الاثنين ٣١ أيار (مايو) ٢٠٢١
إطلالة على حلم الواقع وواقع الحلم من خلال
بقلم الهادي عرجون

المجموعة القصصية «بقعة حلم» للكاتبة نجاة نوار

عندما تنظر للسماء المختنقة بالحمرة القاتمة لتفتح شرفتها للحلم، حين ترخي ستائر الأمل وتزحف نحو ردهة واسعة بخطوات بطيئة وهي تقضم تفاحة الحلم لتفتح عينيها في ذهول وبين يديها قلم جف حبره بعد أن شكل على ورقة بيضاء بقعة حلم مازالت طرية، هكذا تنهي نجاة نوار مجموعتها القصصية الاولى التي اختارت لها من العناوين (بقعة حلم)، في 87 صفحة ضمت بين طياتها 15 أقصوصة، والتي مزجت فيها بين عدة متناقضات طغت عليها مسحة الحزن والقلق إزاء الأسئلة الوجودية الساكنة في داخلها، وما صحبها من غموض تجاه الحياة.

ففي البداية لابد من أن نقف على عتبة العنوان فالبقعة هي القطْعة من الأَرض تتميَّز ممَّا حولها وهي كذلك القِطْعة من اللَّون تُخالف ما حولها، أما الحُلم فهو سلسلة من التخيلات التي تحدث أثناء النوم، وتختلف الأحلام في مدى تماسكها ومنطقيتها، كما أن الأحلام هي وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغباتها ودوافعها المكبوتة خاصة التي يكون إشباعها صعبا في الواقع. ففي الأحلام يرى الفرد دوافعه قد تحققت في صورة حدث أو موقف، ولذلك فأن كثير من الأحلام تبدو خالية من المعنى والمنطق شبيهة بتفكير المجانين على عكس أحلام اليقظة التي تكون منطقية جدا.

(بقعة حلم) كشعاع نور أسود على بياض الورق، لإجلاء غموض النفس وتوضيح أسرارها، وهي عبارة عن أحلام اليقظة نصوص واحلام تعكس نضجا في تجربة نجاة نوار القصصية فهي المتجولة بين حالات وجودية شتى تقابلها جملة من الثنائيات كالحلم والأمل والحزن والفرح والنور والظلمة، وما يكتنفه من هموم تسبح في مخيلة الكاتبة وذاكرتها وتسكن وجدانها. فالقلق والحزن يتبعه صراع الحياة الذي يتجسد في التفكر مع الذات إلا أنها كذلك مغامرة وصراع بين النور والظلمة بين الواقع والخيال.

وأنت تعبر بقعة الحلم تنتظر أن تستيقظ من حلمك بعد كل حلم ولكن تغوص بمخيلتك نحو حلم آخر ينبثق من نص آخر ينبض روحا ودفء كأني بها شهرزاد تحكي حكايات الليلة بعد الألف وهي تغمرنا بفيض من الهدوء والسكينة تارة ومن القلق والخوف تارة أخرى، وأنت تعبر الحدود مع بطلها، وأنت تجتاز لوالب الأسلاك الشائكة وتشحذ ذاكرتك وبصيرتك لتتفادى موضع الألغام، وأنت تركض متجاهلا ثقل الحمولة ودوريات حرس الحدود، وأنت تتسلح بحلم النجاة في بقعة من الحلم محاولا عبورها والخروج منها لتكون النجاة وتكون الولادة "بالفناء ابتعدت عنه أمه متلعثمة. احتار وهو يحاول فك طلاسم ملامحها واقتربت منه زوجة أخيه بوجوم «بنت أخرى»"(ص12)، وليس الذكر كالأنثى ولكنها نجاة وخلاص وصوت الحياة "إنه صوت الظفر، ...أسميها نجاة"(ص12).

ليطفو على الزمن ذلك الغروب والمساء فالزمن زمن الانتهاء لا زمن البداية كأن الأفكار تنتظر نهايتها ومع هذا فهو زمن الولادة والحياة، فالزمن هو زمن الغروب ونلاحظ ذلك في النصوص الأربعة الأولى (انتشرت رائحة المساء/ جيوش المساء تزحف/ خيوط المساء تحيك حلة قشيبة/سرحت ببصرها نحو ستائر المساء الحالكة...) وكذلك سيطرة معجم الظلمة والليل حيث تكررت ثيمة الليل 11 مرة (ووصلت الليل بالنهار/ وصيته ليلة أمس/ لم تنم ليلتها/ ما أجمل الليل ...) وكذلك الشأن بالنسبة لثيمة الظلمة التي تكررت بدورها 11 مرة (الظلمة الراكدة/ هاوية أشد ظلمة/ يزداد الظلام...) وهو ما يمكن أن نطلق عليها بأحزان الغروب فالليل هو مصدر السكون (وجعلنا الليل سباتا) فهو بحث انساني دؤوب في كل مكان عن الراحة رغم ما فيه من قلق وجودي فالليل هو مصدر الوحدة والتفكير في جوهر الوجود الإنساني وتحقيق السلام والسعادة.

كما انفتحت المجموعة على ألوان مختلفة من الذكريات وهي تتفحص ذاكرتها وتلقي بما حوته في شكل قبسات، فلا قدرة للإنسان عموما على العيش بدون تلك الذاكرة التي تشكلت بمضامين ومعاني متعددة لتنتقل من الواقع السلبي إلى الحلم والفعل الإيجابي، وقد ظهر ذلك من خلال تكرار ثيمات مثل (الذاكرةـ التذكر-الذكرى...) حيث تكررت هذه اللفظة بمختلف اشتقاقاتها اللفظية في المجمل (36 مرة)، وكذاك تكرار كلمة (فكرة، أفكار-فكرت...) حيث تكررت هذه الثيمة بدورها بمختلف اشتقاقاتها في المجمل (14 مرة).

فالكاتبة نجاة نوار تعود بنا إلى الماضي القريب وذكريات الطفولة والشباب التي تراودها مرة تلو أخرى والتي تشكل مسحة من الحزن، فالماضي حزين وكذلك الحاضر لتخرج في شكل صور تذكارية تجسد الحالة النفسية أثناء كتابة هذه النصوص، على الرغم من جبة الأمل التي تلبسها هذه النصوص في عدة مواقف وأحداث. ليكون الاسترجاع سمة من سمات نصوصها حين تترسخ في ذهنك جملة من الأفكار لتعود إلى الواقع رغم ما فيه من قلق وجودي ونفسي عندما تبحث البطلة عن شغل (قلق الأرصفة)"مر شهران وهي تلاحق إعلانات عروض الشغل. تدقق في الشروط والمواصفات المذكورة، وتسجل العناوين بمفكرتها الصغيرة"(ص24)

وكذلك في نص (طوفان و لاسفينة) عندما تتحدث عن الوباء "...ملامح ذاك "الفيروس" الذي ألغى حدود الجغرافيا وسافر دون حقائب وبلا جوازات سفر وراح يثبت بفظاعة هشاشة كائن بشري...أضحى يحمل الموت بكفه ويمنحه للقريب قبل البعيد"(ص48).
والنص الملغز يأتي في آخر المجموعة (بقعة حلم) عندما تقول القاصة "تركت التخمينات لأغوص بالصفحة باحثة عن اسم سلاح مرخص صالح لكل زمان ومكان. قرأت بالقائمة الغريبة كلمة واحدة كانت «القلم»"(ص83)، فالقلم كما قيل: "بريد القلب يخبر بالخبر وينظر بلا نظر" وهو السلاح الذي يخترق الأزمنة وينتقل بسهولة من مكان لأخر والكتابة سلاح سلاح وذخيرة، كما أن أول كلمة أنزلها الله "عز وجل" على الرسول صلى الله عليه وسلم هي "اقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [القلم (الآية 1-5)].

وبذلك فالكاتبة نجاة نوار تلوذ بالكتابة وبالحلم هروبا من الواقع وبالكتابة عن الواقع لتحتمي بالحلم بالاعتماد على جملة من الإيحاءات والتخييل في تصوير الواقع في بعض النصوص مردها نقد الواقع وتعريته.

ولكن المتأمل في نصوص المجموعة يلاحظ نوعا من التحدي: (الواقع – السلطة – المجتمع-العائلة...) ذلك التحدي الذي برز في الشخصيات المحورية المعتمدة في الأقاصيص التي تدور حولها الأحداث، هذه الشخصيات المحكومة بعذاب الواقع. كما تضعنا الكاتبة نجاة نوار أمام أنواع من التحدي، تحد يختلف من قصة إلى أخرى، تحد يستحق أن يناضل ويكابد الإنسان من أجله خاصة إذا ما تعلق الأمر بمتطلبات الوجود (لقمة العيش، العمل، الدراسة، العدالة الاجتماعية، ...)، ليبرز عند الكاتبة ذلك القلق الوجودي الوجدانيّ الذي وشح أفكارها وتصرفات شخصياتها القصصية.

فالكاتبة نجاة نوار بتطرقها لعديد المواضيع الهامة (التهريب – الفساد – البطالة -الهجرة السرية، ...) وغيرها من المواضيع الأخرى، تكتب بجرأة، فهي تقلب منعطفات ومنعرجات المجتمع التي تحاول أن تسلكها بمعية شخوصها، هذا المجتمع الذي تسكنه المتناقضات بنبش المسكوت عنه وتعرية الواقع، وتكشف عن آراء فكرية تعكس فكر الكاتبة وشخصياتها التي تنوء بثقل الواقع المعيش، وحالات نفسية تعبر عن حقائق مجتمعية وقيم إنسانية وقضايا وجودية في المجتمع التونسي.

وفي الختام يمكن القول إن الكاتبة نجاة نوار لا ترتهن لأسلوب واحد من الكتابة الإبداعية تنطلق من الواقع لتعود إليه لتنتصر لقضايا الإنسان والواقع والمجتمع فهي لم تجانب الواقع ولم تدر ظهر نصوصها للواقع بل تستقي منه فالقصة عموما من الفنون التي تحتكم لأبجديات الواقع ولعتبات الحقيقة التي نعيشها ونحياها لتنقل لنا الحقيقة وتعريها وتكشف فسيفساء المجتمع بكل ما فيه من متناقضات وأفكار. وهو ما يجعنا نرقب أمواج نصوصها التي تفردت بخصوصية خدمت النص وميزت لغته وطريقة طرح القضايا التي عبرت عن حالات فكرية ووجدانية لامست اليومي وعايشت الواقع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى