الاثنين ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم هشام عوكل

الطائفية والمذهبية السياسية الحديثة

يولد الإنسان في البلاد العربية عربي الهوية والثقافة والانتماء دون أن يشكل هذا التعريف تناقضا أو تعارضا أو هدما لدينه ومذهبه وطائفته، بيد أن هذا التعريف واجه صعوبة عند بعض من في الداخل العربي ولدى كثير من خارجه يرابط في المنطقة منذ زمن

حتى بات كل من يعرف نفسه كعربي في نظرهم قوميا عربيا لأنهم ينكرون على العرب حتى حق تعريف أنفسهم كعرب وقد أدى انحلال المشاريع القطرية إلى تركيبات سكانية طائفية وعشائرية وجهوية سافرة أو كاملة فقد بات التأكيد على العربية في وجه الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية بات موقفا عروبيا، وأن تكون عروبيا في أيامنا يعني أن تتخذ الهوية العربية نقيضا لتسييس الهويات التفتيتية، أن تكون عروبيا يعني في أيامنا أن تكون بشكل واع عربي الهوية. 1

ومع تراجع الفكر القومي برزت الطائفية كظاهرة سياسية تفتت المجتمع، الى جانب اخواتها المذهبية والقبلية والعائلية والاثنية وغيرها من الجماعات. فهل العلمانية هي البديل أم القومية ام دولة المواطنة

إذا ماذا تعني الطائفية الحديثة ان صحت التسمية

هل هي حرب هويات لكسب معركة هوية الدولة، وعلى أساس نتائج هذه الحرب سيتحدد نمط الدولة.

هل الطائفية ومشتقاتها هي كل نزعة سلطوية وعصبية وفئوية تستغل الدين من اجل التعبئة والنفوذ وبالتالي هي بعيدة من القيم الروحانية والمثل الدينية وتعاليمها لأنها نوع من التحزب السياسي لأغراض دنيوية وهي تسخر الدين وتستغله من اجل تحقيق أهدافها وبرامجها الخاص

التعريفات هي فخ كما يؤكد المفكرالعربي عزمي بشارة لأنه بتعرف هي التعريفات كلام ثابت في حين الواقع متغير ومتبدل ومن الأفضل أن تطور التعريفات مع التطور التاريخي للواقع ولذلك لإجراء استعراض تاريخي للتعريف و لصنع تميزات تساعد بفهم عميق ، أولا يجب أن نميز لان التمييز يساعد وبتعرف كل تعريف هو نفي، ماذا ليس طائفيا؟ الدين ليس طائفيا المذهب ليس طائفيا، نميز بين التدين وبين الطائفية بين المذهبية وبين الطائفية لأنه من الواضح أن الدين لا يمارس إلا في جماعة ما، من الصعب تخيل تدين فردي لكن الانتماء لمذهب والانتماء لدين عن وعي خاصة عند أوائل من أسسوا هذا الدين أو كانوا معه لا يعد طائفية يعد إيمانا حتى لو أدى في بعض المراحل إلى ما نسميه حروبا دينية ولكن الطائفية هي جيل ثاني أو جيل ثالث أو رابع عندما يبدأ الانتماء يكون للجماعة وليس للمذهب يعني ليس بالضرورة أن يكون الانتماء لهذه الجماعة ناجما عن تدين حقيقي أو عن معرفة بالمذهب،
الطائفية في هذه الحالة هي انتماء لجماعة من البشر وليس لدين ولا لمذهب، من هذه الناحية من حيث المبدأ لا تختلف كثيرا عن العشائرية وعن أمور وعن جماعات كثيرة أخرى تطور عصبيات لبشر معنى فيها بالكلام الإسلامي أو بالخطاب الإسلامي فيها بعد جاهلي بما أنها تعصب لجماعة من البشر بغض النظر عن طبيعة هذه الجماعة إلا أنه تختلف أنه في لها يعني غالبا ما يستدعى رجال الدين ليكونوا حرس حدود الجماعة بمعنى حرس حدود النص .
لم يكن ظهور الفرق والمذاهب في الإسلام فجائيا أو منطلقا من فراغ، بل له خلفيات وأرضية مناسبة وعوامل واقعية مشدودة إلى ساحة الخلافات الفكرية والسياسية معا، وما زاد الهوة حاجة المسلمين إلى سد فراغ المجالين الكلامي والفقهي في بلورة تكليفهم الشرعي ما حمل الفقهاء والمتكلمين على بلورة أفكار متباينة تلائم حاجة الحكام إلى اتجاهات الشرعية. تناقض الاتجاهات التي تخالفهم فكريا وسياسيا من أجل توفير غطاء ديني يدعم ممارساتهم السياسية ما أدى إلى بناء كيان طائفي مستقل محوره الفرق والمذاهب وهي عديدة في تاريخ الإسلام.

وكان انتشار بعض المذاهب وزوال أخرى له أيضاً عوامل موضوعية وأسباب تاريخية، أهمها دور السلطات الحاكمة في دعمها أو محاربتها.

ومن هنا فالطائفية غير مذهبية، فليس ضرورياً أن يكون الطائفي متديناً أو ملتزماً دينياً ومذهبياً، على العكس من المذهبي، الذي يفترض به التقيد بقواعد مذهبه فكرياً وسلوكياً. ومن الممكن أن يكون المذهبي طائفياً أيضاً، حينها تكون لديه الطائفية في بعدها الاجتماعي والإنساني والسياسي هي المذهب عينه في بعده العقيدي والفقهي والطقوسي. وتنشأ بين الطائفي غير المتدين والطائفي المتدين مساحة من الانسجام الخطير الذي لا يتردد في الفتك بالآخر الطائفي بكل الوسائل المتاحة.

تغذت المسألة الطائفية مع التدخل الأجنبي وفق سياسة فرّق تسد «والذي شن حرباً استباقية «لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يكوّن الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا» وهذا ما يؤكده المبشر لورانس براون: « يجب ان يبقى المسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير» وقد عزز هذه المخاوف نظرية صراع الحضارات ما استوجب وضع خطة من أجل تأجيج الصراع الطائفي والصراعات الفئوية على أنواعها من أجل تعميق الانقسامات والتجزئة في العالم الإسلامي فتحولت الطائفية وأخواتها إلى نظام تقسيم وفتنة ضد القومية وكل اتجاه وحدوي وحتى الدين نفسة .

إشكالية الهوية السياسية للدولة

مع قيام أي مشروع وطني (مشروع دولة) لا بد من ابتكار هوية وطنية، والنجاح بابتكارها هو عنوان آخر لنجاح فكرة الدولة، وغيابها وتشظيها ناتج حتمي لفشل فكرة الدولة ككيان قانوني مؤسساتي خدمي. على أن نجاح مشروع الدولة مرهون بسلامة

معاييرها وأنظمتها وسياساتها، ومرهون بانتاجه (لأمة الدولة)، ولا ولادة لأمة الدولة اذا ما فشلت الدولة في الإعتراف المتساوي بمواطنيها وحمايتها وخدمتها لهم. فعندما تؤسس الدولة على وفق الإنتماءات والولاءات الضيقة، وعندما تسحق مواطنيها بفعل الظلم واللامساوة، وعندما تبتلع وتكون رهينة الاحتكار العرقي أو الطائفي أو الحزبي أو الشخصي.. تغيب المواطنة ويشيع التمييز ويستفحل الإقصاء بفعل الظلم والاستبعاد،.. وهنا تحيا الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، بسبب فشل فكرة الإنتماء والولاء والتضامن الوطني بين أعضاء الجماعة السياسية المكونة للدولة، وعندها سيرتد المواطن الى الوراء بحثاً عن حاضن آخر يستوعبه ليوفر له الاعتراف والحماية،.. فتفشل مقومات الوحدة السياسية اللازمة لكيان الدولة، ويصبح التعايش صورياً هشاً، وأحياناً قسرياً قائماً على الإكراه المستند إلى القوة.

بهذا المعنى،هل العلمانية هي بديل جزئي من الطائفية السياسية، وما دامت الطائفة ظاهرة كلّية تشمل النطاق السياسي والنظام الاقتصادي التربوي الثقافي. لذلك، البديل من الطائفية هو عقيدة تتضمن نقداً أو رفضاً للمفاهيم الدينية التي تتحدر منها الطائفية وأن تقدم مفهوماً اجتماعياً جديداً لتركيب المجتمع وتطوره يصح أساساً لإستراتيجية عملية قادرة على مواجهة النظام الطائفي بكل أبعاده . حتى يتمكن الفكر القومي من مواجهة الطائفية، لا بد من تغليب رابطة المواطنة والولاء للدولة وتغليب المصلحة القومية العليا على رابطة الانتماءات المحلّية.

وفي ظروف الانحطاط والتخلف، يصبح الانتماء الطائفي ولاءً لكيان طائفي خاص أنتج شعوراً طائفياً وتغليباً للولاء الطائفي على كل ولاء جامع، يضاف إليه امتداد الطوائف في غير دولة وكيان سياسي، ما أدى إلى تداخل المصالح والاستقراء بخارج الكيان. وأصبح للطائفة سياسة خارجية متداخلة في مصالح الدول الإقليمية والدولية ونفوذها ما جعل الطائفية قوة سياسية بما لها من نفوذ داخلي وإقليمي ودولي يمكن استغلالها في مواجهة الفكر القومي والمصالح القومية العليا على حساب الولاء القومي والولاء للدولة.

وهكذا، ارتبطت مصالح الإقطاعية والرأسمالية والنفوذ الأجنبي بالواقع الطائفي. فغدت الطائفية وسيلة ونتيجة. فهي وسيلة استعملها الإقطاعيون والحكّام والعثمانيون ودول الغرب وإسرائيل لإثارة الفتنة ومحاربة القومية. وكانت الطائفية في الوقت نفسه نتيجة لنفوذ الطبقات الحاكمة والاستعمار من أجل تأجيجها وبلورة كيانها وتعميق نفوذها وتجذيرها داخل المجتمع.

وقد استمدت الطائفية قوتها من تفكك دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية داخل الدولة القطرية وعلى امتداد العالم العربي، وذلك نتيجة التخلف والاقتصاد المخلع وغياب السوق الاجتماعية، فتكيفت الرأسمالية والبنى الاقتصادية الريعية مع الواقع الطائفي وكرسته.

مثال ذلك لبنان الذي أخفق في دمج الطوائف في حركة اجتماعية موحدة، فبرزت مؤسسات اقتصادية طائفية كالمصارف والشركات ومؤسسات صحية وخدماتية واجتماعية وأهلية للطوائف.

نجحت الطائفية في لبنان في أن تكرّس كظاهرة اجتماعية لها جذور تاريخية عميقة تغذيها على جميع المستويات مرتكزات دستورية وقانونية وأسس اقتصادية وسياسية عامة متناقضة، ما جعل الطائفية إيديولوجية الدولة والبنية السياسية الأساسية لها.

وهكذا أصبحت الطائفية جماعة مغلقة تستمد قوتها في تنظيمها الداخلي ووظيفتها العامة في التربية والصحة والثقافة على حساب مؤسسات الدولة.

ونجحت الطائفية في التغلب على الفرز الطبقي الذي لم يتمكن دائماً من خرق وحدة الطائفة المغلقة على عصبيتها ودورها ووظيفتها، نتيجة استمرار البنى الاقتصادية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وما قبل سيطرة الدولة القومية الاجتماعية.

كذلك نجحت الطائفية خصوصاً في لبنان بتأسيس أحزاب وحركات سياسية مخصوصة بها، ما وضع الأحزاب القومية في حالة حرج وعزلة، خصوصاً أبان استنفار العصبيات الطائفية والمذهبية، كما الحال في لبنان وبعض دول المنطقة.

الطائفيةُ وأخواتُهاَ ليستْ كتلةً تاريخيةً متماسكةً عبرَ الزمنِ. في حالاتِ الحروبِ والاستنفارِ الغرائزيّ تتمكنُ السلطةُ الطائفية الدينيةُ والسياسيةُ من استنفارِ جمهورِها وتعبئةِ عناصِرها وطمسٍ مؤقتٍ للتناقضاتِ الموجودةِ في داخِلها.

بينما العلمانية مدعوةٌ إلى دراسةِ الطائفيةِ في ظرفِها الاجتماعي، وفي بنيتِها الداخليةِ ما يظهرُ التناقضاتَ الذاتيةَ السياسيةَ والطبقيةَ والعائليةَ وغيرها، لذلك من أخطرِ المقولاتِ التي سادتْ في الحربِ الأهليةِ اللبنانيةِ مقولةُ الطائفةِ السياسيةِ أو الطائفةِ الطبقةِ والتي كانتِ تنظرُ إلى الطوائفِ في لبنان وكأنها كلٌّ متماسكٌ في اِتجاه انعزالي أو وطني واحد حسب موقعها، بينما الغوص في أعماق الطوائف يظهر التباين والتناقض الذي يساعد على إخراج الطائفة من انغلاقها وكنتونها.

حاولت القومية العربية أن تتصالح مع الفكر الديني الإسلامي ولم تهتم بشكل جدي بالفكر الديني المسيحي، بينما في الواقع يجب اعتبار الإسلام والمسيحية جزءاً من التراث القومي ما دامت المسيحية انطلقت من الأرض العربية وكذلك الإسلام. هذه الغربة بين هذا المفهوم من القومية والمسيحيين، خاصة في المشرق العربي، ساعدت إلى جانب أسباب أخرى على هجرة المسيحيين من فلسطين والعراق ولبنان، ما يخدم بطريقة غير مباشرة المخطط الصهيوني الذي يعمل على تشجيع هجرة المسيحيين وتحويل الصراع في المنطقة من صراع قومي ضد المشروع الصهيوني إلى صراع ديني بين الإسلام وما تسميه خطأ الحضارة المسيحية اليهودية.. وهذا ما يوفر لإسرائيل غطاء دينياً وحضارياً في الغرب.

اما على الضفة اخرى العراق المأزق الحالي هو مأزق هوية، يتمظهر صراعاً على (الدولة المتخيلة) والمراد انتاجها بعد سقوط نموذجها عام 2003م. فالصراع الحالي هو (صراع هوية)، الصراع المتفجر قيمياً وسياسياً وأمنياً.. هوحرب هويات لكسب معركة هوية الدولة.

تأريخياً، فإنَّ من أهم الإشكاليات التي نحرت الدولة العراقية هي اشكالية الهوية السياسية للدولة، وهي إشكالية بنيوية. فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921م شكلت الهوية أزمة على مستوى الخطاب والممارسة والانتماء لدى أغلب النخب والجمهور العراقي، وما ذاك إلاّ انعكاساً للفشل الذاتي في التعاطي مع استحقاق قيام الدولة الوطنية كواقع جديد بعد الحرب الكونية الأولى، ذلك الفشل البُنيوي أضر بهوية الدولة وبنظامها السياسي وبدورها الإقليمي.. فقاد إلى كارثة انهيار الدولة.

الفشل بإنتاج هوية على أساس الخصوصية العراقية هو فشل عراقي بالأساس أفرزته المدارس والنخب المتصدية لفعل الدولة، فالسؤال القلق: لماذا نجح مشروع الدولة لدى الغير وفشل مشروع الدولة في العراق؟ وهل أنَّ الإحتلال أسقط الدولة أم أنه أتى إلى دولة ساقطة ذاتاً بفعل سقوط مشروعها المستند إلى هويتها في العمق؟ ومَنْ هو المسؤول الأول عن سقوطها المدوي الذي أحالها إلى فريسة للفتن والكوارث والأطماع؟ أليست هي المدارس والنخب على تنوع فعلها ونتاجها وبرامجها المتعاطية مع استحقاق قيام الدولة منذ عام 1921م؟ لقد فشل في انتاج الأمة الوطنية التي تمثل مادة الدولة، وفشلنا في انتاج الأمة الإنسانية التي تمثل مادة المجتمع،.. الفشل الأول سياسي، والثاني مجتمعي،.. والمأزق الحالي هو التعبير الجلي عن فشل في انتاج دولة المجتمع ومجتمع الدولة.

الدولة العراقية

بسقوط نظام صدام حسين ، سقطت الدولة العراقية التقليدية التي عاشت أزمة هوية ودور ووظيفة، ومآل الدولة القادمة وشكلها يتوقف على نمط الهوية المنتجة، وما الصراعات الحالية سوى صراعات صيرورة لهوية دولة تحاول كل مدرسة وقومية وطائفة إنتاجها على وفق منطقها وخصوصيتها ومصالحها. وما لم تعي المدارس العراقية أخطاء الماضي وتتخلى عن مناهج التعويم والاستلاب والتبعية والتخندق المدرسي العرقي والطائفي والمناطقي، وما لم تشرع بوضع أسس لابتكار هوية وطنية جديدة تتخطى مصداتها التاريخية.. فلن يشهد العرق وحدة واستقراراً على مستوى المجتمع والدولة، وسيعيد إنتاج كوارثه التأريخية في التشرذم والطغيان والاستلاب.

الدولة نتاج مجتمع وطني، ولا يمكن إنتاج المجتمع الوطني إلاّ على وفق حزمة من قيم المساواة والتكافؤ والعدالة والحرية وعلى وفق مبادىء المواطنة والديمقراطية والتعايش،.. فهذه القيم والمبادىء هي الأسس القادرة على إيجاد إطار تعايشي بين الأعراق والأديان والطوائف المختلفة، وهي القادرة على إنتاج مجتمع وطني متوحد فعّال، وبإقرارها واحترامها وتفعيلها سياسياً وقانونياً وثقافياً تنتج الروح الكلية للمجتمع على تنوع مكوناته، وعلى أرضية هذه الروح الكلية الناتجة عن الجميع والمحققة لمصالحهم تنتج الهوية الوطنية بالتبع، وهو ما يشكّل الأساس الطبيعي لقيام الدولة، باعتبار أنّ الدولة هي الجماعة السياسية الوطنية

القومية والماركسية والإسلامية التقليدية لم تلحظ مأزق الهوية الوطنية في أبعاد ارتسامها الواقعي عندما مارست عملية شّد الدولة لهوياتها العقدية والسياسية والثقافية الخاصة على حساب إنتاج الهوية العراقية الوطنية الجامعة، والسبب الأساس أنها أسست خطاب هوية الدولة الحديثة بمعزل عن قيام وثبوت الدولة الوطنية ومتلازمات صناعة هويتها الجديدة.. فهوية الدولة تساوي: تماهي (الأمة/ السلطة/ الثروة) على وفق مركّب (الخصوصية/ العدالة/المصلحة) وعلى قاعدة (المواطنة/الديمقراطية/التعايش)، وهو ما لم تلحظه وتنتجه المدارس العراقية المعنية بفعل الدولة.

وأيضاً من مآزق إنتاج الهوية السياسية: الدمج المقصود بين الدولة والسلطة في الكيان والدور والوظيفة، مما أفقد الهوية الوطنية جوهرها وانتماءها ووحدة فعلها وغاياتها، فعندما تبتلع السلطة الدولة وتكون السلطة عنواناً للهويات العِرقية والطائفية والسلطوية.. ينتفي جوهر الهوية الوطنية وفعلها التأريخي فتغيب الدولة بالتبع.. وبمجرد سقوط السلطة تسقط الدولة.. فتتغير ملامح الهوية السياسية للدولة.. وهكذا دواليك!! من هنا لم تثبت في العراق دولة متجذرة بهويتها الخاصة، فغدت الدولة والهوية عرضة لتغير أنماط السلطة،.. وعليه لم تنشأ دولة بالمعنى الكامل للكلمة بل نشأت سلطات اختزلت وصادرت دور الدولة.

ومن مآزق الهوية أيضاً: اتحاد الذاكرة العراقية بين العراق التأريخي والعراق الحديث اتحاداً ماهوياً متخيلاً في طبيعة الهوية الطائفية والعِرقية والثقافية في اللاوعي العراقي، وذلك عن طريق استدعاء الماضي بثقله وفروضه وأنساقه ومحاولة تخيله وفرضه على الواقع المعاصر دون القيام بعمليات إعادة القراءة والتمثيل لهذا التأريخ في تنوعاته وتقنينه وفق فروض الواقع الحديث للعراق ومرتسمات هويته الوطنية الجديدة. وكمصداق على ذلك تأتي الصراعات الطائفية (بين ما هو شيعي وسُنّي) والعِرقية (بين ما هو عربي وكُردي وتركماني) كإنموذج لإستدعاء فعل الذاكرة التأريخية في التعاطي مع واقع الهوية الحديثة.

من هنا نرى، أنَّ الصراع على ادعاء امتلاك الوطن تأريخياً أو احتكار تمثيله لشريحة عِرقية أو طائفية معينة يأتي كإنموذج لإنتاج الهوية الوطنية على أساس انسياق الذاكرة والفعل العراقي بالتأريخ. وكان من المُفترض أن يوضع بالإعتبار التكوين الحديث للعراق المتنوع والفسيفسائي في إنتاج هوية الدولة الجديدة، وهنا فالمواطنة كمبدأ وقيمة واستحقاق كان يجب أن تكون في مقدمة الإستحقاقات المنتجة للهوية العراقية، بينما نرى أنها تعرضت لإسقاطات عِِرقية وطائفية سياسية ودينية وثقافية صادرت بالتبع استحقاق الهوية الوطنية كجوهر جامع ومظلة مُوحِدة للكل العراقي

الدولة ظاهرة اجتماعية/تاريخية لا يمكن أن تنتج إلاّ على أساس الهوية السياسية، وهنا فإنَّ الهوية هي جوهر التفاعلات التي يُنتجها تماهي مكونات الدولة في بوتقة (قانونية/مؤسسية/مدنية) صاهرة لكافة تكويناتها الداخلية. إنَّ الدولة ناظم وإطار كلي ناتج من تمازج أربعة عناصر هي: الأُمة المكوّنة للجماعة السياسية، والقيم والقوانين المكوّنة للنظام، والإقليم المكوّن للوطن، والمؤسسات الإدارية المكوّنة للسلطات،.. وروح وجوهر هذا الرابط والناظم الكلي المسمى بالدولة هي الهوية التي تمثل حاصل التمازج والتناغم والإتحاد لعناصر الدولة الأربع، وكلما تمازجت وتناغمت واتحدت هذه العناصر بعضها ببعض في الوعي والثقافة والتشريع والتطبيق.. كلما قويت الدولة وتجذّرت، من هنا فبقاء الدولة مرتبط بفاعلية الهوية وقدرتها على البقاء والتجدد والتطوّر.

لم تنجح المدارس العراقية في خلق روح وطنية مدنية صاهرة لعوامل الأصالة والحداثة والمواطنة والديمقراطية والتعايش.. على أساس من الخصوصية والمصلحة الوطنية العراقية في عمق محاولات إنتاج الهوية المجتمعية والسياسية للدولة الحديثة، فأتى بناء الهوية مشوّهاً ومنشطراً لا يقوى على الصمود فضلاً عن البقاء، وهو ما قاد إلى فشل مشروع الدولة. ولذلك أسباب أهمها، المنشأ الإيديولوجي والنخبوي: فكافة المحاولات البنيوية للهوية قامت على أساس قومي وماركسي وديني منقطع عن استحقاق الدولة الوطنية، ومعظم النخب العراقية كانت نخباً متخندقة ايديولوجياً على النقيض من المباديء الوطنية في عمق ثقافتها وقرارها، والأدهى أنها على صعيد الممارسة شكّلت نخبوية جهوية لم تخرج في الأعم الأغلب عن أطر الهويات الفرعية الضيّقة من قبيل العِرق والطائفة والقبيلة والعائلة، ولم تنجح في تأسيس هوية مدنية وطنية تجمع بين أصالة التكوين الذاتي لمكونات المجتمع وبين الإنصهار في الجماعة السياسية الكلية المشكّلة للدولة. إنَّ فعل المدارس والنخب العراقية الحالمة أو المستَلَبة أو الجهوية أو الكيدية أنتج إضافة إلى الصراع المدرسي الممزق للهوية الوطنية الجامعة.. أنتج ثقافة التعويم لمشروع الدولة الوطنية لحساب مشاريع هويات عائمة ومتخيلة (الأمة العربية والأمة الإسلامية والأممية العالمية)، ولم تجعل من إنتاج الهوية مهمة وطنية لازمة. وأيضاً وفي فعلها الجهوي الضيق المتأثر بالإنتماء الخاص العرقي والطائفي والسياسي أدّت إلى ترسيخ الهويات المجذرة للإنتماءات والولاءات الضيقة، الأمر الذي أفرز الإنقسام والتصدع والتصارع الوطني بين مدارس وتيارات الوطن الواحد. لقد فقدت أغلب المدارس والنخب وعي والتزام وسياسة الإعتراف بحقيقة قيام الدولة الوطنية، ولم تجعل من المواطنة والمواطن والوطن والمواطنية ووالوطنية أساساً وهدفاً يبرر وجود الدولة أصلاً.

. ومن مآزق إنتاج الهوية: إفتقادها للحواضن السلمية والطبيعية والمعتدلة لإنتاجها، فأغلب المناهج والبرامج المنتجة للدولة فارقت الديمقراطية والعدالة والسِلم والتعايش لتتكأ على مناهج الإستبداد والتمييز والعنف والعسكرة والحروب في إنتاج الدولة لنفسها وفي أدوارها الخارجية!! وهي حواضن لم ولن تنتج هوية طبيعية ومتوازنة ومتماسكة تستطيع حفظ كيان الدولة من خلالها. يُضاف لذلك اعتماد سياسات كارثية في عمق البناء الثقافي والسياسي والحضاري للدولة الحديثة ومحاولة حمل الدولة ومكوناتها على أساس منها، من هنا تم إقحام الدولة في مناهج وخصومات خاطئة أتى على حساب استقرارها وتطوّرها،.. لقد أُريد للدولة العراقية أن تتنكر للدّين والمُثُل لتفارق الفضيلة والإستقامة، وأُريد لها الإمعان في السحق لحقوق الإنسان والجماعات فتصادر المواطنة والحريات، وأُريد لها شرعنة التمايز لتقضي على المعايير الوطنية الشاملة والعادلة والمتكافئة لأبناء الوطن الواحد، وأُريد لها أن تُطحن في رحى الحروب لتطلّق التنمية والتطور والإزدهار. لقد أتلفت هذه المناهج الدولة من الداخل بفعل عوامل الفساد والظلم والجهل والإجترار والسَلبية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى