الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠٢٣
بقلم سماح خليفة

الكينونة وقلق الوجود، في شعر مصطفى مطر

إن مصطلح (الكَيْنُونَة) واسع المعنى ومثير للجدل في تاريخ الفلسفة، ويُعدّ مفهومًا دقيقًا وعميقًا في دراسة الشعر في إطار تلك الفلسفة وإشكالياتها؛ لأنّه يتعرض لقضيّة الوجود الإنساني على نحو عام، وماهية هذا الوجود. وذات الشاعر هي الأقدر على إدراك الوجود وفلسفته وفق حاسة استشعار منمازة، تحقق المتعة للمتلقي وتأسر حواسه، فهو القادر على معالجة تلك القضية برؤى إبداعية لها دلالات شعورية متماهية مع اللامتناهي في أعماق الشاعر، وعلى الرغم من أن الشاعر يتّكئ على المحاور الثلاثة التي تشكلت منها الكينونة، منذ ولادة القصيدة ككل، إلى بدء الوجود في متنها، والسيرورة الزّمنية داخلها، وصيرورتها المنتهية في نسق القصيدة، وغير المنتهية في مخيال الشاعر؛ إلا أنّ الشعراء ليسوا سواء في إدراكهم لهذه القضية من عدمه، ومدى التلازم والترابط بين هذه المحاور الثلاثة، ثم إنّ شذرات الكينونة الشعرية (الوجود والموجود) المتشكلة من محيط الشاعر، والتي نهلها من معين الموت، والحياة، والولادة، والمصير، والفناء، والعدم، وسيرورة الوعي، وصيرورة الوجود،...، كلها ثيّمات القصيدة، تشي بدقة المفهوم العلميّة لدى بعض الشعراء، وإبداعه في قراءة المحيط في كل الاتّجاهات، من خلال ذاته المنفعلة المتفاعلة مع العالم، بشيء من فلسفة الوضعيّات، الظّاهر منها والباطن. ومن بين هؤلاء الشعراء، الشاعر الفلسطيني المغترب، مصطفى مطر، فضلًا عن الثقافة الواسعة، والإدراك العميق لمفردات الوجود؛ لما يتمتّع به من رؤيا شعرية، وحساسيّة تجاه معاناة العربي إزاء إشكالاته الحضاريّة، والخطر الذي يحدّق بكينونته، فيكون إنتاجه الشعري جزءًا من معاناة شعبه التي تضمنت معاناته، وروح العصر الثقافي والحضاري، فمعاناة الشاعر كما يؤكد (ألبير كامو) تشكّل لحظات دراميّة تمثل أبعاد التجربة الحضاريّة والمعاناة الفكريّة، والهزيمة السّياسيّة. وهو ما نلمسه من تجربة مطر، في ديوانه (صراخ المرايا).

من يقرأ لمطر يشعر بحالة القلق التي يعيشها الشاعر، والتي تحفّزه للانشغال بقضيّة الوجود والشعور بكينونته، وتحقيق إنوجاده الذي أرّقه الاغتراب عن كينونته الذّاتية والزّمكانية. فوجود جسده خارج مسقط رأسه، فلسطين، نواة البدايات المشكِّلة لهذه الكينونة، في حين أنّ انشغاله فكريًّا وعاطفيًّا ووجدانيًّا يتمركز هناك، ما يخلق تشرذمًا في نفسيّة الشاعر، يسقطها على قصائده، فيغنيها بثيّمات في غاية الأهميّة، تشكّل محيط دائرة يدور فيها بزمن لا ينتهي، ومكان غارق في ثقب أسود غامض، لا هوية له. وكل المعاني السابقة لا تتحقق إلا بوجود الآخر والعيش معه، كما يعبر عن ذلك (هيدغر): الكينونة-معًا، وبهذا تتحقق الإشكالية الكبرى، باختلاف الآخر والمكان وأرق الذّات، وما يتّصل بها من حياة وموت، وميلاد ومصير، وقبول ورفض، ووجود وعدم، وسيرورة الزمن وصيرورته...

يعنون الشاعر مصطفى مطر ديوانه الشعري بـ (صُراخ المرايا)، حيث يشكّل (الصراخ) الفعل الأول للمولود، والذي ينبئ بحياة جديدة، إنْ فقد صرخته فقدها، وهو في الوقت ذاته صوت الرفض للموت، وطلب الحياة.
يلجأ الشاعر إلى رمز (المرايا) الذي يشكّل قطبًا محوريًّا، يستوعب الدّلالات المتقابلة أو المتناقضة؛ لفهم مزدوجات الحياة، حيث إنّ رمز المرايا يتكوّن من نسيج من الثنائيّات الضّدية المتقابلة، تسعى من خلال ذلك إلى تعديل المُهشّم في نفسه، ليأخذنا إلى البحث عن الذّات الحقيقيّة التّي يسعى إلى تكوينها، كاشفًا عن نقاط الضّعف فيها مِن خيبة وفقدان، فالأمر أشبه بتعويض عنِ الواقع المعاش في الحلمِ الإبداعيّ (المنفى الواقعي)؛ لذا فإنّ التّعبير باللغة الرّامزة، قابلٌ للتماهي مع العوالم الخياليَّة، وقادرة على خلق توازن نفسيّ للذّات، من خلال اللّجوء إلى مكان أرحب يُحقّق فيه رغبته الجامحة.

والمرآة تحمل دلالات متنوّعة، تعكس صورة "الأنا" والمنشق عنها، الأنا الأخرى، ولكن المنشق أضحى رقيبًا للأصل، فالالتقاء بين الرّوح والرؤية يعكس أضدادًا، فالرّوح مرئيّة والمرئي روحًا، وهذا ما يشير إلى المذهب الأفلاطوني، الذي يرى أنَّ "نظريّة الانعكاس المرآوي، وما تتضمنه من ازدواج: المماثلة والمغايرة، الهويَّة والاختلاف، العينيَّة والغيريَّة، الذَّاتيَّة والآخريَّة... وغير ذلك من الثنائيَّات، يتوقف (قطباها) كلّ منهما على الآخر توقفًا جدليًّا متبادلًا"، انعكس ذلك في تكرار ثنائيات الشاعر في قصائده: "خرساء، بُحّة، صمت، سكوت/صوت، صاح، صراخ، نادى، هتف، يشدو"، "الموت، جنازة، قتيل، أنقاض، فناء، احتضار، قبر/حياة، بقاء، ميلاد، ولدت، صلصال، طين، الشهقة الأولى"، "ريّان/تصحّر"، "جوعى/ شبعوا"، "غفوة/صحوة"، "حضوريًّا/غيابيًّا"، "الحقيقة/الخرافة"، "السماء/ الأرض"، .......الخ. وفي تعدّد الأضداد ما يوحي بوقوع الشّاعر بين الشكّ واليقين، بين الوطن والمنفى، بين الضياع والهويّة، بين "أنا" الماضي و"أنا" الحاضرة و"أنا" المستقبليّة، و"المرايا" بصيغة الجمع توحي بالمعاناة الجمعية، فالشاعر يريد أن يعكس ذاته في مرايا الكل بجميع حالاتها، أو نفوس الآخرين على اختلافها، فالمصاب والمصير مشترك لمن فارقوا أوطانهم.

ثم إنّ رمز المرايا يُوثق لحظات توتر وقلق لدى الشّاعر، ومن يشاركه المحنة والمصير، ذلك لوقوعهم بين زمنين: الآني والآتي، وهما لحظتان ضدّيتان، تكشفان عن مشكلات استلاب الهويّة، "ومآزق التّصدّع والانشراخ في الرؤية إلى الذَّات والعالم والآخر، وانعكاساتها على مرايا النّص"(سارتر، الكينونة والعدم).

ومرايا الشاعر المتشرذمة والمهشمة في مرآة ذاته، ومرايا الجمع المشترك في الوجع والمصير، يصنّفها في ديوانه الصادر عن دائرة الشارقة 2019، إلى أربع مجموعات: (مراياهم، مرايا الذات، مراياهنّ العتيقة، مرايا صامتة)، إنّ القارئ لهذه المرايا المكونة من 237 صفحة، يجد أن صيرورة الكينونة التي انتهت بالموت ومرادفاته، قد تكرست في 169 صفحة، شكّلت (مراياهم ومرايا الذات)، فوردت كلمة (الموت) صريحة ثمانية عشرة مرة، ومرادفاتها ومتعلقاتها من "القتل، الجنازة، قبر، تابوت، أنقاض..." عشر مرات، في حين خلت (مراياهنّ العتيقة) من أي لفظة أو إشارة للموت، حلّت محلها سيرورة الزمن المتجلّية بإغداق أفعال الحياة والحب وممارساته، فعلى سبيل المثال، قصيدة (حائرة بنات مشاعري) وحدها، حوت ألفاظًا من قبيل: "ماء، قُبَل، شفتان من كرز ص159، الهوى ص160، الغرام، الاحتراق الكامل ص161، تشتهي ضمّا ص162، ابتسمت، فرط الشوق ص164، العاشقات، ولوج هواك، قلبا أظلّها ص165، ستضمّك امرأة، يضمّك قلبها، متيّم ص166..."، واقتصرت (المرايا الصّامتة) على ثنائيّة تشكّل صراع الوجود والبقاء وسيرورة الزمن وصيرورته، هما "الموت ص229، لا تموت ص222".

وهذا التفاوت في ديوان (مصطفى مطر) إنّما يكشف محطات حياته التي عاشها في غزة حيث الموت والفقد، ثم بداية الغربة وألم الفراق والحنين، ثم محاولة العودة للحياة وممارستها بشكل طبيعي، إلى عدم القدرة على ترويض الذاكرة، والانفكاك عن الوطن والفقد والموت. وهذه السيرورة الزمنية غير المستقرة التي عاشها مطر خلقت قلقًا وجوديًّا لديه، جعلته يبحث عن حقيقة وجوده، تجلّى صراحة في ديوانه بقوله: "قلقٌ على الإسفلت ص66، قلقٌ بحجم مجرّة تأتي إليّ ص81، صلّت فسلّم في محرابها القلق ص112"، وهذا القلق يولّد أرقًا لدى الشاعر يظهر في تكرار العبارة ذاتها في أكثر من موقع: "أرِق الدّموع"، مما يمثل الحالة التي سيطرت على الشاعر أثناء بحثه عن حقيقة وجوده، حيث وردت لفظتي (الحقيقة والوجود) صريحة في سبعة مواقع: "من لوّنوا القوس حبًّا في الوجود ص17، كيف أختبر الوجود إذا اهتديت ص24، أنا الحقيقة ص28، يكفيك يا روحي اكتفيت حقيقة ص29، هي التي باءت بخيبتها حقيقتُها المُخلّة ص29، تصفعني حقيقتُه ص76، بقيّةٌ مما ذرفتُ على حقيقتها الهزيلة ص82".

وعند الولوج في أعماق قصائد الدّيوان نلحظ مدى نضوج معجم الشاعر الحسّي والإدراكي واللغوي والبلاغي للكينونة الوجودية بتشكلاتها ومحاورها وأبعادها، فالشاعر في خضم حديثه عن الشعر وجنونه، يطيب له الغوص في تكوينه "يطيب الغوص في تكوينه ص86". فهو يحيط به من بداية الوجود، وسيرورته الزمنية الخارجة عن سلطان الفعل الإنساني، وصيرورة كينونته بعد مرورها بمراحلها السابقة، في إطار قلق وجودي يبحث عن حقيقة الإنسان، وحقّه في البقاء والحياة. فيعيد مطر في قصيدته صياغة سؤال الهوية في أطر إبداعية، ومحاولة الإصغاء لروح الجمعية الإنسانية، وتمثل قضاياها وراهنها.

يبدأ الشاعر كينونة شعريته من أول الدّنيا، بدايات الحياة، وخلق الإنسان من صلصال، من طين، تراب عتيق، قديم، ثم يكبر في أحلام طفولته: "من أوّل الدّنيا وأنت متاجرٌ بك، ص53"، من أوّل الدّنيا ولوحةُ وجهه خجلا، ص59"، "رجلا يفتّش عن مكان ولادة، ص211"، "من شهقة الماء في الصلصالِ أنبثقُ، ص111، "كنتُ إذا توالدَ الطّين في جنبيّ أختنقُ، ص112"،......، وقد وردت كلمة (الولادة) ومشتقاتها خمس مرات، و(الطين، الصلصال، التراب) عشر مرات، وجاءت كلمة (أول) في التشكلات الآتية: (أول الحياة ص122، أول الميلاد ، أول الدنيا ص53،59، أول امرأة ص56، أول الطفولة، أول الأحلام ص122، أوله ص50، البهجة الأولى ص17). ثم يسير الشاعر في سيرورة زمكانية تسيطر بشكل لافت على ديوانه، ويتجلّى الزمن في تكرار مترادفات: (الدهر، الزمن، الوقت، التاريخ، التأريخ)، الذي يدور في ديوانه على حيّز (الأرض، الوطن، المنفى، الطريق، السفر)، وتظل سيرورة الشاعر الزمنية متمثلة في (مسافر، السفر والتنقل) تسيطر على قصائده، فتتكرر لفظة (السفر) ومشتقاتها في أكثر من موضع: ص7، 9، 31، 131، 128، 151، 214، 232،....".

وفي هذه السيرورة الزّمكانية ينشئ الشاعر ثنائيّة التّعبير والتّواصل، حيث يرفض الصمت والسكوت، والخضوع، والتكبيل، ويجابهه بالحرية، والصوت، والصياح، والنداء والغناء، والشّدو، والآهات، والأنين، والصدى (ص122، 156، 164، 167، 213، 214، 219، 228، 236، ..."

ونجد الشاعر يعود إلى كل قديم وعتيق، فيتناص دينيّا بالعودة إلى الطوفان، الأب وابنه، حيث الموت، وبداية الحياة من جديد: "أنا وابنه النصفيّ في وجعي القديم، جبلان يمرّ الدمع بينهما طوفانا، الطور، ص23، وقصيدة (لا عاصم اليوم) ص139.

حاول الشاعر في ديوانه (صراخ المرايا) أن يجسد مشهديّة الكينونة، الحياة، الوجود، المتمثلة بالصراع القائم بين الثنائيّات الضّدية منذ البدايات، في سيرورة زمكانية تتأرجح بين وطن غائب واقعيًّا حاضر وجدانيًّا، ومنفى حاضر واقعيًّا غائب وجدانيًا، وصيرورة تفلّتت من موت سيطر على ثلثيّ الديوان (مراياهم، مرايا الذّات)؛ لتصير حياة نابضة باستحضار الذاكرة التخيليّة، في مجموعته (مراياهنّ العتيقة)، ليبقي السؤال مفتوحًا في نهاية الديوان (مرايا صامتة) بين (الموت) و(اللاموت)، وهو ما جسّد قدرة الشاعر البلاغيّة في القبض على كينونته الفردية والجمعية بشروطه الإبداعية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى