السبت ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
مطارحاتٌ في فضاءِ الفكْر
بقلم رامز محيي الدين علي

الفَقْرُ

قال برتُولْت بريخْت: "يجعلُكُ الفقرُ حزيناً، كما يجعلُكَ حكيماً".

وأقولُ:

الفقرُ مأساةُ الإنسانيَّة وملهاةُ سعادةِ ثلَّةٍ لا يربطُها بالإنسانيَّةِ أيُّ إحساسٍ آدميٍّ!

الفقرُ روايةٌ مأساويَّةٌ يكتبُها أبالسةُ البشرِ، ويتقمَّصُون فيها دورَ البُطولةِ.. والضَّحايا شخصيَّاتٌ مغلوبةٌ على أمرِها تنتَهي حينَما يقرِّرُ المؤلِّفُون النِّهايةَ!

أيُّها الفقرُ..

لماذا أنتَ مسكينٌ، محتَقرٌ، لا يُبالي بكَ أحدٌ ممَّنْ يسكُنُ في قصورِ الغِنَى، ويَبيتُ على سُررٍ مرفوعةٍ منَ الدِّمقْسِ والحريرِ، ويكتنزُ ثرواتِ الأرضِ؟

لماذا يُحاربُكَ الأقوياءُ والأغنياءُ وذوُو السُّلطانِ؟! لماذا أنتَ ضعيفٌ وعددُ جنودِك من الفقراءِ يساوي ثلاثةَ أرباعِ البشريَّةِ؟!

متَى كانَ المالُ أقْوى منَ الرِّجالِ؟ ومتَى كانتِ الثَّرواتُ أعتَى من شجاعاتِ البطونِ الخاويةِ؟

ألمْ يقُلِ الإمامُ عليٌّ: "لو كانَ الفقرُ رجلاً لقتلتُه"؟! ألمْ تُشفِقْ عليكَ كلُّ الشَّرائعِ السَّماويَّةِ؛ لأنَّكَ ضعيفٌ؟! ألمْ يُدافعْ عنكَ جميعُ المفكِّرينَ والفلاسفةِ والعلماءِ الشُّرفاءِ؛ لأنَّكَ مصدرُ ألمِهم وبؤسِهم في الحياةِ؟!

ألمْ تمُتْ في سبيلِكَ ملايينُ الأرواحِ، وهي تحلمُ بلقمةِ العيشِ؟! ألمْ تسحَقْ حروبُ القياصرةِ الكبارِ والأكاسرةِ الأندالِ ملايينَ الفقراءِ من أجلِ أمجادِهم وشهواتِهم الوضيعةِ العفِنةِ؟! ألمْ تحصُدِ الحروبُ العالميَّةُ ملايينَ البائسينَ من أجلِ السَّيطرةِ على ثرواتِ الشُّعوبِ الفقيرةِ؟! ألمْ تدمِّرِ الحروبُ الوحشيَّةُ ملايينَ أكواخِ الفقراءِ من أجلِ بسطِ النُّفوذِ والهيمنةِ والغطْرسةِ الاستِعماريَّةِ؟!

ألمْ تفْنَ ملايينُ الأجسادِ حَرَّاً وقَرَّاً وكدَّاً وبؤساً وشقاءً، وهيَ تشيدُ أهراماتِ فراعنةِ العالمِ وأبراجِهم العاجيَّةِ؟!
ألمْ تجْنِ كوارثُ الطَّبيعةِ بشتّى أشكالِها على مخيَّماتِ اللّاجئينَ وأكواخِ الفقراءِ وبيوتِ الطّينِ في كلِّ بقاعِ العالمِ، بينَمَا قصورُ الأغنياءِ تنتَشِي بالسُّكْرِ والعربدةِ والخلاعةِ والمُجونِ، وهي تتحدَّى كلَّ قِوى الطَّبيعةِ من عواصفِ الرِّياحِ وقواصفِ الفيضاناتِ؟!

ألمْ يمُتْ ملايينُ أطفالِ العالمِ جوعاً وعطشاً، دونَ أن يتحرَّكَ أدْنى إحساسٍ فيمَن يقودُون العالمَ بقوَّةِ المالِ والسِّلاحِ؟! ألمْ تحصُدِ الأمراضُ والأوبئةُ أرواحَ ملايينِ الأطفالِ دونَ أن يرِفَّ جفنٌ لسادةِ العالمِ الكبارِ الّذينَ يتراقصُون كالبُلهاءِ، حينَما يُنادمُون المُومِساتِ؟!

ألمْ تُحرَمْ أصابعُ ملايينِ الأطفالِ من قلمِ رصاصٍ كيْ يكتُبوا حروفَ أسمائِهم على وريقةٍ تُشعرُهم بأنَّهم بشرٌ مثلَ غيرِهم منَ الأحياءِ؟! ألمْ يُحرَمْ ملايينُ الأطفالِ من رؤيةِ نورِ الكهرباءِ، وعيونُهم قدْ تكحَّلتْ بدخانِ الشُّموعِ ومصابيحِ زيتِ القُطرانِ؟!

ألمْ يرَ العالمُ الأعمَى هؤلاءِ الأطفالَ الّذين يقتاتُون على فضلاتِ القُمامةِ في كلِّ شارعٍ من شوارعِ الأباطرةِ المُتخمينَ بالفسادِ والمخدَّرينَ بأفيونِ الملذَّاتِ؟! ألمْ يسمعِ العالمُ الأصمُّ صرخاتِ الأطفالِ والشُّيوخِ والنِّساءِ، وهم يئِنُّون تحتَ وطأةِ الحاجةِ وفأسِ كِسرةِ الخبزِ؟!

ألم تستَطِعْ كاميراتُ وكالاتِ الأنباءِ والصَّحفيِّينَ الوصولَ إلى مخيَّماتِ البائسينَ المشردِّين وأكواخِهم وبيوتِهم الحجريَّةِ؛ لنقلِ خبرٍ عاجلٍ عمّا يكابدُ ملايينُ هؤلاءِ الفقراءِ، لكنَّها تتهافَتُ على تفَاهاتِ وتُرَّهاتِ مَن لا يخدِمُون قضايا البشريَّةِ قيدَ أُنملةٍ، وكأنّ العالمَ ليس فيهِ من حدثٍ إلّا هؤلاءِ الشُّذَّاذُ والقياصرةُ والفراعنةُ، وكأنَّ تاريخَ العالمِ لم يُولدْ إلّا بينَ أيديهِم ومن تحتِ أقدامِهم، ومن خلفِ عباءاتِهم وأحذيتِهم الّتي تُشبِعُ بثمنِها الباهظِ نصفَ أطفالِ العالمِ المشرَّدينَ، فما بالُكَ بالقصورِ والحساباتِ السِّرّيّةِ والعلنيَّةِ وقوافلِ المواخرِ والطَّائراتِ ووسائلِ السَّلبِ والنَّهبِ باسمِ القانونِ الأعظمِ لمملكةِ الرَّبِّ؟!

قلْ لي: متَى يتساوَى الغنيُّ والفقيرُ أمامَ لقمةِ العيشِ ووصفةِ الدَّواءِ وسريرِ المشْفى ومطرقةِ القضاءِ ومقعدِ الدِّراسةِ؟!

قلْ لي: متَى يتساوَى العالِمُ الفقيرُ مع القيصرِ الثَّريِّ، معَ أنَّ الأوَّلَ يبنِي الحياةَ بفكرِه، والثَّاني يبتلعُ كلَّ مظاهرِ الحياةِ ليخزنَها في أحشائِه؟!

قلْ لي: متَى يتساوَى الغنيُّ والفقيرُ أمامَ القانونِ فيحكمُ قضاةُ الرَّشوةِ للفقيرِ ضدَّ الغنيِّ؟!

قلْ لي: متَى يتحرَّرُ الجائعونَ من قبضةِ هؤلاءِ الوحوشِ؛ ليحلُموا بأنَّ العالمَ جميلٌ كجنَّةِ اللهِ في السَّماءِ، وليسَ جحيماً أشدَّ من جحيمِ السَّماءِ؟!

قلْ لي: متَى سيكونُ العالمُ مثالاً يزولُ فيه الصِّراعُ بينَ سكاكينِ الأثرياءِ وآلامِ أحشاءِ ملايينِ الفقراءِ؟!

قلْ لي: كيفَ سيحلمُ هؤلاءِ الملايينُ من الفقراءِ بالنَّعيمِ السَّماويِّ، ولم تذُقْ أرواحُهم وأجسادُهم إلّا طعمَ الحنظلِ في عذاباتِ الجحيمِ الأرضيِّ؟!

قلْ لي: هلْ هؤلاءِ أباطرةُ المالِ والثَّرواتِ فلاسفةٌ وعباقرةٌ، وأبناءُ الفقراءِ أوباشٌ وأغبياءُ؟!

قلْ لي: كمْ عددُ المفكِّرينَ والعباقرةِ حبلَتْ بهم بطونُ زوجاتِ هؤلاءِ القياصرةِ؟!

الفقرُ:

أيُّها الفيلسوفُ المتشائمُ! أرهقتَنِي بأسئلتِكَ، ولم تدَعْ لي مجالاً للرَّدِّ، دعْني أقولُ ما أقولُ ولا تقاطِعْني!

أنا لفظةٌ أطلقْتمُوها على هؤلاءِ الفقراءِ المساكينِ، ونلتُم من حروفِي كلَّ مذمَّةٍ، وكأنّي أنا المسؤولةُ عن مأساةِ هؤلاءِ، وكأنَّني أنا مَن حرَمَ هؤلاءِ من نعمِ الحياةِ، وكأنَّني أنا مَن شوَّهَ جمالَ الحياةِ بطغيانِ وحوشِ الثَّرواتِ على لقمةِ عيشِ ثلاثةِ أرباعِ البشريَّةِ.. ولم تنظرُوا إليَّ على أنَّني مصطلحٌ أطلقتُموهُ أنتُم في معاجمِكم على هؤلاءِ البائسينَ.. ولو كنتُ أملكُ قدْراً من الفعلِ، لقلبتُ مأساةَ المشرَّدينَ والمسحُوقينَ إلى نعيمٍ يضاهِي نعيمَ السَّماءِ، ولجعلتُ الأثرياءَ أثراً بعدَ عينٍ، كما جعلَ اللهُ آلهةَ الأرضِ عِبراً يرويْها لسانُ الدَّهرِ جيلاً بعدَ جيلٍ؟!

ولكنْ لا تنسَ أيُّها الكاتبُ المتفلسفُ أنَّ مَن بنَوا جميعَ حضاراتِ العالمِ، قديمِه وحديثِه هم الفقراءُ لا الأغنياءُ، العلماءُ لا الجهلاءُ، المفكِّرونَ بعقولِهم لا المُتْخمُون ببطونِهم، صحيحٌ أنَّ هؤلاءِ الأغنياءَ امتلكُوا كلَّ خيراتِ الأرضِ، لكنَّهم لم يستطيعُوا أنْ يَخُطُّوا حرفاً من حروفِ أسمائِهم على جدارِ الزَّمنِ، ولم يتركُوا بصمةً حضاريَّةً تحدِّثُ التَّاريخَ عن أمجادِهم، لكنَّ عباقرةَ الفقراءِ - رغمَ فقرِهم- خلَّدُوا أسماءَهم على خدودِ الكواكبِ والمجرَّاتِ، وحملَت اكتشافاتُهم واختراعاتُهم ونظريَّاتُهم العلميَّةُ أسماءَهم، وغرسُوا فضائلَهم على صفحاتِ التَّاريخِ آياتٍ نيِّراتٍ نهضَت بالبشريَّةِ من أتونِ الجهلِ والتَّوحُشِ إلى فردوسِ الحضارةِ والتَّمدُّنِ والرُّقيِّ.. فانظرْ إلى التَّاريخِ نظرةَ متأمِّلٍ عاقلٍ تُدركِ الفرقَ بينَ هؤلاءِ وأولئكَ، فالّذين صنعُوا تاريخَ الحضارةِ عانَوا من الفقرِ والبؤسِ ما عانَوا، ولم يُسلِّمُوا قيادَ أشرعةِ تحدِّيهم لعواصفِ الدَّهرِ، بل أبحرُوا بكلِّ ما يملكُون من فكرٍ وجهدٍ، ولم يبالُوا بمِحنِ عيشِهم، فصنَعُوا مجدَ الإنسانيَّةِ!

فتأمَّلْ سيَرَ بعضِ هؤلاءِ العلماءِ والفلاسفةِ والمفكِّرينَ، تُدركْ صوابَ ما أقولُ، فمِنْ هؤلاءِ الفلاسفةِ الفيلسوفُ اليونانيُّ (ديوجين- نحو 421 - 323 ق. م) الّذي يُعدُّ من أبرزِ ممثِّلي المدرسةِ الكلبيّةِ، وقد عاصرَ أفلاطونَ، تقومُ فلسفتُه على أنَّ غايةَ الحياةِ هيَ السَّعادةُ الّتي تتحقَّقُ حينَما يعيشُ الإنسانُ منسجِماً معَ الطَّبيعةِ؛ وهذا ما دفعَ بديُوجِين إلى أنْ يعيشَ حياةَ المشردِّينَ والمتسوِّلينَ، وأمضَى أكثرَ من نصفِ حياتِه داخلَ أحدِ البراميلِ الخشبيَّةِ، وظلَّ يجوبُ شوارعَ المدينةِ حافيَ القدمينِ، يرتديْ خرَقاً باليةً، متَّكِئاً على عصاهُ، حاملاً مصباحَه الّذي كانَ مثارَ سخريةٍ بين المارّةِ، فسألَه أحدُهم يوماً: لمَ تحملُ مصباحاً، ونورُ الشَّمسِ يعمُّ المكانَ؟! فكانَ ردُّه: (أنا أبحثُ عنِ الإنسانِ، ظللْتُ أبحثُ عنهُ بينَ الرِّجالِ، لكنّني لم أصادفْهُ بعدُ). وقد نالَ مصباحُه حظوةً من الشُّهرةِ، فعُرفَ بينَ قرّاءِ الفلسفةِ بـ (مصباحِ ديُوجين)، الّذي صارَ رمزاً للحكمةِ.

ومن القِصصِ الشَّهيرةِ الّتي تُروى عنهُ أنّ الإسكندرَ الأكبرَ جاءَ إلى أثيْنا، ومرَّ بهِ وهو قابعٌ في برميلِه، فدارَ بينَهما حوارٌ، فسألَه الإسكندرُ إنْ كانَ يستطيعُ مساعدتَه، فردّ ديُوجين: (اذهبْ فأنتَ تحجبُ عنّي نورَ الشّمسِ)، ولكنّ الإسكندرَ لم يغضَبْ؛ وقالَ مقولتَه الشّهيرةَ: (هذا البِرميلُ مملُوءٌ بالحِكمةِ، ولو لمْ أكُنِ الإسكندرَ الأكبرَ؛ لتمنَّيْتُ أن أكونَ ديُوجين).

ومن هؤلاءِ العباقرةِ (جان جاك روسّو) أحدُ أعلامِ فلسفةِ التّنويرِ، كانَت أفكارُه التّنويريّةُ في كتابِه (العَقد الاجتماعيّ) إلهاماً لثوراتِ الشُّعوبِ ضدَّ طغيانِ الكهنوتِ الكنسيِّ والسِّياسيّ، وقد عاشَ روسّو بائساً مُعْدماً في أسرةٍ فقيرةٍ، فلم يقِفْ بؤسُه عائقاً أمامَ ثورتِه الفلسفيَّةِ.

وكذلكَ عاشَ المفكِّرُ الكبيرُ كارل ماركس (5 مايو 1818 - 14 مارس 1883). مرحلةَ بؤسٍ وفقرٍ مدقعٍ، في عالمٍ منعزلٍ شديد الغرابةِ والغموضِ، يغصُّ بالمفارقاتِ والسُّخريةِ السَّوداءِ، فألّفَ ماركس كتابَه الشَّهيرَ (رأسُ المالِ).

ومن هؤلاءِ المفكّرينَ الّذين ألهمَهُم الفقرُ أفكارَهم الفلسفيَّةَ: الزّعيمُ والمفكِّرُ الهنديُّ المَهاتْما غاندي صاحبُ الثَّورةِ السِّلميَّةِ، وفلسفةِ اللّاعُنفِ، والعصيانِ المدنيِّ الّتي تُوِّجَت بتحريرِ بلادِه من الاستعمارِ الإنكليزيِّ.
وأذكّرُك أيُّها الكاتبُ بنموذجٍ منَ المفكّرينَ تمرَّدَ على كلِّ مظاهرِ الغِنى في حياتِه الّتي وصلَت بهِ إلى مرحلةِ الانتحارِ؛ لأنّها خاويةٌ من أيِّ معنىً منَ المَعاني الرُّوحيَّةِ والفكريَّةِ، هو الكاتبُ العملاقُ الرُّوسيُّ تولستُوي، الذي وزَّع ثروتَه في آخرِ حياتِه للفقراءِ وعاشَ حياةَ الفلّاحينَ، وأوصَى ألّا يُصلّى عليهِ في كنيسةٍ، وأن يُدفنَ في قبرٍ منفردٍ مخالفاً تعاليمَ دينِه، وأرجُو ألّا يكونَ ذلكَ مثالاً لكَ ولغيرِك في وصاياكُم!!

وقائمةُ المفكِّرينَ والعباقرةِ لا تنتَهي، فمِنهم: جورج برنارد شُو، وتشارلز ديكنز، وإدغار آلان بو وغيرُهم، وأظنُّكَ قدِ اقتنَعتَ أنتَ وقرَّاؤكَ بأنَّ الفقرَ شرفٌ وليسَ عاراً، ومدرسةٌ للإبداعِ والإلهامِ، وليسَ طاحونةَ أمعاءِ حيتانٍ ضاريةٍ لا تعرفُ حدَّ الامتلاءِ!

وهَا أنا – الفقرُ- أغوصُ بكُم في يمِّ تاريخِنا العربيِّ، إذْ نجدُ كوكبةً من عباقرةِ الفكرِ والأدبِ عانَوا من شظفِ العيشِ وقساوةِ الحياةِ، لكنَّ ذلكَ لم يمنَعْهم من إبداعِهم، وإبرازِ عبقريَّةِ فكرِهم ومواهبِهم، ومن هؤلاءِ: الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديّ مؤسِّسُ علمِ العَروضِ، وأحدُ أهمّ أئمَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ ومؤلِّفُ أوَّلِ معجمٍ عربيٍّ (العَين). وقد عُرفَ عنهُ أنّه أقامَ في خُصٍّ (خيمةٍ صغيرةٍ من القصبِ) في البصرةِ، ورفضَ عطايَا الأمراءِ والخلفاءِ.

وكذلكَ عميدُ الأدبِ العربيِّ طهَ حسين الّذي أمضَى طفولتَه في الرّيفِ المصريِّ فقيراً، وقدْ حُرمَ من نعمةِ البصرِ، لكنَّ اللهَ لم يحرِمْه من نعمةِ البصيرةِ، فأثْرى الأدبَ والفكرَ العربيَّ بالكثيرِ من المؤلَّفاتِ التَّنويريَّةِ الّتي أثارَت ضجَّةً كبيرةً حولَه، وكادُوا أن يتَّهموهُ بالزَّندقةِ، كمَا اتُّهمَ قبلَه فيلسوفُ المعرَّةِ وشاعرُها الفذُّ أبو العلاءِ المعرّيّ.

ولا يَغيبُ عن ذهنِي عبقريُّ الأدبِ العربيِّ عبّاسُ محمود العقَّاد الّذي أغنَى فكرَنا بسلسلةِ عبقريَّاتِه ومؤلَّفاتِه الجَمَّةِ، ولم يكنْ يحملُ سوَى الشَّهادةِ الابتدائيَّةِ، فعاشَ وماتَ فقيراً، لكنّه خلَّدَ عظمتَه في سجِلِّ العظماءِ.
ولا يُمكنُ للذّاكرةِ أن تنْسى الكثيرينَ من هؤلاءِ العباقرةِ في تاريخِنا القديمِ والحديثِ ممّن عانَوا من مرارةِ الفقرِ وودَّعُوا الدُّنيا مُعدمينَ محرومينَ، منهم: الجاحظُ، وأبو حيّانَ التّوحيديّ، وأبو بكرٍ الرّازيّ، وجابرُ بنُ حيّانَ، والكِنديّ، والحسنُ بنُ الهيثمِ، والسِّيوطيّ، ومالكُ بنُ نبيّ، وأملُ دنْقل، وإيليّا أبو ماضي، ونجيبُ سرور، وصلاحُ عبدِ الصَّبور، وناجي العليّ، وأحمدُ نجْم، وعبدُ الحميدِ الدّيب، وإلياسُ فرحَات.. وغيرُهم ممّنْ كانتْ حياتُهم سجلّاً حافِلاً بالمآسِي والويلاتِ والنَّكباتِ.

وأذكِّرُك أيُّها الكاتبُ الشَّاكي بأنّ الحياةَ إنْ أغدقَت بنعمِها على هؤلاءِ الأثرياءِ، وحرمَتِ الفقراءَ منْها، فإنَّها حرمَت هؤلاءِ المُتخمينَ بالنّفائسِ من نعمٍ كثيرةٍ قد لا يُدركُها إلّا الفلاسفةُ، وأمدَّتْ المحرومينَ بنعمٍ أُخْرى تصنعُ منهُم رجالاً وعلماءَ وأخواتِ رجالٍ وأمَّهاتِ أبطالٍ، ونفوساً عظيمةً تأبَى الضَّيمَ وتصونُ الضَّميرَ وتسمُو بالمثلِ العُليا.
ألمْ تقرأْ فلسفةَ جبرانَ وهو يقارنُ بينَ هؤلاءِ الفقراءِ أصحابِ الكآبةِ، وبينَ أولئكَ الأثرياءِ أصحابِ المسرَّاتِ؛ ليُميطَ اللِّثامَ عنِ الحقيقةِ الغائبةِ بأنَّ الفقراءَ رغمَ شقائِهم وبؤسِهم هُم مَن بنَوا الحضارةَ، وأعلَوا صروحَها بأرواحِهم وأجسادِهم، فيقولُ:

"نحنُ أبناءُ الكآبةِ، وأنتُم أبناءُ المسرَّاتِ.

نحنُ أبناءُ الكآبةِ، والكآبةٌ ظلُّ إلهٍ لا يسكنُ في جوارِ القلوبِ الشِّرّيرةِ، نحنُ ذوُو النُّفوسِ الحزينةِ، والحزنُ كبيرٌ لا تَسَعُهُ النُّفوسُ الصَّغيرةُ، نحنُ نَبْكي، وننتَحِبُ أيُّها الضَّاحكُونَ، ومَن يغتسِلُ بدموعِه مرَّةً يظلُّ نقيَّاً إلى نهايةِ الدُّهورِ..

نحنُ أبناءُ الكآبةِ، نحنُ الأنبياءُ، والشُّعراءُ، والموسيقيُّونَ، نحنُ نَحُوكُ من خيوطِ قلوبِنا ملابسَ الآلهةِ؛ فنَمْلأُ بحبَّاتِ صدُورِنا حفْنَاتِ الملائكةِ، وأنتُم- أنتُم أبناءُ غفلاتِ المسرَّاتِ ويقظاتِ المَلاهِي- أنتُم تضعُون قلوبَكم بينَ أيْدي الخُلُوِّ؛ لأنَّ أصابعَ الخُلُوِّ ليّنةُ الملامسِ، وترتاحُون بقربِ الجَهالةِ؛ لأنَّ بيتَ الجَهالةِ خالٍ من مرآةٍ ترونَ فيها وجوهَكم.

نحنُ نتنهَّدُ، ومعَ تنهُّداتِنا يتصاعدُ همسُ الزُّهورِ، وحفيفُ الغصونِ، وخريرُ السَّواقِي، أمَّا أنتُم فتضْحَكُون، وقهقهةُ ضَحِكِكم تمتَزِجُ بسحِيقِ الجَماجمِ، وحرتَقةِ القُيودِ، وعويلِ الهَاويةِ.

نحنُ نبْكي ودموعُنا تنسكِبُ في قلوبِ الحياةِ، مثلَما يتساقطُ النَّدى من أجفانِ اللَّيلِ في كبدِ الصَّباحِ، أمّا أنتُم فتبتسِمُون، ومن جوانبِ أفواهِكُم المبتسمةِ تنْهرِقُ السُّخْريةُ مثلَما يسيلُ سمُّ الأفاعِي على جُرحِ الملسُوعِ...
أنتُم بنيتُم الأهرامَ من جماجمِ العبيدِ، والأهرامُ جالسةٌ الآنَ على الرِّمالِ تُحدِّثُ الأجيالَ عن خلودِنا وفنائِكم، ونحنُ هدمْنا الباستيلَ بسواعدِ الأحرارِ، والباستيلُ لفظةٌ تردِّدُها الأممُ؛ فتُباركُنا وتلعنُكم، أنتُم رفعتُم حدائقَ بابلَ فوقَ هياكلِ الضُّعفاءِ، وأقمتُم قصورَ نيْنَوى فوقَ مدافنِ البؤساءِ، وها قدْ أصبَحت بابلُ ونينَوي نظيرَ آثارِ أخْفافِ الإبلِ على رمالِ الصَّحراءِ. أمَّا نحنُ فقدْ نحتْنا تمثالَ عشتروتَ منَ الرُّخامِ، فجعلْنا الرُّخامَ يرتعشُ جامداً، ويتكلَّمُ صامتاً، وضربْنا النَّهاونْدَ على الأوتارِ، فاستَحضرَتِ الأوتارُ أرواحَ المحبِّينَ الحائمةَ في الفضاءِ، ورسمْنا مريمَ بالخطوطِ والألوانِ، فغدَتِ الخطوطُ كأفكارِ الآلهةِ والألوانُ كعواطفِ الملائكةِ.

أنتُم تتّبِعُون المَلاهيَ، وأظافرُ الملاهِي مزَّقَت ألفَ ألفٍ منَ الشُّهداءِ في مسارحِ روميَّةَ وأنطاكيّةَ، ونحنُ نلاحِقُ السَّكِينةَ، وأصابعُ السَّكِينةِ؛ نسجَتِ الإلياذةَ وسِفْرَ أيّوبَ، والتَّائيَّةَ الكُبْرى. أنتُم تُضاجِعُون الشَّهواتِ، وعواصفُ الشَّهواتِ جرفَتْ ألفَ موكبٍ من أرواحِ النِّساءِ إلى هاويةِ العارِ والفُجورِ. ونحنُ نعانقُ الوحْدةَ، وفي ظلالِ الوَحدةِ تجسَّمَتِ المعلَّقاتُ، وروايةُ هَمْلِت، وقصيدةُ دانتِي. أنتُم تسامِرُون المطامِعَ، وأسيافُ المطامِعِ أجْرَتْ ألفَ نهرٍ منَ الدِّماءِ، ونحنُ نرافقُ الخيالَ؛ وأيدي الخيالِ أنزلَتِ المعرفةَ من دائرةِ النُّورِ الأعْلى..

نحنُ نُشفِقُ على صَغَارتِكُم، وأنتُم تكرهُونَ عظمَتَنا، وبينَ شفَقتِنَا وكرهِكُم يقِفُ الزَّمانُ مُحتاراً بنَا وبِكُم..
نحنُ نبنِي لكمُ القُصورَ، وأنتُم تحفُرُونَ لنَا القُبورَ، وبينَ جمالِ القصْرِ، وظُلمةِ القبْرِ تَسيرُ الإنسانيَّةُ بأقدامٍ من حديدٍ.

نحنُ نفرُشُ سبُلَكُم بالورودِ، وأنتُم تَغْمرونَ مضاجِعَنا بالأشواكِ، وبينَ أوراقِ الوردةِ وأشواكِها تنامُ الحقيقةُ نوماً عميقاً أبديَّاً.

منذُ البَدءِ وأنتُم تُصارعُونَ قِوَانا اللَّيِّنةَ بضعفِكُم الخشِنِ. تغلبُونَنا ساعةً، فتَضجُّونَ فرحينَ كالضَّفادعِ، ونغلبُكم دهراً، ونظلُّ صامتِينَ كالجبابِرةِ. قدْ صلبْتُمُ النَّاصريَّ، ووقفْتُم حولَه تسْخَرُونَ بهِ وتُجدِّفُون عليهِ، ولكنْ لمّا انقضَتْ تلكَ السَّاعةُ نزلَ مِن علَى صليبِه وسارَ كالجبَّارِ يتغلَّبُ على الأجيالِ بالرُّوحِ والحقِّ ويَملأُ الأرضَ بمَجْدِه وجمَالِه.
قد سَمَمْتُم سُقْراطَ، ورجَمتُم بولُسَ، وقتلْتُم غَليلُو، وفتكْتُم بعليِّ بنِ أبي طالبٍ، وخنقْتُم مِدحَت باشَا، وهؤلاءِ يَحْيَون الآنَ كالأبطالِ الظَّافرينَ أمامَ وجهِ الأبديَّةِ، أمَّا أنتُم فتَعيشُون في ذاكرةِ الإنسانيَّةِ كجُثَثٍ فوقَ التُّرابِ لا تجِدُ مَن يدفنُها في ظُلمةِ النِّسيانِ والعدَمِ.".

وأختتِمُ فلسفَتي -أنا العبدةُ الفقيرةُ إلى ربِّها - (أمُّ الكآبةِ ومصدرُ الإلهامِ والعبقريَّةِ) بقصيدةِ فيلسوفِ الفُقراءِ وعبقريِّ الشُّعراءِ (إيليّا أبو ماضي) وهوَ يذكِّرُ ذلكَ الغنيَّ المُتعاليَ بأصلِه، ويبيِّنُ فيها رؤىً فلسفيّةً تتعالَى بالفقراءِ وتُساويْهم بالأثريَاءِ، إذ يقولُ:

نَسِيَ الطِّينُ ساعَةً أَنَّهُ طينٌ
حَقيرٌ فَصالَ تِيْها وَعَربَدْ
وَكَسَى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهَى
وَحَوَى المالَ كيسُهُ فَتَمَرَّدْ
يا أَخِي لا تَمِلْ بِوَجهِكَ عَنّي
ما أَنا فَحمَةٌ وَلا أَنتَ فَرقَدْ
أَنتَ لا تَأكُلُ النُّضارَ إِذا جِعـ
ـتَ وَلا تَشرَبُ الجُمَانَ المُنَضَّدْ
أَنتَ في البُرْدَةِ المُوَشّاةِ مِثلِي
في كِسَائي الرَّديمِ تَشْقى وَتُسْعَدْ
أَنتَ مِثلي مِنَ الثَّرى وَإِلَيهِ
فَلِماذا يا صاحِبِي التِّيهُ وَالصَّدْ

في الختامِ أشكرُك أيَّتُها الكلِمةُ الفيلسوفةُ – الفَقرَ- على ما أفحَمْتِني بهِ من جواهرِ الفكرِ والحقيقةِ والخَيالِ.. وهَا أنا اليومَ أتقدَّمُ إلى محكمةِ العدالةِ في كلِّ معاجمِ الدُّنيا أن يرفعُوا من مقامِكِ إلى أبراجِ السَّماءِ، وأن يُعيدُوا لكَ عظمةَ شأنِكِ في غياهبِ الفكرِ وزوايَا معاجمِ الألِفِ باء!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى