الجمعة ١٣ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

العظماءُ وهمساتُ الرُّوحِ

بالجسدِ نفْنى وتبْقى الرُّوحُ خالدةً..
وفي التُّرابِ تتحلَّلُ الجثَّةُ وتذوبُ؛ لأنَّها منَ التُّرابِ..
يغيبُ الجثمانُ عنِ الأبصارِ وتبْقى الرُّوحُ خالدةً في ذكرياتِ البصيرةِ..
يغيبُ الإنسانُ عنِ الوجودِ.. وتظلُّ آثارُه في الوجودِ..
وتخْتفي الرُّوحُ في عالمِ الأرواحِ.. وتبْقى همساتُها في أذنِ الوجودِ..
ما أعظمَ الرُّوحَ الّتي تغيبُ عنِ الوجودِ.. وتظلُّ ذكْراها تعبقُ من أسرارِ الوجودِ!
ما أنبلَ الرُّوحَ الّتي تخرسُ في غُصّةِ الرّدى، ولكنّها تهمِسُ بعدَ الموتِ، فنسمعُ صوتَ ضميرِها في أرواحِنا!
يموتُ الإنسانُ.. وتبْقى ذكراهُ تاريخاً على فمِ الأيّامِ..
ثمّةَ أرواحٌ نتمنَّى لها الخلودَ؛ لأنّها غرسَتْ في الحياةِ بذورَ المحبَّةِ..
وثمّةَ أرواحٌ نحلمُ برحيلِها؛ لأنَّها نثرَتْ في الأرضِ بذورَ الشَّرِّ والشَّقاءِ؛ لكنّها لا ترحلُ إلّا بعدَ أنْ تشوِّهَ جمالَ الحياةِ!
بعضُ البشرِ مثلَ الورودِ والأزهارِ، وبعضُهم مثلَ الأشواكِ والعلْقمِ..
بعضُ النَّاسِ مثلَ السَّنابلِ الملأى بتواضُعِها وعطائِها.. وبعضُهم مثلَ السَّنابلِ الفارغةِ الخاليةِ من كلِّ خيرٍ وعطاءِ..
بعضُ النّاسِ بلسمٌ يَشفي الجراحَ وترياقٌ لسمومِ الحياةِ، وبعضُهم علقمٌ يُنسيكَ طعمَ حلاوةِ الحياةِ..
بعضُ النَّاسِ شمعةٌ تحترقُ لتُضيءَ لنا الظَّلامَ، وبعضُهم ظلامٌ يَأبى أنْ يُنيرَ عودَ ثقابٍ..
بعضُ النَّاسِ يغرسُون بذورَ الأملِ حينَما تُخيِّمُ سحبُ اليأسِ في كلِّ فضاءٍ، وبعضُ النَّاسِ يبذرُون بذورَ اليأسِ والتَّشاؤمِ حينَما تُمطرُ السَّماءُ غيثاً من الأملِ..
بعضُ النَّاسِ يَنسجُون من أصوافِ التَّعبِ والشَّقاءِ خيوطاً ذهبيَّةً من المحبَّةِ والتَّسامحِ، وبعضُ النَّاسِ يَقطَعون بألسنتِهم حبالَ المودَّةِ والألفةِ والتَّراحمِ..
بعضُ النَّاسِ يغرسُون في عرينِ قلبِكَ أشجارَ الشَّجاعةِ والإقدامِ، وبعضُهم يقتلِعُون أوابدَ التَّحدِّي منْ عزيمتِكَ ويقتلُون بذورَ المبادرةِ والانطلاقِ في ذاتِك..
بعضُ النَّاسِ يُشعركَ بالسَّعادةِ وهمْ يُفتِّتُون الصُّخورَ ويَنحتُون منها زخارفَ الجمالِ، وبعضُهم يَنفثُون أنفاسَ الشَّقاءِ واليأسِ في وجهِكَ وهم يتعبَّدون في محاريبِ العبادةِ..
بعضُ النَّاسِ يُسخِّرُون ما في الحياةِ لسعادةِ الآخرينَ، وبعضُهم يُسخِّرُ النَّاسَ لشقاءِ الإنسانِ والحياةِ..
بعضُ النّاسِ يصنعُ من مُهمَلاتِ الحياةِ حضارةً ورقِيَّاً، وبعضُ النَّاسِ يهدمُ ما منَحتْهم الطَّبيعةُ من نعمِ الحضارةِ والارتقاءِ..
بعضُ النَّاسِ وجودُهم يَعني الحياةَ، وبعضُ النَّاسِ ذكْرُهم يَعني الفناءَ..
بعضُ النَّاسِ يعتَصِرون الصُّخورَ فيروُونَ ظمأَ الحياةِ، وبعضُ النَّاسِ يُجفِّفُ ينابيعَ الحياةِ..
بعضُ النَّاسِ يَفوحُ من سِيَرِهم عبقُ الكبرياءِ والشُّموخِ، وبعضُهم يتدفَّقُ من مواقفِهم شلَّالٌ من الذُّلِّ والوضاعةِ والانحطاطِ..
بعضُ النَّاسِ تتَّسعُ أفئدتُهم لفضاءِ الكرةِ الأرضيَّةِ، وبعضُهم يضيقُ ذرعاً بنفسِه فيَراها عالةً عليهِ..
بعضُ النَّاسِ تفيضُ أرواحُهم بالرَّحمةِ، وبعضُهم يثورُ الحقدُ والكراهيةُ من أفئدتِهم براكينَ..
العظماءُ حرَّروا أوطانَهم بالسِّلاحِ وقوَّةِ الإرادةِ، وبعضُهم حرَّرَ وطنَه بالحكمةِ والسَّلامِ.. أمّا البُلهاءُ والحَمْقى فقدْ رهنُوا بلادَهم لكلِّ احتلالٍ من أجلِ خلودِ عروشِهم..
العظماءُ حوَّلُوا بلادَهم من صحراءَ مُجدبةٍ إلى جنَّةٍ خضراءَ وارفةِ الظِّلالِ.. أمّا السَّاقطُون والمنحطُّونَ فقد دمَّرُوا حضارةَ التَّاريخِ والجمالِ والبناءِ والإنسانِ..
العظماءُ وحَّدُوا قبائلَهم وشعوبَهم وصنَعُوا منها أمَّةً منْ أعظمِ الأممِ.. أمَّا اللُّصوصُ والمرتزقةُ فقد مزَّقُوا وحدةَ الوطنِ إلى أشلاءَ، وفرَّقوا الأمّةَ إلى مللٍ ونِحلٍ تتصارعُ على رغيفِ الخبزِ وشكلِ إبريقِ الوضوءِ..
العظماءُ خلَّدُوا أعمالَهم كتاباً مقدَّساً يتَرنَّمُ التَّاريخُ بعظمةِ تراتيلِه، أمّا التِّيجانُ المعلَّقة بمشاجبِ فرعونَ وقارونَ فلمْ يخلِّدُوا في ذاكرةِ التَّاريخِ إلّا تماثيلَ اللَّعنةِ والرَّجمِ..
العظماءُ بنَوا لشعوبِهم أوطاناً يعيشُ فيها الملْحِدُ والمؤمنُ، الأسودُ والأبيضُ، القرودُ والورودُ أسرةً واحدةً، أمّا الانتِهازيُّون فقدْ تركُوا لشعوبِهم أوطاناً يتصارعُ فيها المؤمنونَ قبلَ الكافرينَ، وتتمزَّقُ الأسرةُ الواحدةُ إلى أشكالٍ وألوانٍ يقتلُ الأخٌ أخاهُ، وينقسمُ الإنسانُ على ذاتِه بينَ مؤمنٍ وكافرٍ، وبينَ مناضلٍ ومهزومٍ، وبينَ قردٍ ووردٍ، وبينَ أشواكٍ وأزهارٍ، وبينَ عصاميٍّ وانتهازيٍّ لا تعرفُ حدوداً تفصلُ بينَها..
العظماءُ بنَوا إمبراطوريَّاتٍ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها تخرُّ الجبابرةُ أمامَ ذكرِها، أمّا الإمَّعاتُ فقد جعلُوا شعوبَهم يترحَّمُون على الشَّيطانِ، ويبصقُون على ساعةِ الولادةِ التي ألقتْهم في تلكَ البقعةِ الّتي سمَّوها وطناً..
العظماءُ وضعُوا قوانينَ وكتباً تحْمي الحيواناتِ، أمّا الوحوشُ فقدْ انتهكُوا حقوقَ اللهِ والإنسانِ والحيوانِ والتاريخِ والأوطانِ..
بعضُ الأرواحِ تطيرُ في الفضاءِ، لكنَّ تغريدَها الحيَّ يظلُّ يصدحُ في آذانِنا صباحَ مساءَ..
بعضُ الأرواحِ تَهيمُ في عالمِ الغيبوبةِ الأبديَّةِ، لكنَّها تظلُّ تُنشدُ أناشيدَ المحبَّةِ والسَّلامِ في ربوعِ نفوسِنا..
بعضُ الأرواحِ ترحلُ عنَّا وتحملُ أرواحَنا معَها، رغمَ تمسُّكِنا بأنفاسِ الحياةِ..
ثمّةَ أرواحٌ جميلةٌ نرى آثارَ جمالِها في الحياةِ ولو بعدَ ملايينِ السِّنينَ..
ثمّةَ أرواحٌ زكيّةٌ تتَوارى عنِ الحياةِ، لكنَّ عبقَ شذاهَا يظلُّ يستنهضُ أنفاسَنا؛ لنستمدَّ منها عبقَ جمالِ الحياةِ..
ثمَّةَ أرواحٌ طاهرةٌ كفَّنَتْها ظلماتُ الحياةِ، لكنَّ أنوارَ طُهرِها ينسابُ من كلِّ ثغورِ الحياةِ..
ثمَّةَ أرواحٌ عظيمةٌ اختطفَتْها يدُ المنُونِ؛ لأنَّ أجلَها ختمَتْه السّنون.. نتمنَّى أن نتحلَّى ببعضِ ما كانتْ تتحلَّى به من مآثرَ، ولكنْ هيهاتَ أن تنْزلّ تلكَ الأرواحُ من عالمِ الملائكةِ إلى عالمِ الشَّياطينِ!
فتحِيَّةً ملؤُها المحبَّةُ والتَّقديرُ مشحونةً بغُصَّةِ الألمِ والتَّقصيرِ إلى أرواحِ آبائِنا وأمَّهاتِنا وأجدادِنا وجدَّاتِنا الّذين عاشُوا في ضمائرِنا أحياءً، وخلَّدُوا آثارَ إنسانيَّتِهم العظيمةِ أمواتاً، لا تكادُ تمرُّ أيَّةُ ذكرياتٍ لها منَ العزَّةِ والفخَارِ إلّا وتستحضرُنا تلكَ الأرواحُ إلى ساحةِ الذِّكرى بكلِّ ما لهَا من جمالٍ وجلالٍ ووقارٍ..
أيُّها العظماءُ: أيُّها الأطوادُ الخالدةُ الّذين وقفُوا شامخينَ أمامَ أعاصيرِ الزَّمنِ ونوائبِ المِحنِ..
لم يعرفِ التّاريخُ منكم إلّا الشُّموخَ والكبرياءَ.. معَ التَّواضعِ وعفَّةِ النَّفسِ وخفَّةِ الرُّوحِ ورقَّةِ الطَّبعِ ونُبلِ القولِ والفعلِ ووسامةِ الهيئةِ وروعةِ الظِّلِّ.. إنَّني أكتبُ اليومَ رسالةَ تأبينٍ لنَفْسي، فربَّما أُحطِّمُ غُروري وأقهرُ ذاتي أمامَ عظمتِكم..
الرَّحمةُ لكلِّ عظيمٍ غيَّبتْه قبضةُ المنيَّةِ، لكنَّها عجزَتْ عن إسدالِ ستارةِ النِّسيانِ على أنوارِ عظمتِها الإنسانيَّةِ في نفوسِنا.. مهْما ادلهمَّتْ دياجيرُ الحياةِ بشاعةً وقسوةً ووضاعةً وانحِطاطاً!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى