الثلاثاء ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٣
بقلم حسني التهامي

الطريق الضيق إلى عمق الشمال (ج3)، ماتسو باشو

مولد الخيال!

أغنية لزراعة الأرز

في أقاصى الشمال

كانت تلك الكلمات مفتتحا لقصيدة ثانية وثالثة حتى أتممنا ثلاث متتايات.

في ضواحي المدينة، تحت ظل كستناءة ضخمة، أدار أحد الرهبان ظهره للعالم، وآثرالاعتكاف في صومعته المنعزلة التي ذكَّرني هدوؤها بمكان في أعماق الجبال، يقتات الخيل من كستنائه. خطر على ذهني بعض كلمات، فقمت على الفور بتدوينها:

هناك ثمة ارتباط بين شجرة الكستناء والفردوس الغربي، لذا يطلق عليها "الشجرة الغربية، يقال أن الراهب جيوجي اتخذ من أخشابها عِصيا يتكئ عليها ويشيّد بها أركان بيته:

الناس في العالم
بالكاد يلتفتون إلى تلكمُ الأزهار -
كستناء الأفاريز

على بعد اثني عشر ميلاً أو نحو ذلك من منزل توكي، خلف هيوادا مباشرة، يقبع جبل أساكا محاطا بالأهوار.. حين أوشك موسم قطاف أزهار السوسن "كاتسومي"،تساءلنا: "إلى أي نوع من النباتات تنتمي كاتسومي ؟" لم يجبنا أحد. فتجولنا في الأهوار، علنا نجد جوابا لسؤالنا، حتى توارت الشمس خلف حافة التلال. انعطفنا إلى اليمين في نيهونماتسو، وقمنا بزيارة خاطفة إلى الكهف في كوروزوكا، وأخيرا مع هدأة الليل هجعت أبداننا بفوكوشيما.

انطلقنا إلى شينوبو في صبيحة اليوم التالي، بحثًا عن صخرة السرخس، حتى عثرنا عليها نصف مدفونة
بتربة قرية نائية تحت ظل جبل. حكى بعض أطفال القرية أن الحجر كان يعتلي قمة الجبل في غابر الأزمان. فلما صعد الناس ووضعوا قطعة قماش وفركوها بالسراخس، ثم قاموا بتمزيق أوراق الشعيرأيضًا، تضايق المزارعون كثيرا، ودفعوا بالحجر إلى أسفل الوادي – وهذا ما يفسر حالته الحالية على وضعها المقلوب. لم تكن القصة ضربا من المستحيل:

أياد تغرس الشتلات
كانت ذات يوم تفرك الأشكال
بالسرخس

أقلتنا عبَّارة لاجتياز النهر في تسوكينوا ( هالة القمر) إلى بلدة سينوي [رأس السرعة]. على اليسار قريبا من الجبال، وعلى بعد أربعة أميال، في قرية إيزوكا، يقع القصر الُمدمَّر، الذي كان يقطنه ساتو شوجي،
أثناء سيرنا سألنا عن وجهتنا، حتى وصلنا إلى مكان يسمى ماروياما، تقع بوابته الكبرى عند سفح الجبل. اغرورقت عيناي بالدموع عند رؤية شواهد قبور العائلة التي كانت لا تزال قائمة في معبد قديم؛ كان للنصب التذكاري للزوجتين الصغيرتين بالغ الأثر.

على الرغم من كونهما امرأتين، فقد تركتا وراءهما اسمين يرمزان للشجاعة. ابتلَّ كُمي بالدموع عندما رايت شواهد القبور تملأ المكان.

دلفنا إلى داخل المعبد لاحتساء الشاي، كان من بين كنوزه سيف يوشيتسون وسلة كان يحملها بينكي:

كلا السيف والسلة
في احتفالية الصبية ، وقتما
تتطايرُ اللافتاتُ الورقية
كنا في اليوم الأول من الشهر الخامس [18 حزيران

قضينا ليلتنا في إيزوكا؛ استحممنا في الينابيع الساخنة، واستأجرنا غرفة أشبه بكوخ بائس، تناثرت على أرضيته الترابية حصائر من القش. لم يكن ثمة مصباح بالغرفة، لذا هيأنا أسرَّتنا علي ضوء الموقد الخافت. ظل الرعد يزمجر والمطر يتساقط سيلا هادرا. أرَّقنا سقف ظل ينز طيلة الليل فوق مرقدنا، ولدغات البراغيث والبعوض. وما زاد الطين بلة، عودة شكواي القديمة مرة أخرى وهي تضطرم كالنار مخلفة آلاما كدت على أثرها أفقد الوعي.

أخيرا مضت ليلة الصيف القصيرة، وانطلقنا مرة أخرى. استأجرت حصانًا إلى محطة البريد في كوري، ولا زلت أشعر بآلام ليلة البارحة. زادت حالتي المرضية من قلقي، خاصة أن أمامنا طريقا ممتدا وطويلا. عندما بدأت هذه الرحلة القصية، أدركت ضرورة التجرد من كل شوائب العالم وعرفت حقيقة الحياة الزائلة. منحني هاجس احتمالية الموت على الطريق دافعا معنويا لمواصلة المسير، لا سيما أن كل شئ يسير وفقا لإرادة السماء. مررت عبر "بوابة التاريخ الكبرى" وقد دفعتني الجرأة كي أغزَّ الخطى.

مررنا بقلاع أبوميزوري وشيروشي، حتى إذا ما وصلنا إلى مقاطعة كاساجيما، تساءلنا عن قبر الحاكم سانيكاتا، من أسرة فوجيوارا، فدلَّنا رجل قائلا: في قريتي مينوا وكاساجيما الواقعتين عند سفح الطريق الجبلي أقصى اليمين لا يزال الضريح والنصب التذكاري وسط أعشاب الحلفا قائمين.

في الأيام الماضية تهاطلت الأمطار، وأصبح الطريق موحشا، فمضينا نستكشف معالم الطريق، ونحن نكابد من فرط الإعياء.

أوحيتا لي كلمتا مينوا (معطف, واق من المطر) وكاساجيما (مظلة) اللتان تعبّران عن موسم الأمطار، بكتابة تلك الأبيات:

أين
جزيرة قبعة المطر؟
يا لامتداد مسارات يونيو الموحلة
أخيرا قضينا ليلتنا في إيوانوما.

كم كان منظر شجرة الصنوبر في تاككوما مذهلا؛ حيث يتشعب الجذع إلى شقين من الأرض،
وهذا هو شكل الصنوبر العتيق.

منذ زمن بعيد، في بداية عهده كحاكم لمدينة موتسو، قام أحد النبلاء باجتثاث الشجرة واستخدام أخشابها دعائم لجسر فوق نهر ناتوري. على الفور خطر بذهني كلمات قصيدة للكاهن نوين: "لا أثر الآن لخشب الصنوبر." قيل لي أن الناس قد توارثوا عادة قطع الشجرة جيلا بعد جيل، ثم عاودوا غرسها من جديد. ولا تزال أشجار الصنوبر الحالية بشكلها المميز حتى بعد مرور ألف عام.

في بداية رحلتي، أهداني كيوهاكو قصيدة وداع:

آخر أزهار الكرز...
دع سيدي يطالع الصنوبر
في تاككوما
فرددت قائلا:
منذ إزهار الكرز
كنت أتوق للصنوبرتين التوأمتين ...
مضت أشهر ثلاثة طوال

عبرنا نهر "ناتوري" حتى وصلنا إلى "سينداي"، في ذلك اليوم كان الناس يعلقون قزحية زرقاء
تحت الأفاريز. مكثنا قرابة أربعة أو خمسة أيام داخل منزل في تلك المدينة التي سمعت فيها برسام ذي حسٍ فني رفيع، يدعى كايمون، أخبرني، عند لقائنا، أنه ظل لعدة سنوات يبحث عن أماكن قرأ عنها في الأعمال الشعرية، وأصبح من الصعب تحديد وجهتها؛ لكنه ذات يوم، اصطحبنا لرؤية بعض ما عثر عليه من تلك الأماكن.
كانت حقول جياجينو مليئة بأعواد البرسيم، في الخريف لا يمكنك تخيل أي مشهد في مدن تمادا، يوكونو، وتسوتسوجي - جا - أوكا و دون أزهار "البيرس" البديعة.

مشينا عبر غابة كونوشيتا [ تحت الأشجار] المكتظة بأشجار الصنوبر الكثيفة التي حالت دون اختراق ضوء الشمس.

كان تساقط الندى غزيرا، ويبدو أنه كان على تلك الحال منذ عصور قديمة، دلَّ على ذلك أن خادما أوصى سيده بارتداء قبعة من القش، في إحدى القصائد التي قرأتها. أقمنا صلواتنا في ضريح ياكوشيدو
تينجين قبيل غروب الشمس.

كهدية وداع ، قدم لنا كايمون رسومات تخطيطية لماتسوشيما وشيوجاما وأماكن محلية أخرى عديدة، كما أهدانا زوجين من صنادل قش، بأربطة زرقاء قزحية داكنة.

تشي تلك الهدايا برقي ذلك الرجل ومدى ذوقه الرفيع:

سأعقدُ أزهارا قزحية
حول أقدامي -
أحزمة لنعالي

يتبع ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى