاً منقباً عن الإبداع في هذا الكون ليربطه بالإبداع في فلسطين، ذلك الوطن الجريح، الإبداع الإلهي بأن جعل الله رسالاته تبدأ من هذه البلاد العربية، وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لنا أن هذه الأرض والتي امتلأت ظلماً وجوراً من فعل البشر الظالمين والجاحدين، هي مهبط رسالاته ومن المفترض أن تكون في مقدمة العالم أخلاقياً وعلمياً ودينياً. يبرهن الكاتب على اطلاعه على الثقافات الأخرى، نعم الكاتب قرأ لكتاب كبار وحاول أن يجعل من اسمه دليلاً على حب الأرض والاستعداد الدائم للعودة إلى تلك الأراضي المسلوبة بفعل حكام ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا البشر، يقول عن تطوافه في تلك البلاد الجميلة على لسان البطل: "ولكن الجميلات عندي لسن جميلات نزار، بل هن من عجائب الدنيا السبعمائة، فلقد طفت الدنيا كلها ابتداءً من شلالات النرويج، المنفلتة من بين يدي الله، لتسقط بين غابات داكنة الإخضرار، عبقة الروائح النباتية والطحالبية"ص9. ويظل البطل في تطوافه عبر سنوات عمره التي وصلت المائة؛ لأنه يقرُّ بما حدث له من قبل، من خلال ذلك الجهاز المخابراتي الذي لم يسبق له مثيل، لكن أهم ما هنالك هو أنه لم يجد أفضل من الإسكندرية في بلاد العالم"تنقلت بين كل هذه العجائب وغيرها، فما وجدت مثلك يا اسكندرية في البلاد، أرجو ألا تؤاخذيني، فأنا ابن المائة سنة من العمر، قد بدأت أخرف. وهل هذا هو عمر الخرف؟ لا أعتقد فلقد عاشت جدتي أنيسة مائة وعشرين سنة وكانت "تقرط" الفول المحمص بأسنانها". يبرهن الكاتب على وصول سن الشهري إلى مائة عام بأن جدة ذلك الرجل قد وصلت هي الأخرى إلى مائة وعشرين عاماً، وأن هذا السن لا يؤدي إلى وجود الخرف، وكيف أنه تحت ذلك الجهاز يؤكد على تلك الأمور، وهو يشعر بارتياح لاستدعاء الماضي البعيد والقريب، عبر فكرة الزمن. والكاتب يؤكد على نجاح ذلك الجهاز العجيب، في تتبع تلك الأخبار من ذلك الرجل العجوز. والسرد العجائبي هنا هو كما وصفه نوفاليس "سرد من دون تماسك، لكنه سرد يزخر بالتداعيات، مثل الأحلام " ومن الغريب أيضاً ما تذكَّره هذا العجوز أن هناك رياحاً ستهب على الناس وتصيب الكون كله بلون من الأصفر، كانوا يقولون: سيأتي على الناس (زمن أصفر) تهب فيه رياح صفراء، تصيب الكون كله باللون الأصفر، فتصير فيه الشوارع صفراء، والبيوت صفراء، والأشجار صفراء، والوجوه صفراء ويهجم أهل يأجوج ومأجوج صفر اللون".

تلك من الغرائب التي يحاول الكاتب التأكيد عليها علماً بأن الرسول حذرنا من هذه الريح الصفراء، ولكن الكاتب يعبر عن بعض أحوالنا المأساوية التي سنكون عليها في المستقبل إذا ما صرنا على ما نحن فيه. ويحاول أن يبين أن هذا الشخص الذي خضع لذلك الجهاز كان قد سافر إلى ألمانيا ودرس هناك وتعلم وأصبح متميزاً ويسرد لنا موقفاً يعتقد أنه من الغرائب والذي من خلاله يسخر من أحوالنا، فمساعدته هناك في ألمانيا تظل تأكل في طبق الأرز حتى تُنهي آخر حبة فيه، وهو يستغرب الأمر كيف لهذه الدولة الغنية بهذا الشكل وأفرادها يحاولون ألا تبقى حبة أرز في الطبق. حتى لا يفعلون مثلما يفعل بعض الأعراب، بإلقائهم الأطعمة في حاويات القمامة. وبعد خمس سنوات من العمل هناك عينوا له مساعدة بحث في علم الوراثة "صرت أذهب معها إلى المطعم، أراقبها وهي تأكل، تلحق بشوكتها وسكينتها آخر حبة أرز تتناولها، وتنظف صحنها. فأقول لها: لماذا تنظفين آخر حبة أرز في الطبق؟ هل كل هذا اقتصاد في النفقة، فتجيب وهي مبتسمة. لدينا في ألمانيا القدرة على توريد ملايين الأطنان من الطعام، ولكن هناك شعوباً لا يصلها الأرز، ويجب أن لا ترمي الطعام في حاويات القمامة كي تجد الشعوب الأخرى فائضاً"ص34. وكان في سفره إلى ألمانيا يستشعر بأنه أقل منهم في كل شيء وكان يستغرب ما يقومون به ليس على المستوى الإنساني، بل أيضاً على المستوى العلمي فهم متفوقون علمياً لأنهم سخَّروا طاقاتهم من أجل العلم ورفعة شأنه، فأخذ على عاتقه أن يكون مثلهم، وأن تكون له مكانة علياً في مجتمعاتهم يقول: "بدأت أستغرق في العمل يا أبي. نظراً لشعوري بالغربة وبالتمييز، رحت أولج الليل في النهار في أبحاث متتالية؛ لأثبت لهم أنني مؤهل لمناقشتهم، لا بل والتفوق على الكثيرين من زملائي في المعهد! نتائج أبحاثي المخبرية أدهشت أساتذتي!"ص34. ومهما بلغ من علم هناك ومهما أبهرته تلك الحضارة إلا إنه لم ينس تاريخه أوتراثه العربي، وكانت دائماً حكايات ألف ليلة وليلة أمامه، ولكن التطور التكنولوجي وما به جعله يطمح في المزيد في المستقبل القريب حين يقارن بين القديم والحديث، وتناول موضوع الطائرة الهيدروجينية والارتباط بعالم الانترنت، وهو ما يجعلنا نتذكر الابتكار الحقيقي لعالم الشبكات العنكبوتية "ويعد ظهور شبكة العنكبوت الدولية تصويراً مكتملاً للكيفية التي يعمل بها الابتكار على الإنترنت وأهمية وجود شبكة محايدة بالنسبة لهذا الابتكار. وقد توصل توم برنز- لي إلى فكرة شبكة العنكبوت الدولية بعد الانزعاج المتزايد من أن أجهزة الحاسوب في المعمل الأوروبي للفيزياء الإنشطارية لم تعد تستطيع التخاطب مع بعضها البعض بسهولة". وهذا الأمر ينعكس على الأدب بصفته الصنو الآخر مع العلم فيترجم الأدب ذلك في التطور وما يمكن أن نسميه الخيال العلمي ويدخل في عالم الغرابة أحياناً إلى أن يثبت العلم صحته، وما يمكن أن يحدث في المستقبل من تطور يبهر العقل كما في هذه الطائرة الهيدروجينية.

عزوز اسماعيل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى