الثلاثاء ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

المقارباتُ العامّة بينَ هوغو وتولستوي

مقارباتٌ حياتيّة

من خلالِ تتبُّعِ المحطّاتِ المهمّةِ في حياةِ كلٍّ من الكاتبينِ الكبيرينِ فيكتور هوغو وليو تولستوي نستطيعُ أن نتلمَّسَ بعضَ المقارباتِ الحياتيّةِ والفكريّةِ بينهُما، وأستطيعُ أن أوجزَ هذهِ المقارباتِ في جوانبَ عديدةٍ، فلا بأسَ من إيرادِها على النّحوِ الآتي:

تقاربُ الزّمن: فقد عاشَ فيكتور هوغو ما يقاربُ الثّلاثةَ والثّمانينَ عاماً، فكانتْ ولادتُه في (26 فبراير 1802م – ووفاتُه في 22 مايو 1885م). أمّا تولستوي فقد عاشَ حوالي اثنينِ وثمانينَ حولاً، فكانت ولادتُه في (9 سبتمبر 1828م – ووفاتُه في 20 نوفمبر 1910م).

تشابهُ أسماء: صوفي اسمُ والدةِ فيكتور هوغو ، وصوفي اسمُ زوجةِ تولستوي.

طفولةٌ محرومةٌ من أحدِ الأبوينِ: فقد عاشَ هوغو وإخوتُه مع والدتِهم بعد أن تفرّقَ الأبوانِ بسببِ اختلافِ المواقفِ من الملَكيَّةِ والجمهوريّةِ، فرافقَ هوغو والدتَه من فرنسا إلى نابولي ثمَّ مدريدَ؛ ليُحرمَ بعدَها من حنانِ الأمِّ الّتي تُوفّيَت في عامِ 1821م قبلَ أن يُتمَّ العشرينَ عاماً من حياتِه، فتزوَّج والدُه مباشرةً امرأةً غنّيةً.
أمّا تولستوي فقد خسِرَ حنانَ الأمّ ورعايتَها ولم يتجاوزِ السَّنتينِ من عمرِه (عام 1830)، وقد قامَت إحْدى قريباتِه (تاتيانا) بمساعدةِ والدِه في تربيتِه مع إخوتِه، أمّا والدُه نيكولاس فقدْ تُوفّي في صيفِ عامِ 1837م، فأُوكلَت رعايةُ أبنائِه إلى الحاضنةِ (الكونتيسة)، ولمّا تُوفّيَت الكونتيسة عامَ 1841م انتقلَت حضانةُ الأطفالِ إلى شقيقتِها (بالاجيا يوشكوف) الّتي أخذتِ الأطفالَ إلى منزلِها في كازان، حيثُ أمْضى تولستوي بقيّةَ طفولتِه.
الزّواجُ والأولادُ: أحبَّ هوجو الفتاةَ آديل فوشير، ولم يستطعِ الزّواجَ منها إلّا بعدَ وفاةِ أمّه الّتي عارضَت زواجَهما؛ لانتماءِ الفتاةِ إلى أسرةٍ فقيرةٍ، وكان يكبرُها بعامٍ واحدٍ. وكان عمرُه عشرينَ عاماً وعمرُها 19 عاماً وقد أنجبَ مها عدداً من الأطفالِ ماتُوا في حياتِه، ابنةٌ ماتتْ غريقةً في نهرِ السّين مع زوجِها، إذِ انقلبَ الزَّورقُ بهما بعدَ أربعةِ أشهرٍ من زواجِها، وماتَ ولداهُ، وله ابنةٌ حملَتْ اسمَ أمِّها (آديل)، فقدَتْ عقلَها؛ ولذلك نظمَ مجموعةَ قصائدَ، جمعَها في ديوانٍ، سمّاه "تأمُّلات".

أمّا تولستوي فقد أُعجبَ بفتاةٍ مفعّمةٍ بالثّقافةِ والحيويّةِ، هي صوفيا ابنةُ طبيبِ المحكمةِ أندرييفنا بيرس، وقد أحبّها منذُ أن كانتْ طفلةً في الرّابعةَ عشرةَ من عُمرِها، ولكنّه لم يستطعِ الزّواجَ منها إلّا بعدَ أن بلغَت الثّامنةَ عشرةَ من عمرِها وذلكَ عام 1862م، وكان تولستوي قد بلغَ الرّابعةَ والثّلاثينَ عاماً. وقد أنجبَ منها ثلاثةَ عشرَ طفلاً، ماتَ منهم أربعةٌ وهم أطفالٌ.

الدّراسةُ والاهتماماتُ والكتابةُ: درسَ فيكتور هوغو القانونَ، وتخرّجَ من كلّيّةِ الحقوقِ في باريسَ، ولكنّ طموحاتِه كانت غيرَ القانونِ، فمنذُ بدايتِه اهتمَّ بالشّعرِ والأدبِ الكلاسيكيِّ، وخلالَ مسيرتِه الأدبيّةِ الطّويلةِ نشرَ هوجو أكثرَ من سبعينَ مؤلَّفاً في الرّوايةِ والشّعرِ والمسرحِ والسّياسةِ.

أمّا تولستوي فقد درسَ القانونَ دونَ نيلِ الشّهادةِ، وكان اهتمامُه منصبّاً على الأدبِ والكتابةِ الأدبيّةِ، فألّفَ الرّواياتِ والمسرحيّاتِ والكتبَ التّربويّةَ والفكريّةَ والدّينيّةَ والسّياسيّةَ دون اهتمامِه بالشّعرِ. فهو أحدُ عمالقةِ الرّوائيّينَ الرّوسِ ومصلحٌ اجتماعيٌّ وداعيةُ سلامٍ ومفكّرٌ أخلاقيٌّ وعضوٌ مؤثّرٌ في أسرةِ تولستوي. ويُعدُّ من أعمدةِ الأدبِ الرّوسيّ في القرنِ التّاسعَ عشرَ ، ويعدُّهُ بعضُهم من أعظمِ الرّوائيّينَ على الإطلاقِ.

التّشابهُ في الأفكارِ والمواقفِ: تُشبهُ أفكارُ هوغو أفكارَ الرِّوائيِّ الرُّوسيِّ تولستوي- (1828 ـ 1910). فكلاهُما أوصى بعدمِ الصّلاةِ على جثمانِه، وكلاهُما وجّه للطُّقوسِ الكنسيَّةِ الكثيرَ من الملاحظاتِ والانتقاداتِ، وكلاهُما حاربَ السُّلطاتِ، تولستوي حاربَ القيصرَ الرّوسيَّ، أمّا هوغو فحاربَ نابليونَ الثّالث.‏

المرضُ والوفاةُ: في سنواتِ هوجو الأخيرةِ هاجمَتهُ الأحزانُ، وبالرّغمِ من تمسُّكِه بمبادئِه القديمةِ إلّا أنّه باتَ فاقداً طاقاتِه بعدَ أن تقدَّم في السّنّ، وفي عامِ 1878م أصيبَ هوجو باحتقانٍ دماغيّ، ولكنَّه عاشَ بعدَه سنواتٍ عديدةً، وفي عامِ 1885م تُوفّي عن عمرٍ يناهزُ الثّلاثةَ والثمانينَ عاماً، وقد نظّمَت الجمهوريّةُ له جنازةً رسميّةً لهُ في البانثيون، حضرَ مراسمَها مئاتُ الآلافِ من المشيّعينَ.

أمّا تولستوي فكانتِ السّنواتُ الأخيرةُ من حياتِه الطّويلةِ مليئةً بالقلقِ والحيرةِ، فقد ظلّ يبحثُ عن إجاباتٍ لمشاكلِ البشريّةِ وهمومِها وآلامِها دونَ جدْوى.. ففي عامِ 1910م، أُصيبَ تولستوي بالالتهابِ الرّئويِّ في الطّريقِ، وكان قدْ بلغَ من العمرِ اثنينِ وثمانينَ عاماً، فتُوفّي ودُفنَ في حديقةِ ضيعةِ (ياسنايا بوليانا).

التّأثيرُ والتّأثّرُ: أخذَ تولستوي يميلُ إلى الفوضويّةِ منذُ شبابِه ودمج ذلكَ بإيمانِه الدّينيّ المتزمِّتِ، ليكوّنَ ما يمكنُ تسميتُه بالفوضويّةِ الدّينيّة، فقد تأثّرَ بالفيلسوفِ الألمانيّ شوبنهاور، والأديبِ الفرنسيّ فيكتور هوغو، وقد آمنَ بأنّ الدّولةَ ليسَت سوى مؤامرةٍ لاستغلالِ الشّعبِ وإفسادِه، وأنّ المواطنَ يجبُ أن يعيشَ مع الآخرينَ بدونِ حمايةٍ من الدّولةِ، وأعلنَ موقفَه الرّافضَ للحربِ والعنفِ، وانتقدَ القوانينَ الوضعيّةَ وتعاليمَ الكنيسةِ. فلم تقبلِ الكنيسةُ آراءَ تولستوي الّتي انتشرَت بسرعةٍ كبيرةٍ، فكفَّرتهُ وأبعدتْهُ عنها وأعلنَت حرمانَهُ من رعايتِها.
وقد برزتْ هذهِ المواقفُ واضحةً في آراءِ فيكتور هوغو، حيثُ ناهضَ الحكمَ الملكيَّ، كما وقفَ ضدَّ حكمِ نابليونَ الثّالثِ وتعرّضَ للنّفي، كما أبدَى موقفاً مناهضاً للكنيسةِ وأوصَى بألّا يحضرَ جنازتَه كاهنٌ أو أن يُصلّى عليهِ في كنيسةٍ.

المقارباتُ الإنسانيّة

وممّا تقدّمَ ندركُ أنَّ ثمّةَ مقارباتٍ إنسانيّةً برزَت في مواقفِ كلٍّ من الكاتبينِ فيكتور هوغُو وليو تولستُوي تجاهَ قضَايا الإنسانِ وهمومِه في الحياةِ ولا سيَما في حرّيّتِه وكرامتِه وعيشِه ووجودِه دونَ استغلالٍ أو امتهانٍ أو استبدادٍ أو حرمانٍ من حقوقِه المشروعةِ الّتي أودعَها اللهُ في خلقِه. هذا ويمكنُني أنْ ألخّصَ جوانبَ التّشابهِ الإنسانيَّةِ بينَ الأديبينِ هوغُو وتولستوي على النَّحوِ الآتي:

لقد ساندَ فيكتور هوغو الطَّبقةَ الفقيرةَ ضدَّ البورجوازيّةِ والدّكتاتوريّةِ، فعرّضَ نفسَه للخطرِ حين وقفَ في وجهِ نابليونَ الثّالثِ ودعا الجماهيرَ الفقيرةَ للعصيانِ المدنيِّ، فنُفيَ من فرنْسا إلى جزيرةِ (جيرسي) المهجورةِ لمدّةِ عشرينَ عاماً.

أمّا تولستوي فقدْ وهبَ فكرَه العالمَ بأسرِه، وسخّرَ حياتَهُ للدّفاعِ عن الفقراءِ والمظلومينَ والمحرومينَ، وقد تجلّى ذلكَ في كتاباتِه، وترجمَها في أفعالِه حينَما تخلّى عن أرستقراطيَّتِه؛ ليَحْيا حياةَ الفقراءِ بتوزيعِ ثروتِه وممتلكاتِه على مزارعيهِ، ويلبسَ لباسَ الفقراءِ ويعيشَ ويعملَ بينَهم، كما حرصَ على تعليمِ الفقراءِ والمحرومينَ من العلمِ.

تناولَ هوغو حياةَ الإنسانِ المضْطهدِ، فدعا إلى إعلاءِ مكانةِ الرّجلِ، وصونِ كرامةِ المرأةِ، والاهتمامِ بالطّفولةِ، وقد تجلّى ذلكَ في كتاباتِه ولا سيَما في روايتِه البؤساءِ الّتي ينتقدُ فيها الظُّلمَ الاجتماعيَّ في فرنسا، فاهتمَّ بالعدالةِ الاجتماعيَّةِ من خلالِ اهتمامِه بالفقراءِ، ودعوتِه إلى تحسينِ ظروفِهم المأساويّةِ.

أمّا تولستوي فقدْ دعَا إلى رفعِ الظُّلمِ عن الفقراءِ وتحريرِ الفلّاحينَ من الإقطاعيّينَ وتجلّى ذلكَ في سلوكِه الفعليِّ، وكذلكَ فقد أسَّسَ مدرسةً لتعليمِ أبناءِ المزارعينَ من الأطفالِ وممّن فاتَهم قطارُ التّعليمِ، وقد وضعَ مناهجَ تربويَّةً لتعميمِها على كلِّ أنحاءِ روسيا، واستَطاعَ أن يحقّقَ نجاحاً كبيراً في ذلكَ.

ناهضَ هوغو السُّلطتينِ السّياسيّةَ والدّينيّةَ، ورأى أنّ رجالَ الدّينِ هم الّذين يكرّسُون سلطةَ الدّكتاتوريّةِ في استغلالِ الفقراءِ وانتشارِ الجهلِ والفسادِ والظّلمِ والتّمييزِ الطّبقيِّ، وقد ساعدَتْه كتاباتُه وشهرتُه في الوصولِ إلى أهدافِه الّتي أدّتْ في نهايةِ المطافِ إلى قيامِ الثّورةِ الفرنسيّةِ الّتي مرّت في مراحلَ عديدةٍ، واستمرّت من عامِ 1789 حتّى 1799، وكانتْ لها تأثيراتٌ عميقةٌ على أوروبّا والعالمِ الغربيّ عموماً، انتهَت بسيطرةِ البورجوازيّةِ الّتي تحالفَتْ مع طبقةِ العمّالِ مع إحقاقِ مجموعةٍ من الحقوقِ والحرّيّاتِ للطّبقةِ العاملةِ والمتوسِّطةِ للشّعبِ الفرنسيّ.

أمّا تولستوي فقد استمدَّ قوّتَه من شهرتِه الّتي ذاعتْ في الآفاقِ ومن دفاعِه عن جماهيرِ الفلّاحينَ الرّوسِ حينَ عبّرَ عن همومِهم وآلامِهم، وناضلَ من أجلِهم في مقاومةِ الظُّلمِ والطُّغيانِ، وهذا ما منحَ أدبَه ميزةَ القوّةِ وسرعةَ الانتشارِ، كما منحَه شعبيّةً عظيمةً على مستَوى العالمِ، ولاقَت تعاليمُه الدّينيّةُ والأخلاقيّةُ اهتماماً كبيراً، وكان أدبُ تولستوي نواةَ ثورةٍ للفقراءِ ضدَّ الحكّامِ والأثرياءِ في حقبةٍ تاريخيّةٍ سوداءَ لم تُتوَّجْ بانتصارِ العمّالِ والفلّاحينَ إلّا بقيامِ الثّورةِ البلشفيّةِ عامَ 1917 م والقضاءِ على الحكمِ القيصريِّ.

أقامَ هوغُو مشاريعَ خيريّةً للنّهوضِ بأطفالِ الفقراءِ بتقديمِ الطّعامِ واللّباسِ والألعابِ لهُم من خلالِ نظرةٍ إنسانيّةٍ تتجاوزُ الجنسَ والدّينَ والانتماءَ، كما عبّر عن ذلكَ بقولِه: "رسالتُنا الكُبرى هي أنْ نكونَ آباءً وأمّهاتٍ للأطفالِ الفقراءِ. وشعورُ الأمومةِ نحو الأطفالِ هو شعورُ الأخوّةِ نحوَ الإنسانيّةِ".

أمّا تولستوي فقدْ نهضَ بالطُّفولةِ من خلالِ توفيرِ التّعليمِ لأبناءِ الفقراءِ، وكان تخلّيهِ عن أملاكِه لمزارعيهِ أكبرَ عملٍ إنسانيٍّ وفّرَ لهؤلاءِ البائسينَ وأطفالِهم حياةً كريمةً.

المقارباتُ الشّرقيّة

بعدَ أن قدّمْنا دراسةً وافيةً حولَ اهتمامِ كلٍّ من الأديبينِ هوغُو وتولستُوي بالشّرقِ، ورأيْنا دوافعَ اهتمامِ كلٍّ منهما بالشّرقِ والجوانبَ الأدبيّةَ والفكريّةَ الّتي برزَت في تأثُّرِ كلٍّ منهُما، يمكنُنا أن نتلمَّسَ المقارباتِ المهمَّةَ بينَهما كما يأتي:

اهتمَّ هوغو بالشَّرقِ بحثاً عن عالمٍ رومانسيٍّ جميلٍ من خلالِ الخيالِ، فوصفَ جمالَ الشّرقِ وسحرَه بطبيعتِه الخلّابةِ ومُدنِه السّاحرةِ وأجوائِه المفْعَمةِ بالرّياحينِ، من خلالِ قصصِ (ألفِ ليلةٍ وليلةٍ)، كما اهتمَّ هوغو بالشّرقِ فكريّاً وعقائديّاً، فقرأَ التّوراةَ والإنجيلَ والقرآنَ وتاريخَ الإسلامِ وسيرةَ الرّسولِ الكريمِ، وقد بدَا ذلكَ جليّاً في ديوانِه (الشّرقيّات) وملحمتِه الشِّعريّةِ (أسطورةُ القُرون).

أمّا تولستوي فلمْ يكُنْ شاعراً رومانسيّاً؛ ليهتمَّ بجمالِ الشّرقِ، وإنّما كان كاتباً ومفكّراً عبقريّاً دفعَه فكرُه الثّاقبُ إلى الشّرقِ بحثاً عن أدبِه وفكرِه، كمَا نَرى في إعجابِه وتأثُّرِه بحكاياتِ الشّرقِ الشّعبيّةِ وقصصِه وحكاياتِه، كحكاياتِ (علي بابا) و(علاء الدّين والمصباح السّحري) و(قمر الزّمان)، وقصصِ (ألف ليلة وليلة)، إضافةً إلى اهتمامِه بالرّسالاتِ السّماويّةِ: اليهوديّةِ والمسيحيّةِ والإسلاميّةِ، والرّسالاتِ الأرضيّةِ كالزّرادشتيّةِ والكونفوشيّةِ والبوذيّةِ.

اهتمَّ هوغو بالإسلامِ ورسولِه وصحابتِه في قصائدِه، فقد تناولَ حياةَ الرّسولِ الكريمِ، وبيّنَ خصالَه وصفاتِه وأعمالَه الجليلةَ، وأثْنى على تعاليمِ الدّينِ الإسلاميِّ، كما نَرى في قصائدِه الثَّلاثِ (العامُ التّاسعُ للهجرةِ) الّتي استعرضَ فيها سيرةَ الرّسولِ وأخلاقَه وأعمالَه حتّى حِجّةِ الوداعِ، و(آيةٌ من القرآنِ) الّتي اقتبسَ معانيَها من سورةِ الزّلزلةَ، و(شجرةُ الأرزِ) الّتي مدحَ فيها الخليفةَ عمرَ بنِ الخطّابِ رضيَ اللهُ عنهُ.

أمّا تولستوي فقدْ أدركَ أهمّيّةَ التّراثِ الرّوحيِّ للشَّرقِ كمَخرجٍ لأزماتِه الفكريّةِ والرّوحيّةِ، فاهتمَّ بالدّينِ الإسلاميِّ، وتعمَّقَ في فهمِه من خلالِ المراجعِ الّتي كانتْ في مكتبتِه، وتتناولُ رسالةَ الإسلامِ بالشّرحِ والتّفسيرِ من خلالِ القرآنِ الكريمِ والسّيرةِ النَّبويَّةِ وتاريخِ الإسلامِ، وممّا يؤكّدُ على شغفِ تولستوي بالإسلامِ مراسلاتُه معَ الشّيخِ محمّد عبْدَه.

ومن أهمِّ ما كتبَه تولستوي عن الإسلامِ كتابُه (حِكَمُ النّبيّ محمّد) الّذي اقتبسَ فيهِ من الأحاديثِ النّبويّةِ ما يتَّسِمُ بالحقائقِ الّتي تحملُ جوهرَ التّعاليمِ الدّينيّةِ في الحياةِ والمعاملاتِ، كالعملِ والقناعةِ والزّهدِ والعدالةِ والمحبّةِ والتّكافلِ الاجتماعيِّ والتَّسامحِ وغيرِها.

مفهومُ الدّينَ عندَ هوغو في جوهرِه لا في طُرقِه وطقُوسِ عبادتِه، ويَرى أنّ الدّينَ جوهرٌ إيمانيٌّ راسخٌ يحملُ جوانبَ إنسانيّةً، وكانَ مقتنِعاً بأنّ صلاةَ المرءِ تعرفُ طريقَها أكثرَ منهُ، وكانَ يُؤمنُ بالحياةِ بعدَ الموتِ،
أمّا تولستوي فيَرى أنّ الدّينَ الحقيقيَّ هو الّذي يتوافقُ مع العقلِ ومعرفةِ الإنسانِ، ويُحدِّدُ علاقتَه بالحياةِ اللّانهائيّةِ من حولِه، ويُرشدُ الإنسانَ في سلوكيّاتِه. ويَرى تولستوي أنّ الإيمانَ هوَ الّذي يحْيَا به الإنسانُ، وأنّه رصيدُه في الحياةِ.

لقدْ أثارَ اهتمامُ هوغُو بالإسلامِ ضجّةً كبيرةً في حقيقةِ إيمانِه، حتّى قيلَ في بعضِ الحِواراتِ الشَّهيرةِ الّتي تناقلَتْها الصُّحفُ الفرنسيّةُ، إنَّ هوغو اعتنقَ الإسلامَ قبلَ وفاتِه بثلاثِ سنواتٍ، واختارَ لنفسِه لقبَ (أبو بكْر) مُسْتندينَ في ذلكَ على ما حملَتْه قصائدُه من روحانيّاتِ ورموزِ الدّينِ الإسلاميِّ، ممّا أثارَ كثيراً من الرّيبةِ والجدلِ حولَ عقيدتِه، ولا سيَما أنَّ مواقفَه لم تكنْ منسجِمةً معَ الكنيسةِ.

أمّا اهتمامُ تولستوي بالإسلامِ فقدْ برزَ جليّاً في كتابِه (حكمُ النّبيّ محمّدٍ) ومراسلاتِه العديدةِ معَ مُفتي الدّيارِ المصريّةِ الشّيخِ محمّد عبدَه، وكانتْ وصيّتُه بعدمِ الصَّلاةِ على جنازتِه في كنيسةٍ ودفنِه منفرِداً دليلاً على تأثُّرهِ الكبيرِ بالإسلامِ، وقيلَ إنّه اعتنقَ الإسلامَ قبلَ وفاتِه، لكنَّ زوجتَه كتمَتْ سرَّ إسلامِه.

جاءَ اهتمامُ هوغو بالإسلامِ وبيانِ رسالتِه السَّمْحةِ كردِّ فعلٍ على الخطاباتِ المعاديةِ للإسلامِ من تيَّاراتِ (الإسلامو فوبيا) الّتي انتشرَت في فرنْسا وأوروبّا، مؤكِّداً أنّ الإسلامَ دينٌ إنسانيٌّ يُكمِّلَ المسيحيَّةَ، ولا يتعارضُ معَها.

أمّا تولستوي فقدْ وضعَ كتابَه (حكمُ النَّبيِّ محمَّد) حينَ رأى تحامُلَ جمعيّاتِ المبشِّرينَ في قازانَ من أعمالِ روسْيا على الشّريعةِ الإسلاميّةِ ورسولِها الكريمِ من خلالِ نشرِ صورةٍ مشوَّهةٍ عن الإسلامِ، فدفعَتْه غَيرتُه على الحقِّ إلى تأليفِ هذا الكتابِ.

ويَرى تولستوي أنَّ الشّريعةَ الإسلاميَّةِ تنسجمُ معَ العقلِ والحِكمةِ؛ فهيَ لذلكَ ستسُودُ العالمَ، كمَا في قولِه "يَكْفي محمّداً فَخْراً أنّه خَلَّصَ أُمَّةً ذليلةً دمويّةً مِن مخالبِ شياطينِ العاداتِ الذَّميمةِ، وفتحَ أمامَ وجوهِهم طريقَ الرُّقيِّ والتَّقدُّمِ، وأنّ شريعةَ محمَّدٍ ستسودُ العالَمَ لانسجامِها مع العقلِ والحِكمةِ".

خاتمةُ البحثِ

ممّا تقدّمَ ندركُ أنَّ ثمّةَ مقارباتٍ برزت في حياةِ كلّ من الكاتبينِ فيكتور هوغو وليو تولستوي، بالرّغمِ من اختلافِ الوطنِ والمنشأ والبيئةِ، ولا غرابةَ في ذلكَ؛ لأنّنا نجدُ مثلَ هذهِ المقارباتِ بين العديدِ من الأدباءِ العالميّين سواءً في الشّرقِ أم في الغربِ، ومن هُنا فقدْ وجبَ على الباحثينَ تتبُّعُ هذه المقارباتِ بالدّراسةِ والوصفِ والتّحليلِ والمقارنةِ من خلالِ الدّلائلِ والبراهينِ الّتي لا تدعُ أمامَ القارئ مجالاً للرّيبةِ والتّشكيكِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى