الثلاثاء ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١
قصة قصيرة مع دراسة نقدية عنها
بقلم علي القاسمي

الغزالة

ألفيتني، والقمرُ بدرٌ في ليلة تمامه، أُطيلُ النظرَ إليه من فُرجة الخيمة المنصوبة في العراء، فيبادلني النظرَ ويزداد توهُّجاً واقتراباً من الأرض حتى يلامس نهاية الأفق بحافته الدائريّة. وجدتني، وسكونُ البادية يشحذ حواسِّي، أستجلي لونَه الفضيّ، أتملّى حُمرته الذهبيَّة، فتستدير حدقتا عيني مع استدارته. ينغرز فيه بصري، يغوص في أعماقه، ويندمج فيه. أبصرتني مأخوذاً بأشعّته المتهادية نحوي، تغسل وجهي برفق، ويستحمُّ فيها جسدي، وتنسكب في عينَيّ، وتتسرَّب منهما إلى أعماقي، فتنبثّ خيوطُ ضوئه في أوصالي دونما صوتٍ ولا نأمة. رأيتني مشدوهاً بسناه، مخدّراً بنوره، وهو يتغلغل بنعومةٍ إلى باطني، ويذوب فيَّ مثلما يذوب قالبُ سكّر في ماء دافئ، فأشعر بسكِينةٍ تلفُّ أحاسيسي، واسترخاءٍ يهدهد بدني، كطفلٍ على وشك النوم في مهده المتأرجح.

كنتُ أظنّ أوَّل الأمر أنَّني أحدّق في سطحٍ مستوٍ مشعٍ، غير أنّني أخذتُ أتبين رويداً رويداً تضاريسَ وظلالاً كالوشم في وجه القمر. ثمَّ تبدّى لي في وسط القمر أو قدّامه،كائنٌ حيوانيّ يتحرَّك قليلاً، ثمَّ يكفّ عن الحركة. ولم أدرِ تماماً ما إذا كان ذلك الكائن يكمن في القمر نفسه أم إنّه يقف على الأرض في نهاية المسافة الممتدَّة بيني وبين القمر. وراح ذلك الحيوان يَتًّجه صوبي فاتّضح لي رأسٌ جميل يعلوه قرنان صغيران وتتوسطه عينان واسعتان، ويتّصل به جسمٌ ضامرٌله سيقان رقيقة. إنّها غزالة تتحرَّك نحوي ببطءٍ وتَرَدُّد، والقمر يؤطِّرها من خلف، حتّى صارتْ تغطّي معظمه. وأخذتْ تدنو منّي شيئاً فشيئاً، ثمَّ توقّفتْ إزاء خيمتي، وهي تنظر إليَّ فتلتقي عيوننا في صمت.

لم أَذُق طعاماً يُذْكَر طيلة ثلاثة أيامٍ في تلك الصحراء الشاسعة القَفْر الخالية من أيّ نبات أو حيوان أو أيّ شيء آخر ما عدا كثبانٍ رمليَّةٍ تنتشر فيها على مدى البصر مثل انتشار الأمواج العالية على سطح البحر. لقد نَفَدَ طعامي وأوشك مخزونُ الماء على النفاد، فلم أستهلك منه إلا قطراتٍ في فتراتٍ متباعدةٍ، تبلُّ شفتي ولا تكاد تبلغ ريقي. ولم تَعُدْ سيّارتي تساوي حبةَ رملٍ، بعد أن توقّفتْ عن الحركة لانعدام الوقود. ولم تكُن خيمتي المنصوبة في قلب الصحراء، كرايةِ حدادٍ منكّسة، قادرةً على حمايتي من لفح الشمس التي كانت تصهر كلَّ شيءٍ تحتها، وتحيله إلى رمل مسحوق. وهكذا انقضَّ عليّ القلقُ نسراً ينهش عصافير الأمل الفَزِعة في نفسي، وأخذ صِلُّ الخوف يدبُّ في أوصالي.

وهبّتْ في أعماقي ريحُ الحنين إلى المدينة وشوارعها ومقاهيها وحدائقها ونافوراتها. وعجبتُ لنفسي كيف تضجر بين الحين والآخر من صخب المدينة وزحمتها، وتتوق إلى صمت الصحراء وفضائها الغارق في السكون. هكذا كنتُ دوماً، حياتي كلُّها سلسلةٌ متصلةٌ من التناقضات. أَترعُ كأسَ الرغبة بالشوق، ثمَّ في لحظةٍ واحدةٍ أُهْرِقه على بساط الملل؛ أُحلِّق على جناح الأمل إلى قِمَم الفرح، ثمَّ سرعان ما أهوى متشظياً إلى سفوح البؤس؛ أُغنّي للوصل أحلى الأغاني، وفجأةً أقطعها لأنشج بكائيات الهجر والحرمان.

ودبّتِ الساعات بطيئةً ثقيلةً مثل سلحفاة خائفة منكمشة، وكَلّت عيناي من التحديق في الصحراء التي تحاصرني من جميع الاتجاهات، وتحيط بي كثبانها الرمليّة مثل قلاع منيعة يستحيل اختراقها. وتحت وطأة الجوع الذي كان يعضّني بضراوة، وبفعل العطش الذي كان يجففني مثل قطعةِ لحمٍ قديد، هامَ عقلي في سراب من الهواجس والرؤى. ورحتُ أجترُّ خوفي وأمضغ قلقي. ومن ربوةٍ رمليّةٍ صغيرةٍ تشبه الرمس، ارتفعَ شبحُ والدي بكفنه الأبيض، مُمتطياً صهوة جواده الأدهم، متقلِّداً بندقيته، كما لو كان في طريقه إلى الصيد. واستقرَّ على كتف أبي، بومٌ أسودَ بدلاً من صَقْره المدلَّل. وراح كلبُه السلوقي يعرج بإحدى قوائمه المبتورة، وهو يتلفّتُ إلى الجواد الذي فُقِئَتْ عيناه. وعندما اقترب أبي منّي أوقف جواده، وانحنى عليّ، ومدَّ يدَه إليَّ، ورفعني من الأرض وأردفني وراءه على الجواد كما كان يفعل في صغري، ثم عاد من حيث أتى وأخذ جواده يغوص في ذلك الرمس الرمليّ وأنا معه، فأشعر بذرات الرمل تندس في أنفي وتخنق أنفاسي.

نظرتُ إلى الغزالة الواقفة أمامي. عيناها الجميلتان تذكرانني بعينَيّ الحبيبة الكحيلتين؛ فيهما معاني المحبّة ورقّة الاستعطاف. ولها لفتة الجيد ذاتها كذلك. غير أنّ هذه الغزالةَ هي أملي الوحيد في الصمود بعض الوقت ريثما تصل نجدة ما أو تمرّ قافلة. رمقتُها بنظرة ولهى على استحياء. يا إلهي، كم أنا بحاجة لدمها يروّي ظمئي! وما ألذَّ لحمها! . التفتُ إلى البندقية الملقاة على أرض الخيمة، فتذكرت أنّها هي الأخرى لا تساوي حبة رمل، فقد أَمْسَت مجرد قطعة من خشب جامد وحديد بارد بعد أن نفدت ذخيرتي، بسبب محاولاتي المتكررة الفاشلة لإصابة ذلك الضَّبّ اللعين. كان يمرق أمامي كالبرق ثم يختفي في جحر من جحوره المتعددة في قَلْب الكثبان الرملية، فأظلُّ أُطلق النار بجنون على الرمل. وفي كلّ محاولة لم أحصل على شيء سوى دويّ هائل سرعان ما تشربه الرمال، وأبقى أردد بصوت عال متوتر عبارة "وضعي أعقد من ذَنَب الضبّ".

حدجتُ الغزالة المنتصبة أمامي بنظرة متلهّفة. توهّمتُ أنّ قوّة خفيّة ساقتها إليّ لإنقاذي. نظرتُ إليها ثانية نظرة انكسار واعتذار. تحسَّستُ خنجري المشدود على بطني الخاويّ. لا بدّ أن أُمسك بها أوّلاً. مددتُ يدي على مهل تجاه فَمِها، كما لو كنتُ أقدّم إليها شيئاً تأكله. لا بدّ أنّ الجوع هو الذي دفعها صوب خيمتي. أَدْنَتْ رأسها من يدي وهي تشمُّ كفِّي الفارغة. نهضتُ بحذر، فجفلتْ وتراجعتْ إلى الخلف بخفّة ثم توقفتْ. تقدَّمتُ صوبها ببطء. اقتربتُ منها مادّاً يدي نحوها. تراجعتْ مرّة أخرى وأنا أتبعها حتّى ابتعدنا عن الخيمة وصرنا في وسط العراء.

التقتْ نظراتنا مرّةً أُخرى. لم أرَ منها غير عينيْها هذه المرَّة. استرعى انتباهي احمرارٌ شديدٌ أخذ يكسوهما، ويُخفي تلك النظرة المنكسرة الحنون. وبدلاً منها لاحت لي نظرةٌ قاسيةٌ مريبة. انزلقت عيناي عن عينيْها إلى بقية وجهها، فأدهشني وأفزعني في آنٍ، منظرُ أنيابٍ حادَّةٍ يكشِّر عنها الفكان. وسرعان ما صدر عواءٌ خافتٌ متقطِّعٌ يُنذر بالشرِّ. وقبل أن أستجمع شتات فكري المشدوه، أَحْسستُ بمخالبَ حادةٍ تنغرز في صدري وبطني، وبأنيابٍ شرهةٍ تمتدُّ إلى وجهي. وفي طُوفان الرعب الذي اجتاحني بفعل المفاجأة، اختلطت الأمور في ذهني. غير أنَّ الشيء الوحيد الذي تأكَّد لي هو سقوطي على الأرض مستلقياَ على قفاي، وفوقي ذِئْبٌ شرسٌ على وشك أن ينهش وجهي، ويقطّعه إرباً بأنيابه الحادَّة. وألفيتني أُطلق صرخةٌ رعبٍ تمزِّق سكون الليل، يتراجع على إثرها الذئب قليلاً، ليتأهَّب للانقضاض عليّ في هجمةٍ جديدةٍ حاسمة.

وفي غمرة اضطرابي، امتدتْ أَصابعُ يدي المرتجفة إلى خنجري، فاستللتُه من غمده، ثمَّ أمسكتُه بكلتا يديّ، وأسندتُه إلى صدري،كأنّي أحتمي به. وفي تلك اللحظة، انقضَّ الذئبُ عليَّ، بقفزةٍ هائلةٍ، فانغرزَ نصلُ الخنجر، في موضع القلب من صدره. ووجدتني في حالةٍ من الهيجان والصراخ، وأنا أغمد الخنجرَ، أكثر فأكثر في جسده، لينبجس الدم الحارُّ منه، فيغطّي وجهي كلَّه، ويندلق في فمي،ويُطفئ ظمئي.

من مجموعة قصصية عنوانها "دوائر الأحزان" ، الطبعة الخامسة (الدار البيضاء : دار الثقافة 2019) الطبعة الأولى (القاهرة: دار ميريت، 2005)

سحر الحكاية في قصص علي القاسمي

قراءة في قصة (الغزالة)

الدكتور عبد الحميد العبدوني  [1]

صعوبة القصة القصيرة:

بادئ ذي بدئ ينبغي أن نعترف أنه ليس من السهل أن تكتب قصة قصيرة، فتجارب العديد من الكتاب تشهد أنهم استهلوا حياتهم الأدبية بفن القصة القصيرة، وحين استحوذ عليهم الفشل وضاقت بهم السبل تحولوا إلى الرواية والشعر أو ممارسة النقد. ولعل نجيب محفوظ في مصر وإدريس الناقوري ونجيب العوفي في المغرب خير مثال على ذلك ورغم ذلك نجد بعض الكتاب امتطوا صهوة التحدي وأصروا على سبر أغوار هذا الفن واقتحام أدغاله مؤثرين المعاناة والمكابدة على السير في طريق معبدة. ومن هؤلاء نجد الدكتور علي القاسمي الذي نشر في الآونة الأخيرة العديد من القصص القصيرة في المغرب وفي المشرق على السواء. والغريب أن النقد لم يلتفت إلى ما صدر عن هذا الرجل رغم توافر العديد من عناصر الجدّة والجودة فيه، وكأن النقاد أبَوا أن يعترفوا به كاتبًا للقصة القصيرة، وفضّلوا أن يبقى في المجال الذي مارسه وبرع فيه ونعني به علم المصطلح وما يتعلق به. وقد صدرت له مؤخراً قصة قصيرة بجريدة يمنية قدم لها الشاعر الناقد الدكتور عبد العزيز المقالح بعبارات شديدة الإيجاز لكنها تحمل من غنى الدلالة وقوة المعنى ما ينطق صراحة بنضج القصة واستواءها فنيا وبتنوع واتساع ثقافة صاحبها. يقول الدكتور المقالح متحدثا عن تطور الفن القصصي في الوطن العربي بعد أن استبد به الإعجاب بقصة الدكتور علي القاسمي وبقصص أخرى: "ويكفي أن أقلية متميزة بدأت تكتب القصة القصيرة بمفهومها الأحدث وقد تحولت كتابة القصة عند هؤلاء من هواية إلى رغبة عميقة وإلى محاولة تتجاوز السائد في هذا الفن ليس على الواقع المحلى وإنما على المستوى العربي أيضا وأمامي وأنا أكتب هذه الومضات نماذج ترقى إلى أفضل مستويات القصة القصيرة في الوطن العربي والعالم بعد أن تخلت عن العبارات الإنشائية والوصف الفضفاض، واعتمدت الكلمة الدالة الموحية، وهذا ما يجعلني أكرر مقولات سابقة حاولت أن تؤكد على حقيقة أن القصة القصيرة هي قصيدة العصر الحديث وأنها استطاعت بما امتلكه كتابها من موهبة وثقافة واسعة أن يأخذوا أجمل ما في الشعر وهو اللغة وأجمل ما في القصة وهي الحكاية ويخرجوا إلى القارئ بهذا المزيج البديع الذي يسمى بالقصة القصيرة المعاصرة."
وفي الحق أن حكم الدكتور المقالح ليس وليد قراءة عجلى وسريعة ولا نابع عن محاباة ومجاملة.

تستوي قصة الغزالة على رقعة مكانية صغيرة إذ غطت ربع صفحة لا غير، أي ثلاثة أعمدة لا يتجاوز طول الواحد أربعين سطرا وكل سطر يتكون من بضع كلمات لا يفوق عددها خمسا أو ستا على الأكثر وعمودا رابعا يتعدى الثلاثة بقليل. وتستغرق قراءة القصة ربع ساعة في أكثر الأحوال، وهي تنهض على موقف واحد تناوله الكاتب بكثير من الكثافة والتركيز اللذين تتطلبهما وحدة الزمان والمكان وهو ما أهلها أن تتمدد على سرير القصة القصيرة بجدارة واستحقاق ومن دون حاجة إلى الاستنجاد بسرير بروست.

سحر الحكاية:

باسم الحداثة، قام الكثير ممن يسمون أنفسهم كتّابًا بإخراج نصوص تتشكل من جمل متناثرة لا رابط بينها ولا معنى لها وسمّوها قصصا قصيرة تروم بناءً حديثاً يسعى إلى التجاوز و خلخلة أنماط السرد التقليدي وزحزحة أفق انتظار القارئ. وعوض أن تجتذب هذه القصص القارئ وتستهويه حدث العكس، لأنها تفتقد تلك المتعة التي كانت توفرها كل أنواع السرد والتي تنهض أساسا على الحكاية ، صحيح أن الأجناس الأدبية في حاجة إلى التغيير والتطوير، لكن من غير أن تتلاشى المبادئ الأساس التي تكوّنها . فالتجاوز يتم في إطار القواعد نفسها التي يقوم عليها كل جنس.

إن الدكتور علي القاسمي شديد الوعي بهذه المسألة لذلك تجده يحرص كل الحرص على إضفاء طابع الجدة على كتاباته من غير أن ينزلق في متاهات الغموض، متسلحا بكثير من تقنيات الكتابة القصصية، وتجده أيضا يصر على إمتاع القارئ وإهدائه لذة القراءة من خلال حكاية مشوقة يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل ويأخذ فيها العجائبي بعدا رمزيا.

العجائبية:

يحاول كثير من كتاب القصة والرواية توظيف العنصر العجائبي في أعمالهم الإبداعية ولكن نادرا ما ينجحون في ذلك لعجزهم عن جعله عنصرا فاعلا في السرد يلتحم مع باقي العناصر ليشكّل لوحة سردية واحدة ذات بناء متراص ومتكامل، فتتحول نصوصهم إلى عناصر متفككة تبدو عليها كثير من علامات التكلّـف والتصنّع، ولا تحمل أي مدلول ولا تبشر برؤية واضحة أو هدف مرسوم. وحين نقرأ قصة "الغزالة" للدكتور علي القاسمي نكتشف قدرته البارعة على تجاوز هذا المنزلق، ونقف على نجاحه في بناء عالم عجائبي تتقاسم فيه البطولة أجناس مختلفة، وتتصارع فيه الشخوص صراعا يجذبك إلى فضاء يشعرك بكثير من التردد والدهشة وأنت ترى الأحداث تنمو وتتفاعل في اتساق وانتظام، فيأخذ الواقعي والعجائبي بُعداً واحداً، وتمتزج الأشياء وتختلط وتصير شيئا واحداً، إذ تنمحي الحدود بين الإنسان والحيوان ويشتركان في القسمات والعلامات، ويتحد الثابت والمتحرك ويتساويان في الصفات والأفعال، وهكذا لا نميّز في البطولة بين البطل الإنسان والغزالة والذئب، ولا نفرّق في المكان بين الصحراء والخيمة والمدينة ، إذ تسهم هذه العناصر جميعها في بناء القصة وتتضافر من أجل أن تعطينا نصا له نكهة خاصة تتأسس على مفهومي "الانقلاب والمفاجأة" [2]، وهذا يذكرنا بنصوص مبدعين كبار نذكر منهم أحمد بوزفور في رائعته "حدث ذات يوم في الجبل الأقرع" التي توجد ضمن مجموعته القصصية "النظر في الوجه العزيز" مع اختلافات طبعا في طريقة الحكي وملامسة القضايا والإشكالات.

إن الدكتور علي القاسمي نجح في تجاوز تقنيات الوصفة والمعايير وتجاوز مستوى الانتماء التصنيفي وخص نفسه بخطاب وصنعة تلفّظ منفردة من خلال علاقة تحويل لا علاقة استنساخ. [3]

البعد الرمزي:

إن المتأمل في قصة الغزالة يلاحظ ورود كثير من الرموز التي وظفت في أدبنا العربي قديمه وحديثه: الصحراء، والغزالة، والذئب، والدم. ومن الذين وردت هذه الرموز كثيراً في أشعارهم نذكر الشاعر العذري قيس بن الملوح الملقّب بمجنون ليلى والذي وجد النقّاد في أشعاره مجالاً خصباً لتجريب مناهجهم الحديثة وبخاصة المنهج النفسي. وإذا كان قيس بن الملوح قد نقل " مأساته وصوّرها في هذا المشهد الصحراوي صراع بين ذئب عاد وظبي جميل مع انتصاره هو للظبي وانتقامه من الذئب" [4]، فإن الدكتور علي القاسمي قام باختزال الصراع الذي يعيشه الإنسان مع ذاته ومع الآخر في ظل التحولات السريعة والمعقدة التي يشهدها العالم المعاصر، تاركاً باب تعدد القراءات والتأويلات مفتوحاً على مصراعيه، ما دام النص قابلاً لكل الاحتمالات.

جمالية اللغة:

رغم أن الكاتب يؤلف باستمرار في مجال علم المصطلح وصناعة المعجم، ورغم دأبه على حضور الندوات واللقاءات العلمية وحرصه على إثراء النقاشات بآرائه، ورغم أن هذه المشاركات تتطلب لغة علمية دقيقة ليس فيها إيحاء أو مجاز أو رمز، فإن صاحبنا حين يخلع عنه بردة العالم ويرتدي لباس الأدباء، تتغير لغته أيضاً وتأخذ تلوينات وأشكالاً مختلفة وتصبح لغة مجازية فيها إيحاء وفيها انسياب وفيها ماء ورونق، على حد تعبير البلاغيين، إذ يتعذّر أن نصادف كلمة تخالف الذوق أو تعبيراً معقداً أو فكرة غامضة؛ كل شيء يخضع لميزان السهولة والوضوح في غير إفراط، وانزياح في غير تفريط.


[1أستاذ النقد الأدبي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في مكناس ـ المغرب

[2إدريس الناقوري ، ضحك كالبكا (الرباط: دار النشر المغربية، 1985) ط1،ص 120

[3محمد برادة، لغة الطفولة والحلم (الرباط: الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1986.

[4محمد غنيمي هلال، "مجنون ليلى بين الأدب العربي والفارسي" في مجلة "فصول" العدد الثالث 1983، ص 151


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى