الخميس ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم وهيب نديم وهبة

المجنون والبحر

مسرحة القصيدة العربية

قبل الدخول إلى النص

قبل أن تجف أصابعي ..
من دم المجنون والجريمة
( الحبر والكتابة )
وقبل أن أعلق على جسد
الصليب الخطايا ..
أقدم أداه الجريمة !!
(نوعية هذا الإبداع )

مسرحة القصيدة :

أن لكل تجربة أدبية جديدة ، قاعدة موروثة وقاعدة مبتكرة .. ولستُ هنا بصدد تحليل فصيلة دم المجنون .. وفحص الضغط العالي للغضب .. وسرعة نبضات القلب للعشق .. وعمق الجرح واتساع الشرخ في الذاكرة ..
وقبل أن تنفض يدكَ من دم يوسف !
أقدم جسد القتيل ! (مسرحة القصيدة )
أن مسرحة القصيدة : عملية دمج كلمتين معًا ( مسرح وقصيدة ) واترك السكين مغروزة في جسد القتيل ( النص ) ساكنة .. ساكتة .. صامتة شاهدة على هذا العصر ..
وأترك بين يديكَ مفاتيح النص وأنسحب !!

الحلقة الأولى

قد يكون الجنون ..
في هذا الزمن بالذات، أكثر واقعية من الواقع الحياتي المعاش ..
وحقيقة حتمية مفروضة .. وقوانين اجتماعية وسياسية تدق بعنف بصلابة على العقل والأعصاب .. أصبحنا بحاجة إلى قضاة ولجان تحكيم .. في ما بيننا من علاقة ..

أصبح الإنسان الطيب النزيه، منبوذاً ومرفوضاً وكافراً في استغلال الفرص .. كما يقال
ولا يقال انه متواضع محب، يحب الخير لكل الناس .. طيب القلب, بسيط الانفعال .. وصافي العقل والوجدان .

ليس من السهل،
أصبحت النزاهة عاراً والدعارة علماً والخداع تجارة
والكذب مهنة ..
تحرك المجنون في داخلي.
ليكن الجنون بداية البداية.

بين الحلم, والوهم، والخيال ..

بين العشق العادي .. والعشق الممزوج بالدم، والخيانة، والنفاق، هذا الوهم القاتل ..
الذي يجعل للمادة قدمين وكفين ويحمل الأرض ..
على كف هاوية.
وهذا الخيال الذي يجمع البحر في زجاجه ويجعل الرمل وسادة.

إنه هنا ..
لم يقرع بابي ولم يدخل من النافذة.
انه العاشق المجنون ..
الخارج من ذاتي، يفرش أوراقي فوق طاولتي، وبين الغابة التي تنبت أشجارها فجأة وفروعها فجأة ويصبح لها مخالب وأنياب،
وبين رقة الحلم التي تجعل جسدكِ
يعود من مشارف الغابة، من مغارب القلب والأحزان بالعطر والياسمين ..
وبين الوهم .. هذا الفرح الهارب من النوافذ العالية
بالأشواق وأحلام الناس ..

هذا الوهم الذي يدخل حياة الإنسان. ويكتب العالم بحراً والبحر اصغر من دمعة. العالم – مهجة تتمزق والموج ثورة.
العاشق المجنون يفتح للفرح الآتي
كل زجاجات الحزن، ويسكر ، ويشهق .. ويهتف : عاش الفرح.

ينهض، يجمع كل زجاجات الحزن، ويركض، ويركض حتى البحر ..
يرمي واحدة، وأخرى، وعشرة .. ويرمي .. ويرمي .. يغرق البحر بالأحزان.

ينهض، يجمع كل مياه البحر
ويضحك .. يضحك .. الآن البحر في زجاجة.
 
وأنتَ خارج الزجاجة - من أين يأتيكَ الفرح ؟
الآن، قد يكون ..
وأنتَ داخل الزجاجة، أنتَ تستل لقمة العيش الصعبة من بين أنياب اسماك القرش والتماسيح التي لا تعرف الدموع.
الآن، من منا أكثر واقعية – أنتَ،
أم المجنون الخارج من ذاتي إلى البحر الكبير.

الحلقة الثانية

" ينتظر المجنون بجانب المقصف القديم المتروك على الشاطئ .. يلعب بين أعمدة الحديد التي بقيت واقفة برغم رياح البحر والزمن "

قلتُ : " أن كل امرأة يمكن أن تكون سمكة "

ضحك المجنون، وقال:
" ويمكن أن تكون ملعقة السم في الحنجرة. ”

أشار بيده: اسكت أنتَ! اصمت!

قال وقد تعلق بعمود الزاوية:
" ويمكن أن تكون زنبقة، نخلة، أو شجرة، أو حتى نحلة تلسع "

ضحكتُ .. " أنتَ تثير أعصابي، " همستُ .. بين ذاتي وخيالي، من يضع امرأة في راحة الكفين ويقبض على العشق، يغلق الأصابع على جمرة ..

قفز المجنون من العمود العالي إلى الأرض،
وهو يصرخ : “ هالة! "

هالة دخلت مثل الأرنب البري في ذاكرة المجنون، وعاشت في شرايين الدم وركضت في حقول القلب الواسعة البيادر ..

جاءت بعد جفاف البحر ،
وموت السمك البحري على ضفاف اليابسة..

حمل المجنون عشق هالة على راحة اليدين .. وفتح كل الشرايين والأوردة، حتى امتلأ البحر بالماء.

وعلى الشاطئ الصدف الملون الأزرق يضحك للموج الآتي بعد غياب.

أطعم المجنون الأسماك الميتة كسرة خبز ،
وبعض النبيذ، عادت الأسماك إلى البحر .

قفز الأرنب البري من ذاكرة المجنون منتصراً إلى حضن هالة، إلى حضن البحر .

بكثير من الحكمة يترك المجنون البحر .. ويدخل غرفة هالة، يغلق الباب والنافذة وشيئا يشبه الستارة ويمارس
الجنون حتى الصباح ..

يخرج المجنون باكراً والفرح يملأ العينين. واليدان في الهواء وصفق, وهو يركض ويضحك، ويقفز ويصرخ ملء الطريق ويلعب بالشمس الحارقة.

هل سقطت السماء على الأرض؟
هل انقرضت البشرية أقفلت الدنيا واعتمت؟
هل تغيرت ... تبدلت؟ أبداً ..
كل شيء ما زال كما كان!

نفس المكان!
نفس المكان!
هز رأسه مرة مرتين، أين يمضي.

لماذا هذا الركض الباكر للإنسان وكل شيء كان..
هز رأسه مرة أخرى. أين يمضي؟
وهذا السباق العنيف. كل واحد منهم يريد أن يأكل الدنيا، والدنيا كما هي ..

توقف المجنون لحظة، مبهوراً، مشدوداً للشمس الخارجة للناس حارقة تلسع.
والناس -
الناس صفوف، في عرض وطول السوق.
وتلك الشتائم ( على الصباح ).
صباح الخير ، يا سوق الحياة ..

ودون أن يدري أو يدري؟

دكان الدرويش ..
مفتوح الشريان لشرب الشاي والقهوة

يأخذ المجنون الكرسي النصف عمر ويجلس .. لا يطلب شيئاً. يجلس!
ثم يضحك.. يضحك على الدنيا.

وبكثير من الحكمة يترك المكان .. ويركض إلى حضن هالة .. إلى حضن البحر.

الحلقة الثالثة

ترك المجنون اليابسة وذهب إلى البحر. والغناء يلعب مثل الريح فوق الموج .. وصباح الخير ترقص بين الأصابع، وهو يحمل ملايين المواليد،
مواليد هذا الصباح، إلى البحر الكبير.

( تلك كانت أولى هجرات المجنون
من مرافئ اليابسة إلى البحر )

يحمل في العينين وجع الأرض وأحلام المنبوذين، المعذبين وأشجار الدمع اليابس نبتت فوق الوجه.

" يا زمن الحزن، والغربة، والهجرة " قال المجنون
وسكب النار في ثياب الفرح الهارب.
قلتُ : " مبارك هذا الصباح، الذي فتح عينيه على ملايين الأطفال القادمة إلى الدنيا "

طرب المجنون، والغناء يلعب مثل الريح. اقترب نحو البرميل القريب منه، بعصا غليظة طويلة، ويغني.

صوت موسيقى العزف يرن في أذني .. بين صوت المجنون الخشن وضجيج صوت البرميل الفارغ،
من أجل مستقبل الأجيال:
من أجل الشبيبة .. من أجل الأطفال.

صوت غناء المجنون يسكت صوتي، وهو يضحك مني - هل تصدق؟ ويقذف قبضة رمل في عيني البحر ، ويغني ..

من الصعب أن تجمع ما بين صوت الموسيقى، وصوت المجنون، أو تفهم، تمييز الكلمات!

أتقدم بخطوات بطيئة نحو المجنون، خوفاً من العصا الغليظة ..
أمسك بيده بقوة وعنف.

يتوقف لحظة. يغني:
" الأطفال أمل الدنيا وحلم الغد من يبني بالعدل والمحبة بالمجد والحرية العالم الآتي ..
عالم أطفال الغد ..
يصنع من فوهة البندقية زهرية
ومن النار شعلة حرية
والجنسية أنتَ إنسان "
واندفع نحو البحر ، يمسك في يده حبلاً. أخرجه من قاع البرميل.
يعلق الحبل في وسط البحر وفوق رمال الشاطئ

يغني : " مشنقة .. مشنقة .. لمن يتاجر بالصغار .. يبيعهم من مدينه لمدينه ومن مكان لمكان ..
لمن يستغل جسدهم وهم أبرياء ويسرق حلمهم "

قلتُ للمجنون : " لماذا مشنقة؟ "

قال بهدوء لا يصدق:
" مشنقة لمن يسرق أحلام الصغار .. أحلامهم بنفسجية تفتحت فوق وسائد الحرير
وخفت عليهم - حملتهم معي إلى البحر. حتى لا يصرخ الطفل غداً حين يكبر . غداً سوف يكون طعامًا للأسماك الكبيرة "

قلتُ : " والأسماك الكبيرة هنا؟ "
قال : " الأسماك لديكم أكبر هنا سمكه تأكل سمكه .. ولديكم ساعة حرب، قد تقتل ملايين.
كفى لهدير الحرب وأزيز الرصاص وصوت القنابل.
كفى للقتل والتشرد والمذابح "

قلتُ : " سوف نجعل الأرض جنه للإنسان. يستطيع الطفل غداً أن يحلم بالأمان "

قال المجنون وهو يضحك، ويشتم ويبتسم:
" أترى هذا البرميل المقلوب؟
هذا عالمكم - عالمكم فارغ المضمون .. وألف تاجر ممنوعات - مخدرات، صفقات، زعامات
وصغار تأتي وتضيع، تمارس لعبة الكبار.
أين أحلام الطفولة - وربيع الأغنيات، وأماني نبتت في الأفق البعيد .. في الخيال "

يبكي المجنون، ثم يشتم ويغني:
" هالة .. هالة قادمة، تركض في براري القلب، إلى البحر ، إلى صدري .. صدري صندوق الفرح الهارب، وأنتَ الوهم !! "

قلتُ : " مهلاً .. الغناء يوجع القلب . . ونحن لا نحتاج إلى روضة أطفال "

نحن، يا سيدي المجنون، لا نشتهي أن نشتري لعبةً أو كتاباً .. نحن لا نحلم، سيدي، في مستقبل الصغار.
مجرد الحلم جريمة .. نحن أمة مؤمنة، نؤمن بالقضاء والقدر ، والأجل المحتوم "
المجنون : " عليكم الصلاة، الصيام والرب المعبود "

" ولماذا الآن تبكي؟ "

" لقد ضاع مستقبل الأجيال بين البحر واليابسة "

المجنون يبكي ثم يشتم ويغني:
"هالة قادمة إلى براري القلب .. إلى البحر "

الحلقة الرابعة

ينتظر المجنون فوق الرمال .. هالة قادمة ..

يرقص المجنون حافي القدمين.
" هالة ! " يصرخ المجنون، " هالة " يا وجع القلب .. وآخر قطرة دم من دمي.
الآن هالة قادمة .. ليرقص الورد على شرفات البيوت، ولترقص الصبايا ..

اشتعل الفرح كالحريق، يحرق بالنار المشتعلة المستعرة الحارقة كل الشبابيك والأبواب المغلقة.

هالة قادمة .. بلهفة عاشق، لحظة عناق، لحظة لقاء أصابع تراقص بحنان.

هذا هو الفرح المجنون العاشق .. يرقص الآن فوق الرمال.

هالة تكسر الأبواب والشبابيك والعقيدة المحنطة، وتخرج للحرية.

سقطت كل نصوص التقيد والتصغير والتحقير, سقطت كتابات .. عملاء السوق السوداء.

سقطوا سقوط الجبناء عن سروج الخيل الأصيلة، وقوائم الجواد غارقة بالوحل والهزيمة.

الآن يدخل الفرح, تدخل هالة.
لحظة وداع الاحتيال، والغدر والخيانة.
هم رحلوا، هم سقطوا، هم تجمعوا .. داخل زجاجة المشروب

يرقص المجنون، يقول ويضحك:
" هم تجمعوا, داخل زجاجة المشروب، كل منهم يشرب كأس المصلحة العامة.
فشربوا طوال الليل كأس الخسارة، وشرب المجنون كأس النصر .
الآن يشرب، والرمال ترقص.

وهالة، يا وجع القلب، وآخر قطرة دم من دم المجنون . ترش هالات النور ، والورد والأرز .

يضحك لها المجنون
بالفرح المتساقط كالمطر ، هي قادمة، من تحت أقواس النصر .. وأكاليل الورد والغار .. حاملة طيب الدنيا.. والمحبة في العينين الواسعتين وباسمة.

تضحك لها الدنيا، تضحك له الدنيا. يشبك المجنون الأصابع بأصابع هالة، ويرقص البحر!

هالة غزالة تترك الرمال وتركض في براري القلب، والمجنون ينادي! وينادي، وهالة تركض و .. وتركض, وآخر خصلات الشعر تلعب في الريح، والفستان الطويل الواسع يفرش ظلال الحرية فوق الرمال.

الآن اسمع صوت البحر ، أغنية رائعة، الفرح موجة عابرة .. والحزن سيد العالم.

 هالة .. هالة، ينادي المجنون..
 هالة، لا تبتعدي .
 تعال أنتَ! ترد هالة النداء .
 البحر بحري! يقول المجنون.
والعرق ينسكب فوق الوجنتين.

 البحر بحري، وأنا الحكيم العادل
 هالة .. هالة .. هالة، أنا قادم
الآن هالة والمجنون معاً أمام البحر .
" انظري، هذا البحر الكبير أنا، وأنت فرح الليلة
وقنديل الصباح "

الحلقة الخامسة

المجنون: " هالة.. قمران عيناك وهذا المساء ..
شاحب الألوان، باهت، يرسم على ضفاف الحلم الوردي،
الشفاف، جفاف العمر"

يقطع حبل خيالي طرطقة، طقطقة
شيء يشبه صوت مطرقة، تعزف بحرير أصابع أو غناء المطر .

انظر .. اضحك له .. " يدحرج المجنون يلعب بالعالم المصنوع من التنك الناعم المرسوم بدقة وجمال.
يدحرج المجنون الكرة الأرضية فوق وجه الرمال .. يقلب الكرة، يلعب بالعالم تدور وتدور ..

يهتف ..
يهتف بفرح غامر : " أستطيع الآن أن أبيعك النهار. أتشتري؟ "
هالة : " لقد دارت الكرة الأرضية آلاف المرات .. يعجز التاريخ أن يجمع كل تلك الشعوب التي اندثرت، وتلك الدول التي قامت .. والدول التي تحطمت .. والإنسانية بقيت أضيق من خرم الإبرة ."

المجنون : " تغيرت شعوب، تبدلت شعوب، سقطت عروش وقامت عروش. وما زالت الدودة كما ..

كما كانت، تأكل أجمل .. وأفضل، أحلى حبة في العنقود. من أول عهد الشجرة المثمرة، والحكم المثمر، والوزارة الرابحة والسلطة المستريحة على أجمل مقعد "
يشتم المجنون برقة!

هالة: " تلك أجمل لعبة.
انظر ، لقد دارت الكرة من بلاد الصقيع، الثلج والمطر
إلى بلاد الشمس والحرية. "

المجنون: " ومن عصر الكهف إلى عصر الحجر.
ومن الممات يأتي البعث .. ومن الجمود إلى عصر النهضة.
لكَ الآن أن تنهض، تلك فرصة وتدخل في عصر المجون، وتغرق حتى البحر مع أنثى. "
تدور الكرة الآن بسرعة!

قلت للمجنون:
" هل تفهم أنتَ معنى أن تعشق أنثى؟ "

ينادي المجنون : " هالة .. هالة .. " ويضرب الكرة ..

ويقول : " والأعصاب مشدودة، والغضب فاضح الوجه والقسمات, أعطيك الشمس والقمر؟ وهالة والبحر لي. "

قلتُ : " لماذا؟ "
قال المجنون: " لأن هالة تستيقظ على شطان الفرح مثل يمامة، وأخاف على اليمام الهارب من الاستعمار والاستعباد .. وقيود القبائل، وجنازير المشانق .. وكل القوانين التي تمارس خنق العصافير .

هالة تسكن صدري، المفتوح على البحر بحرية، والبحر لي. "

ينحني بعطف، ويحضن بالراحتين هذا الجسد الغريب الذي يحمل القارات الخمس.

وتدور الكرة إلى هذا العصر
الممتد بيني وبين المجنون ..

" لماذا تخاف على هالة هنا؟
" ينظر المجنون .. إلى البعيد .. البعيد .. " هنا، على هذا الكوكب العقرب، الحياة حشرة وسخة ولعبة قذرة، وهالة نظيفة ورائعة، مثل ماء النبع صافية. "

كانت هالة تعجن الرمل الجاف تمثالاً للحرية.
كنت اضرب بقبضة يدي فوق رأسي.
رأس مال العبد، معاش آخر الشهر!

تلك حكمة أن يحمل المجنون في هذه الدنيا.. عشق هالة، وان نحمل نحن السلاح!

يركز المجنون الكرة على الشرق ..
والريح تحمل صوت المجنون وتركض إلى أعماق البحر.
هالة : " سوف يأتي السلام ..
انظر إلى تلك الموجة، تباشير قدوم نسيم الصفاء. "

ثم يجلس المجنون على الشاطئ بجانب هالة، يجمع أكوام الرمل، ويرسم الشرق على خريطة البحر .

" وطني، المعلق في ليالي شهرزاد ..
انبش الرمل هنا. اسرق هالة ولا أعود إلى هناك. "
ثم يترك المجنون أكوام الرمل ..
وينادي على الشرق السلام، ويسهر لا ينام.

الحلقة السادسة

هالة تعشق النجم الساهر فوق البحر ،
وتهمس للمجنون النائم على سجادة الرمل بلغة بيضاء، ناعمة، بلغة الموج :

" الآن تكبر على بيادر طفولتي ..
أمنحك النعاس حتى شقائق الورد ..
وأتلاشى حتى ذوب السكر فيك، ارتديكَ قميصاً على شفافية لحمي واصنع لك جسدي دنيا عشق .

أطعمك اللوز ، الجوز والسكر من يدي، والشهد من فمي، كرم خمرتي، وحنين مودتي .. غطاء نومك على الشاطئ العاري .
أتعرف سيدي ؟ عادت ، سيدي المجنون ، كل العصافير التي ارتحلت، تنام في يدي .

وكل الصقور الجارحة
التي مزقت فساتين الحب والحرية .. عادت نادمه .. وباكية .. وكل الغربان التي حفرت بأصابع الشيطان مقابر للحب والإنسان، عادت حزينة منكسرة ومهزومة .

سيدي المجنون، الغيم الأسود لا يمطر ، والحقد لا يثمر نخيلاً ، وجوهراً .
العشق طوفان بلون الثلج والعالم . هذا البحر مملكة الحيوان والنبات .

والحرية، إنسان، يا سيدي المجنون ."

يفتح المجنون العينين المغمضتين على الرمل الجاف وينظر قليلاً إلى الأعلى . وجه هالة من بين جميع وجوه نساء العالم .
حرارة الرمل الساخن في الوجنتين،
ولا يقول!

يترك الأصابع تستريح في حنان غابة الساقين،
عند هالة، ولا يقول!
يترك الأصابع تذهب وتذهب حتى منتهى الخصر،
كرم خمر المجنون، ولا يقول.

أن خمرة البحر ، بين الموج والزبد.

الآن يهمس عطفاً : " هالة، أليس الخالق اكبر فنان، وأفضل مبدع، وأحلى رسام؟

رسم البحر صبيه متوحشة للحرية، تضرب اليابسة أن تتحرك، بمطرقة الموج العارية من أسلحه الدمار .
اليابسة قاسيه! خذيني من هنا."
هالة : " أين ! أين تهرب بعد . يكفيكَ
لك البحر سفينة للخيال."

المجنون : " والقراصنة، يا هالة، واسماك القرش والنبات المميت الذي يطبق الفم الشرس على جسدكِ السمكة."

هالة : " وما اجمل تلك النبتة."

المجنون : " كامرأة مرسومة بريشه ساحره ."

هالة : " تلك النبتة..
تغلق قبضة اليد، وتلف الذراع والخصر على جسد الكائن الحي تمتص دمه، وتحيا على أنقاض الموت ."

المجنون : " والحرية تحيا على تحطيم! تكسير زجاج مرايا الأقنعة."

هالة : " تغيرت الدنيا! "

المجنون : " الركام تراث تقييد القيد الموروث يخرج من بين صفحات التاريخ العربي المزروع بالغدر ، والقتل والخيانة. كي تحكم، كي تصبح شيئًا، اقتل!! القتل مباح، الموت كتاب عربي، عقد معلق في عنق التاريخ ."

هالة : " والحرية، سيدي المجنون ؟"

المجنون : " الحرية امرأة، جاءت من كتب التاريخ إلى هذا الشرق .. ودخلت داخل زجاجة عطر وأغلق الشرق فتحة الزجاجة. "

هالة : " سجينة، سيدي، طفلة الأشواق، صغيرة نامت مع النجم، ذات ليل عاشق .
كبر الإنسان، ولم تكبر . تغير العالم، وما زالت الحرية طفله صغيره تلعب مع النجم ."

المجنون : " تلعب بعيداً ..
وتأكل وتشرب بعيداً .. وتنام آخر الليل قنديلاً فوق عشقي، تخاف رائحة العفن البشري، أن تخنق آخر قطرة عطر من الزجاجة المغلقة."

هالة : " سيدي، كيف تسرب من الزجاجة المغلقة قطرات حرية؟ "
المجنون : " هالة، الضغط يولد الانفجار ، والحرية هواء يتغلغل في جسد الإنسان! يتسرب قليلاً، مثل الغاز ،
يحرق، ينفجر ، يشتعل بسرعة الضوء، يأتي حافي القدمين يمشي هنا على الشاطئ ."
ينهض المجنون وهالة ويمشيان حتى الرمل الرطب
المجنون : " خذيني من هنا ."

هالة :" أين تهرب بعد؟ الضوء قادم .. ها هو الليل يجمع الشراشف السوداء ويرحل ."

المجنون : " والنهار من خلال ثقوب الضوء يفضح عيون عيوب الليل."

هالة : " أحب أن أحيا في ضوء النهار . لا تسرق لحظة حرية، بل يجب أن نحياها . نتعطر بها،
ولكن في عز ضوء النهار ."

المجنون : " كل حرية مسروقة . مسلوبة ."

هالة : " تتحول في القلب رعشة خوف . برج المراقبة والأبواب المغلقة. أنتَ سارق ."

المجنون : " الحرية سوف تأتي ذات نهار .. من النجم العالي، وتلعب معي هنا، على الشاطئ "
يمسك أصابع هالة ويركض تماماً بجانب الماء، تلعب الريح، يرقص، ينادي : " هالة، تعالي نذهب نحن إلى الحرية."

هالة تنادي : " الحرية لا تأتي ألينا. نحن نذهب إلى الحرية."

وأصابع المجنون تلعب في الريح، وتنادي :
" نحن نذهب إلى الحرية ."

الحلقة السابعة

أشرقت الشمس .. وغابت .. وأشرقت .. ودارت ،
كان الصيف قبعة ملونه، وحين اعتمت السماء ..
تبدلت، ركض الشتاء إلى البحر عارياً.

جاءت هالة، والشتاء عاصف، حتى القدمين غارقة بالمطر ، ترتعش كالعصفور المقرور ، مشرقة كالشمس، دافئة، ورائعة كورق الورد .
تحت فستان القمح المعرق، الأصفر ، أغلقت برج الحمام العالي حتى العنق ..
حتى اختبأ الحمام الداجن من البرد ...

وأمطرت الدنيا
أمطرت .. في قلب المجنون كما لا يكون.
المجنون : " افتحي الحقائب، أن وحش الخير الهمجي قادم ."

هالة : " لا تستطيع نصب الخيمة، المطر يضرب بعنف عاصفة ."

المجنون : " أستطيع !! "

يفرش القماش ، يزرع الأوتاد : " الآن تسكنين ."

هالة : " سكنت قلبك، سيدي، خذني خبئني .. في جنونك العاصف، من عتمة جوع قاتل، من دنيا تفتح أبوابها للفقر ."

" هالة، " قال المجنون، وقطرات المطر تتساقط من شعرها الطويل ..
" أن تاريخ الأثرياء مثير ! "

قال لي : " نهر فرنسي لا يصب في بحري ."

هالة : " ماذا قال النهر ؟ "
المجنون : " في حين يعبأ ينبوع واحد في فرنسا، ويشحن للمرفهين في العالم، فان ما يقرب من بليونين من البشر يشربون ويغتسلون بمياه ملوثه بالطفيليات القاتلة ومسببات الأمراض! "

هالة : " أحب جنونك القاسي، وحنانك الثائر مثل عاصفة البحر "

المجنون : " الفقر ، يا هالة، أقوى من العاصفة وأقسى من الموت ! قاطعاً يأتي، عنيفاً يهز أركان الحياة."

هالة : " والأرض، تراب جسد الإنسان، والمطر هذا المتساقط بالخير فوق محاصيل العالم ؟ "

المجنون : " ازرعي صدري حقلاً للسنابل، وحين تحصدين قمحي وتعجنين خبزي تذكري خبز الآخرين ."

هالة : " من يستطيع إغلاق فم الجوع!"

المجنون : " أني أتوقع أن يتقوقع الفقر داخل أصداف الموت الحجرية."

هالة : " كيف، بينما يعاني 400 مليون نسمه من نقص التغذية. سيدي المجنون، أخاف الجوع ."
المجنون : " على موائد الأغنياء التي تشبه حياة الآلهة، والملوك الغابرين – تستطيع أن تأكل وتشرب كل قطط العالم ."

هالة : " وان تجد الفراش الناعم وتنام على أعذب موسيقى وأحلى وساده ."

المجنون : " في حين 100 مليون نسمه حول العالم يعيشون بلا مأوى، بلا بيت بلا سقف، وقد يكون بلا غطاء – في حين يستطيع الكلب الأمريكي والقط الفرنسي والفأر السويسري أن ينام على ريش النعام في القصر أو الفيلا ."

هالة : " والإنسان !!"

المجنون : " الإنسان " يا هالة،
يدمر خمس مساحة العالم، التي تحولت إلى مصانع أسلحه، وينام، ينام تحت سماء اليابسة الواسعة ."

قالت : " خبئني في جنونك العاصف .. من عتمه جوع
قاتل، أخاف الجوع ."

ضم المجنون وجه هالة بالراحتين..

وقال : " تعالي بكل هذا الخير ، الرزق والحب، نصنع من هذه الدنيا عالما آخر
لا يعرف الجوع،العطش والأحزان ."

هالة : " وأين ننام ؟"

المجنون : " في الخيمة، أو فوق هذا الرمل وعند أقدام هذا الموج ."

توقف المطر !
فتح الحمام الداجن برج الصدر العالي .

البحر – سرير الموج والرمل
وعلى الشاطئ تنام هالة والمجنون

الحلقة الثامنة

أشرقت شمس المجنون بعد منتصف الليل.

نهض. ترك الشاطئ , اقترب حتى الخيمة، كسر الأوتاد المغروزة في الرمل. بقوة، وبعنف صاعقة تسقط سقط القماش السميك، الأزرق.

استيقظت هالة، تصرخ مذعورة.

اهتز عمود الخيمة وتحرك الرمل قليلا .
والبحر – الشاهد الوحيد على ثورة المجنون!

ونجوم العرق المتساقط تبرق ... تسطع .. تلمع بوهج الشمس المشرقة في القلب
وتنسكب غضبًا، نارًا ، عشقاً لمجهول ما، لشيء ما سيأتي .

والبحر ينظر بصمت غريب!

" اسمعني، " قالت هالة، " لا أطلب منك الرحمة، ولست الواقفة على أبواب العرش .
وليس الرجاء لهذا الجنون أن يتوقف، ولست أرجو لهذا الغضب، الهادر مثل الموج – أن يستكين !! ولكن .. ماذا ستفعل، سيدي المجنون . "

قال المجنون : " هالة، " وهو يسكب الجمر فوق الحرف في أتون الكلمة.
" لا أريد الخيمة! لقد تحول هذا الشرق إلى مجمع لاجئين ومخيمات . "

هالة : " سيدي، أنت تعرف نحن لا نملك، في هذه الدنيا، على هذا الشاطئ، غير تلك الخيمة التي أصبحت ممزقة مثل شراع سفينة عتيقة منذ زمن وزمن، في مهب الريح . "

المجنون لم يسمع هالة. كان قد صار بعيدًا. وهالة تنبش الرمل وتدفن الكلمات.

تقترب هالة مسافة تسمح لها أن تسمع المجنون.

المجنون : " سوف أحمل الشمس في صدري،
وأرحل .. سوف أترك الخيمة وأغادر الشاطئ . "

هالة : " منذ أتينا، وأنتَ تود الرحيل، أنتَ تهرب .تود أن تحمل الشمس والبحر وترحل، كي تشرق شمسكَ ويكبر بحركَ في مكان آخر .
أنتَ تترك الخيمة وتهرب، تهرب من اليابسة إلى البحر ، والآن .. أنت تهرب من البحر ، تترك الخيمة حطاما وتهرب.

أنتَ نبي العصر المطعون ألف مره ومره من سكاكين الكلمات، تهرب. ماذا هم يفعلون!! "

المجنون : " هالة، اقتربي، اقتربي أكثر .
ليس هروبا، يا هالة .. وجودي مقابله سريعة وخاطفه مع الموت، وكلما كان الموت بعيدًا، اقتربت منه أكثر وأكثر . كي تعيش، يجب أن تهرب من الحياة، وتقترب من الموت، وتكسر يد الظلم .
يجب أن ترتدي ثياب القوه والعنف . أن الحياة غابة كثيفة الأشجار ، وكثيرة الأفاعي.تلسع، تقتل وتميت.

أهرب من الحياة إلى الموت – لا تموت، أهرب من الحياة إلى الحياة – تموت. "

هالة : " أنتَ قاس قسوة شجر الصبار ، عنيف مثل الريح الهادر بين الصخر ، وواسع مثل البحر ."

المجنون : " ليكن الرمل مقبرة الحكمة القاتلة، تلك الحكمة الكاذبة القاتلة : اليد التي لا تستطيع أن تكسرها – انحن وقبلها، والدعاء إلى العلي أن تكسر .
أهرب، من هنا إلى هناك،
حتى أقول حكمتي : يد الظلم تكسر ،
ومن يظلم يهزم، والبقاء للإنسان ."

هالة تقترب أكثر وأكثر ، حتى تلامس المجنون،
وتقول : " أنتَ سيدي، أحتار فيكَ. أختار معكَ العنف – تكون رقيقًا، أختار الرقة – تكون عنيفًا. أنتَ ماذا، سيدي، أحتار فيكَ . "

المجنون : " أنا الهارب من الأرض إلى البحر ، أحمل الموت في جسدي، قميصي الأخير، وحين تدخل الحياة في شراييني تعلو أمامي ألف خيمة وخيمة.. والبحر ينظر بصمت .
لا أريد يا هالة، الصمت والخيمة، ولا مساكن المقابر .
نصف العالم العربي، يا هالة، يعيش في دور المقابر والخيام، وها هو البحر، ينظر بصمت الأموات."

هالة : " أنتَ حزين ، سيدي، ثورة الأعصاب تجرح وجعي، وينزف دمي تحت قدميكَ عشقًا.
لا ترحل، سيدي، شيء ما سيأتي. أنظر هناك – مراكب الصيادين العائدين مع الفجر ."

صاح المجنون : " قادمة .. قادمة ... "
وعلى أضواء المراكب العائدة، عاد المجنون إلى مكان الخيمة، يزرع الأوتاد في الرمل.

وهالة تضحك : " لن ترحل ."
وهي ترد أطراف القماش السميك تماما فوق العمود.

" أنظر ، سيدي. " نظر المجنون وهالة معاً شباك الصيادين تفرش فوق الرمل أرزاق الحياة.

الحلقة التاسعة

تسلق المجنون أغصان الفرح والصباح – تفاحة : نصفها – هالة، ونصفها – كرة ذهبية فوق الرمال.
دحرجها المجنون حتى الشاطئ،
والفرح يراقص المجنون كالخيال.

عثر – بعد رحيل الصيادين عند الفجر – على بعض الأطعمة، وبعض شباك الصيد وصنارة. عانق المجنون الشبكة، سلاح الصيد.
الموت . الرزق . القتل . الخير . الجوع .

قال المجنون وهو يتجه نحو الصخرة المغروزة، في أول البحر : " هم يقتلون الأسماك! "

تركت هالة الخيمة. كان التعب يبدو واضحًا، بعد ليل طويل في إعادة بناء الخيمة.

هالة : " صباح الخير سيدي."

" صباح الحياة "
أعاد المجنون الصباح، من بعيد .
هالة : " سوف نأكل سمكاً هذا النهار ."
المجنون : " سوف نقتل، أفضل وأكبر سمكه. لكِ أن تفرحي ."

تقترب هالة، حتى تلامس المجنون الجالس فوق الصخرة.
المجنون يمسك الصنارة، يضع الطعم، يتأمل، ينتظر، وهالة تنتظر . تستغرب – لماذا يتوقف ! لماذا لا يرمي الصنارة في الماء ؟

يقول المجنون والصنارة معلقه في الهواء : " سوف يأتي السمك إلى الطعم، وهو جائع، يريد أن يأكل .. وأنا أريد أن يموت !!!
من منا سوف يقتل الآخر !
أنتِ لا تعرفين، يا هالة. أقول لكِ بمنتهى الاختصار : الأكثر فنًا، وعلمًا وحضارة."
ويرمي خيط الصنارة إلى البحر .

هالة : " أنا جائعة. "
المجنون : " والسمك جائع . "
هالة : " سوف يأكل الطعم . "
المجنون : " ويموت. وأنتَ جائعة، سوف تأكلين السمكة وتعيشين. "
هالة :" وأنتَ، ألا تأكل ؟"
المجنون : " أنا لا أحب السمك المقتول ولا العصافير الميتة، ولا الحمام المذبوح ولا الفراشات التي تعلق في شباك الأطفال، ولا الأسماك التي تعلق في شباك الصيادين ."

تركت هالة المجنون فوق صخرة الصيد، وعادت إلى الخيمة.

المجنون يغير المكان، يبدل قليلاً
تلك الصخرة بتلك الصخرة …
وأغصان الفرح بقميص الحزن، ربما هناك!

ربما في ذات المكان مكاني. لو جاء الشخص الآخر ،
ربما يصيد، بقليل من الحظ .
وأنا ... هذا العمر المغلق، على الحظ العاثر، صديقي البحر – هذا العمر ، أحمله معي من صخرة .. إلى صخرة، ومن جدار إلى جدار .
انكسر رأسي وظهري، تحطمت أيامي.. وأنا أبحث في سراج الضوء المعلق عن إنسان يسكن الأيمان في ظلومات النفس نورًا.

وأنتَ، صديقي البحر، كما أنتَ، كما كنت رائعًا، عنيفًا، رقيقًا وجبارًا ..

صديقي البحر الجبار، بكل هذا الكبرياء وهذا الحب الناعم. هل تحزن أن أ رحل؟

هالة تنادي المجنون : " تعال. "
المجنون : " ولا سمكة."
هالة : " لقد أعددت الطعام، كنتُ أعرف، سوف ينتهي النهار وأنتَ هناك .. وتعود كما ذهبت."

يجمع المجنون أدوات الصيد. الشبكة خالية!

الصنارة .. تعود لتنام في الصندوق على راحة البال.

يجلس المجنون أمام الطعام ويضحك." من منا يقتل الآخر !
هنا على هذه الأرض وفي هذا العالم، يا هالة، هناك من يملك مهنة القتل ..
وهناك من يملك مهنة الحب.
ومن يملك مهنة الحب لا يقتل!"

هالة : " لماذا لا تأكل؟ بعد قليل تسقط الشمس في البحر ."
المجنون : " والعالم يسقط ...
يسقط في الرذيلة ... والكل يتحدث عن الأخلاق ."

الحلقة العاشرة

هالة تدخل البحر عارية. يغمرها حرير الماء حتى حديقة الياسمين ..
وحين تلامس الأصابع وجه الماء، تغلق اليد .. على حفنة ماء.
وتقول : " أنظر ، سيدي المجنون، هذا الماء يتحجر . في هذا الزمن، المعلق ما بين المد وبين الجزر ، يصبح كتلاً ثلجية."

المجنون : " أنتِ تلامسين عواطف البشر . دمي مباح، دمك الآن مستباح. لأنك لي، يسرقون الله من داخلي
أصبح المجنون المطرود المنبوذ، المطلوب على حبل العدالة أو فوق مقصلة القبيلة ."

هالة : " سيدي، أحبك سيدي.
حبك، سيدي هذا الخنجر ، المزروع حديقة ورود في القلب.

تنبت أشواك التحدي، أتحدى أهلي، وعقدة هذا الشرق."

المجنون : " في القلب مثل شظايا رصاصة، أو طعنة سكين في الظهر .
أنتِ لهم – أنثى –
أنتِ لهم أنثى. أنتِ الفريسة، وعلى أنقاض هذا الجسد مراسيم البطولة، الكرامة والشرف، مراسيم أمجاد العرب ."

هالة : " أصبحت مثل البحر ، موجي ثورة .. وثورتي تحد . لن أهرب بعد الآن، سوف اكسر ذاك القيد.
نحن ملك الحياة، وليس ملك الموت."

المجنون : " هم يسرقون في عز النهار وينامون مع الجريمة . وهم رمز الطهارة، العفة والشرف.
زمن تتعمشق الأقزام فيه على الغصون العالية، تتطاول الأنذال فيه على ضوء النهار الساطع. تسرق الشرف وكرامة الإنسان . يبقى الشرف كما كان، كرامة الرجل بين فخذي امرأة."

هالة : " حتى هذا، سيدي، يموت في هذا الزمن.
ليس ارخص من لحم البشر ."

المجنون : " يبحثون عني! أنا، سارق عشقي. يعقدون الصفقات الكبيرة في أجمل فندق، وعلى أنغام غسل اليدين بالشعارات، والطرب المسموع، والتجارة ، وفي أبهى جلسة مفتوحة.
دمي ودمك مستباح، وجائزة الشرق وسام الشرف الرفيع."

هالة : " سيدي المجنون، يكفي، اذهب للصيد. ربما هذا النهار لك."

المجنون : " لا ، لا ، يا هالة. سوف أدخل الخيمة وأنام، أود أن أنام طويلاً .
ها هي الدنيا ... تغلق الشبابيك والستائر السوداء.
ها هو البحر . حتى البحر ، يا هالة، يرتدي قميص السراب ويبتعد، يبتعد كثيرًا.
ربما هذا النهار يذهب مثلي لينام هناك."

هالة : " وأنا سيدي، ماذا؟ لمن تتركني في هذا الزمن الغابة؟ "

المجنون : " أنتِ تعودين إلى البحر وتذهبين معه إلى هناك، أو تعودين إلى القمر ، هالة."

هالة : " أحبك، سيدي، أذوب فيك مثل الشمع."

المجنون : " تعودين للنور ... أنتِ، هالة، أنتِ وجع الأرض المزروع خنجراً من نار ، ونور في القلب."

هالة : " لك أن تنام، سيدي، قد تغير الزمان والمكان ، ولكن مثل شجر الزيتون ينبت من جديد – يتبدل، يشرق، يزهر،
يحمل هبة الأرض وعطاء السماء أنظر هناك!
هم يشعلون الأرض حرائق."

المجنون : " تذهبين بعيدًا. هم الآن ينهضون من جديد.
سوف أنام الآن طويلاً، وقد أستيقظ وقد أشرق فوق هذا الشرق الفجر الجديد."

الحلقة الحادي عشره

استيقظ المجنون من رحله نوم مسكونة بجنون الرعد القاصف في متاهات النفس، فزعًا مذعورًا ..
قفز مثل رصاصه انطلقت من " بيت النار ".

نظرت هالة، كانت الشمس برتقاله تموت .. والمجنون يركض ويركض، وغبار الرمل يطير .
اغتسل، حين سقط في الحفرة بالرمل والماء.

وصلت هالة، حين كان المجنون يقول : " هذا مكاني الأخير، اشعر في قراره الحنجرة بطعم المرارة، وخيبه الأمل.

ليكن هذا القبر قبري، بين الماء وبين الرمل،
أموت بيدي لا بأيديهم !!"

هالة : " أنتَ توهم النفس، سيدي. نحن الحقيقة!! وهم الوهم وأنتَ، تحلم، سيدي."

المجنون : " هم هنا، تحت هذا الرمل يرصدون الخطوة، الحركة، الكلام والأحلام.
أنني أسمعهم جيداً يهمهمون."

هالة : " في داخلي صهيل المهر الجامح، أجمع ما بين الرغبة والثورة، أن تخرج من تابوتكَ المفتوح إلى الناس، إلى النور ، إلى العالم، في كل زمان كان . . .
مثل هذا الزمان !!
في كل زمان كان، كانت الحرب، وكان الموت،
والقتل، والحرمان والشقاء. "

المجنون : " هم يريدوننا جثه باردة."

هالة : " أخرج من هذا الموت وتعال معي، نصبح قوة، مثل شجر بلادي.
هل تشم على البعد رائحة الوطن !!"

يخرج المجنون من تلك الحفرة .. وأثار الرمل على البدن، وقليلاً من الوحل فوق الوجه.

المجنون : " أحبكِ، هالة. "
تلك المرة الأولى التي تسقط فيها الكلمة من فم المجنون.
" أحبكِ، هالة. "
جوهره خرجت من صدفة بعد سنين طوال!!
سرحت شعرها الطويل حتى مغيب الخصر ،
وانتظرت أن تأخذها الريح إلى شواطئ الوطن.

المجنون : " هالة، تعالي معي."

يحضن المجنون هالة، يفرش جسدها الناعم فوق الرمل .
قليلاً ورذاذ الجسد المتوحش يسقط في غابات النرجس ..

" حيوان داجن هو الإنسان، " قال المجنون، وهو يسحب هالة من الرمل إلى البحر .
يغمرها الماء . . . شيئا فشيئا . .
هالة : " أنتَ حيوان بري، ولست حيوانا داجنًا."

المجنون : " وأنتِ المهر الجامح الذي يركض في مخيلتي ."

هالة : " سنركض معا على طريق العودة."

مرة أخرى يسحب المجنون هالة، من الماء إلى الخيمة.

وهو يقول : " هكذا خلقنا الله .. وتلك حقيقة ! "

هالة : " قل أكثر ، سيدي."

المجنون : " لن أهرب بعد الآن، ولن أدخل دوامة الإحباط . "

هالة : " أنتَ الآن مجنوني، الذي يتحرك في داخلي. أنتَ مهري العائد من حدائق الشوك إلى حدائق الورد. العالق على شفتي أغنية تحد وعنفوان. "

المجنون : " معي سوف تدخلين .. ومعي سوف تكونين، عيني التي تلاطم المخرز ، أنتِ لي."

هالة : " ردني إلى ذراعيك أميره، أحبك، سيدي."

المجنون : " أحبكِ، هالة، أنتِ الدنيا."

تشرب هالة كأس الكلمة.
الغروب يحمل الشمس إلى مغارة العتمة.

المجنون : " اجمعي أنتِ الأشياء في حقائب الوداع!
وأنا سوف أجمع الخيمة وغدا مع الصباح نخطو إلى المدينة."

هالة : " يغمرني الفرح. تأتي السماء إلى الأرض مره وأحده، في حاله عشق، وأنا الآن في قمة عشقي . فكيف السماء لا تأتي وتأخذني؟
أنا ما يشبه الخيال، خيالاً. أنى عائدة."

المجنون : " وأنا جمعت الخيمة، عائد إليهم وأنتِ معي. وان رفضونا، وسدوا الطريق وأغلقوا مملكه الحب علينا – سوف أرتضي من الدنيا.
أنى قلت !!
ما يجب أن يقال، وما يمكن أن يكون . . .
هكذا خلقنا الله، بشرًا."

هالة : " أنظر الآن إلى البحر ، سيدي. انه يضحك.
يخلع قميصه الأزرق ويرتدي البياض قميصا. حتى لون الغروب، سيدي، يشرق، من بين الشحوب ضياء."

المجنون : " وفي آخر الليل، سيدتي العاشقة،
احتراما لهذا البحر ، سوف أنام على الشاطئ
نومي الأخير ! حفله الوداع ."

الحلقة الثانية عشره

استيقظ الموج، صارخا بين الصخر .. وبين الصخر ..
والشمس قبعة ملونه، تفرش ظلال اللون فوق وجه هالة، تداعب الأجفان، تراقص النعاس، تدغدغ الجسد الملقى على الرمل.

حرارة الرمل تغري الجسد بالنوم.
أغلقت العينين، استرخت، تمددت، تركت الأصابع راحلة تلامس المجنون.

عادت الأصابع معانقة السراب.
تدحرجت إلى الجهة الثانية، وراحت الأصابع . .
وعادت قبض الريح.

تحركت . . . وقفت . . . نظرت . . ابتسمت . . .

قالت : " أعرف مجنوني ذهب إلى صخرة الموت، صخره الصيد. ما جدوى ما يصيد! والساعة نغادر ."

صرخت : " سيدي المجنون . . . "

ارتفع الصوت، أكثر من بعد الصخرة . . .

رد البحر : " سيدي المجنون . . . ألوهم . . . " يحاور هالة.
استغربت! قفزت مثل غزاله.

وحدة الماء يضرب فوق الصخر .

فزعت !! صرخت : " سيدي، أين أنتَ؟
نحن على موعد سفر ."

ذعرت، خافت، تركت كل متاع الرحيل، وركضت تبحث، تنبش الرمل، تنادي . . .
" سيدي . . سيدي المجنون . . . "

رد البحر : سيدي المجنون . . .

جلست فوق صخرة القتل، الصيد، وبكت.
تلك المرة الأولى التي يحفر فيها
نهر الدمع بحيرة الأجفان .

تلك المرة الأولى التي تسقط فيها دموع الحرير فوق الرمل .

هجرت عالم اليابسة، ولم تبك.
تركت الأهل والأصدقاء، لم تبكِ.

ألان . . . يجمع البحر شريعة المجنون في زجاجات الأحزان، ويقذف بها إلى الشاطئ بكاء عاصفة خرساء.

ألان تجلس هالة قرب متاع الرحيل وتبكي بكاء عاصفة خرساء.

" كنت أعرف، سيدي، زمن الغيبة، زمن الحضور والغياب، وكنت أخاف!!
ووحدي الآن – وأنتَ موتي. أموت بعدك، سيدي.
أين أنتَ !! "

جن جنون البحر صارخاً
بين الصخر وبين الصخر :
أين أنتَ ..
سيدي!

مسرحة القصيدة العربية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى