الأحد ١٠ أيار (مايو) ٢٠٠٩
ملامح القصة القصيرة جدا في
بقلم جميل حمداوي

بيت لاتفتح نوافذه

إضاءة:

أصدر هشام بن الشاوي مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان:"بيت لا تفتح نوافذه..." سنة 2007م عن مطبعة سعد الورزازي للنشر بالرباط في91 صفحة من الحجم المتوسط. وتجمع هذه الأضمومة كما هو معلوم بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. ويعني هذا، أن هشام بن الشاوي أتى إلى القصة القصيرة جدا من فن القصة القصيرة بعد أن مارس هذا الفن الموباساني تقعيدا وتخييلا، ومارس طقوسه الفنية والجمالية كتابة وقراءة وإبداعا.
وما يهمنا في هذه المجموعة القصصية دراسة اللقطات القصصية القصيرة جدا والوقوف عند بنياتها الدلالية والشكلية والوظيفية.

1- من الرؤية الواقعية إلى الرؤية الشبقية:

يستهل هشام بن الشاوي أضمومته السردية الجديدة باستدعاء مجموعة من المشاهد الإيروسية التي تعبر عن ذكريات السارد الغرامية ومغامراته الماجنة مع الجنس الآخر، فيلتقط الراوي صورة عشيقته الولهانة بشعره وحماقاته الإبداعية ؛ مما سيدفع به المآل إلى افتراس صهوتها والركوب بين أحضانها لإشباع غرائزه الشعورية واللاشعورية من أجل إثبات ذاته الوجودية وفحولته الرجولية: " تحت جنح الظلام، لاحت لي واقفة أمام باب البيت... بتنورتها القصيرة، وأصباغها الفاقعة... جذبتها من يدها، دون أن أن أنبس بكلمة....
لم أكن أعرف لم لم أكن استلطفها، ولم أفكر في يوم من الأيام أني سأمتطي صهوتها..هي، أول امرأة أدخلها إلى حياتي، وأول امرأة تدخل جحري...

اجتازت عتبة حجرتي، وفي عينيها سرور، وكأنما تدخل معي إلى معبد... فهي الوحيدة في هذا الحي المقبري، التي تعترف بموهبتي، وتقرأ أشعاري...وكم من مرة ضبطتها متلبسة باختلاس النظر إلي، وأنا أكتب حماقاتي، وهي تنشر الغسيل، فإذا التقت نظراتنا، ندت عنها آهة حارقة، وعضت على شفتها السفلى..أهي مغرمة بي؟"

ويستسلم السارد الراوي لمشاعره الوجدانية التي تنساب عشقا وحبا ومراهقة، ويسترسل في تصوير علاقاته الرومانسية التي ينتشي فيها بجمال الحسناوات الشابات، ويدخلهن في قلبه الولهان حتى يختلط عنده الحب بالفن، والحياة بالخيال، والغرام بالأدب:" في مقهى الفنانين، أناقش وصديقي مقاله الأخير عن الشاعر وتجاربه الوجدانية والحياتية في شعره...وبينما أنا أمسح المكان بعيني، لمحت فتاة واقفة بالشرفة، في ربيعها التاسع عشر.... تتسلى بالنظر إلى المارة...

اهتز كياني، وتزلزل فؤادي من أول نظرة...ونسيت كل ماحولي، وأنا أنظر إليها مأخوذا..."

ويصور الكاتب حياة الفنان الشاعر الذي يسقط نفسه التائهة في التعهر الجنسي قصد تحقيق نزوات الذات الشبقية مع تبيان إحساسه الذي ينبض بالخيبة والغربة الذاتية والمكانية، والتركيز على شعوره الذي يتدفق بالملل واليأس والوحدة والتشاؤم الأنطولوجي والعبث الوجودي والكينوني:" أشعلت المصباح، واصطدمت عينا عاهرتي ببيت شعري كتبته على الجدار بقطعة فحم، أعرف أنها لا تعرف أنه لأبي الطيب:

بم التعلل لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كاس ولا سكن

لملمت أوراقي...التي يحلو لي أن أتركها مبعثرة، لأن منظرها هكذا يمنحني إحساسا غامضا، لايعرفه إلا من تلظى بنار الكلمة...لم تسألني من صاحبه، ولكن لم اخترت هذا البيت بالذات...ربما، لأنها تعودت أن ترى أقراني يفجرون مكبوتاتهم على جدران حجراتهم...أجبتها: لأني أحس من أعماق أعماقي أني بلا وطن، وحتى وجودي لا مبرر له...ألم يطرد أفلاطون الشعراء من عالمه الطوباوي؟"

يبدو لنا أن الراوي ينطلق من رؤية وجودية قاتمة قائمة على السقوط والانتظار والاستسلام لليأس والتشاؤم القاتل، والثورة على الواقع الموبوء بالقيم المنحطة الكاسدة. لذا، يتلذذ السارد بالحزن والبكاء، ويتمنى أن يدفنهما في صدر معشوقة ما من أجل أن ينسى الحياة ومن فيها:" بقلب كسير أعود إلى حجرتي، وفي طريقي إلى منفاي، صفعني حديث شابين، يفكران بصوت مرتفع: ماهي أفضل مهنة في هذا الزمن الملعون؟ أجابه رفيقه: لص أو قواد...!

لو كانت لي حبيبة لبكيت بين يديها، ودفنت أحزاني في صدرها! !"

هذا، ويوظف السارد الخطاب الحلمي الذي يعبر عن غيابه اللاشعوري وخضوعه لللاوعي الشبقي ولا شعوره الرومانسي من خلال استحضار العاشقات الجميلات والمعجبات بالشاعر عشقا وهياما. لكن غفوة الشاعر من ترسباته الإيروسية تظهر هذيانه وجنونه وحمقه السيكولوجي، فتظهر على السطح الواقعي مكبوتاته الدفينة وتجليات الحرمان الجسدي لدى هذا الشاعر الواهم الذي يقلب الحقائق ويراها بمنظار وردي غير المنظار الحقيقي:" كنت أتوهم، وأنا مراهق حالم، غارق في رومانسيتي، أني حين أصبح شاعرا... ستطاردني البنات في كل مكان، وسأختار دائما من هي أجمل.."

ويعلن السارد فشله في الحب الذي ارتبط لديه بالتفاوت الطبقي والصراع الاجتماعي، كأن الحب في فلسفة الراوي يقترن بالغنى والثراء، بينما يرتبط الحرمان والكبت بالفقر وشدة الحاجة. وقد جعل هذا التباين السارد المحروم يثور على والديه الفقيرين اللذين أنجباه معدما مدقعا لا يملك مفاتيح الحب والإيروس اللعين:" جلست على الرصيف، وبين أناملي لفافة تلفظ أنفاسها الأخيرة...حين غادرت العمارة، تبعتها، لم أكن أتوقع أن تصدني- هذه الجميلة الصغيرة- بكل هذه القسوة، كأنها امرأة بلا قلب... فلم اسمع منها كلمة واحدة، وأنا أسير إلى جانبها كتفا إلى كتف...توقفت بمحاذاتنا سيارة مرسيديس، فتح الباب، ركبت إلى جانب العجوز الأصلع، بلا تردد...كان ينظر إلي كما لو كنت حشرة، فتمنيت أن أبصق في وجهه...

اسودت الدنيا في عيني، تملكني حزن غامض لا تصفه غير الدموع...لعنت والدي، وهما في قبريهما، لأنهما أخرجاني إلى هذه الحياة التي لم أختر المجيء إليها، ولعنت اللحظة التي كان فيها إيروس ثالثهما..."

وينتقد الكاتب واقع المرأة البشع حينما تبيع جسدها المترهل عبر الانتقال من فراش إلى آخر من أجل تأمين بقائها وحياة أسرتها المنهوكة وسط مجتمع بدون قلب:" لم أكن أكره جارتي لذاتها، لكني أمقت أن تنتقل من فراش إلى آخر، حتى لو لم تكن أختي...تقول لي، بصوت مبلل بالدموع: هذا الصباح، اقترضت عشرين درهما....لأذهب إلى السوق...لأن الكلب الذي (...) البارحة، لم يعطني ( سنتيما).. الخبز " مر"، ورعاية ثلاثة إخوة يتامى "أمر"....!

احتقرت ذلك الحيوان القابع في داخلي، الذي يحاول مرارا أن يتمرد على سلطة الأنا الأعلى..ناولتها ورقة مالية كانت كل ما أملكه، بعدما بعت بعض كتبي لأحد الطلبة صباحا...لأثبت رجولتي أمام فاتنتي الصغيرة.

تمددت على سريري، لأنام، وقلت لها: يمكننك أن تذهبي...وقد انشطر قلبي إلى قطعتين تبكيان امرأتين..."

ويتمظهر الكبت الغريزي والحرمان الجنسي بكل جلاء ووضوح في قصتي " السوتيان" وقصة:" تبان المعلمة":

" حكى عبد الله عن ذلك ( البريكول) في أحد أسطح تعاونية المعلمين، حيث تشمم (م) مثل سلوقي، وبعمق ومودة، ثوبا داخليا، على حبل الغسيل، بعد أن غادرت المعلمة، وبصوت خفيض قال:" تبانها أفضل من شايها!!".

غالب عبد الله ضحكه، وهو يشرب الشاي، واكتفى رفيقه برشفة واحدة."

أما رؤية الكاتب الواقعية فتتمظهر في التقاط مجموعة من الظواهر الاجتماعية المتفشية كالعهارة والكبت والحرمان والفقر والتسول والبحث في قمامات الأزبال تعبيرا عن انحطاط الإنسان وانبطاحه اجتماعيا وتضآل كرامته الإنسانية وتحوله إلى حيوان مستلب ممسوخ في مجتمع الفوارق الطبقية والتفاوت الاجتماعي:" ضحكوا ملء القلب، حين لمحوا أحد المارة، أوقف دراجته النارية، ألقى إطلالة على حاوية أزبال، ثم استأنف المسير، علق أحدهم متضاحكا: " جاي تزور أحبيبي!"

وعليه، يعالج هشام بن الشاوي في هذه المجموعة القصصية كثيرا من قضايا المجتمع على المستوى الذاتي والموضوعي، بيد أن أهم مشكلة يلتقطها الكاتب هي مشكلة المراهقة والحرمان وإفراغ المكبوتات الجنسية الواعية واللاواعية.

2- بين التقرير المباشر والمعجم الإروسي:

يستعمل هشام بن الشاوي في مجموعته القصصية " بيت لاتفتح نوافذه..." الجمل المكتملة تركيبيا، والفواصل القصيرة، والمركبات التعبيرية الواصفة سواء بالصيغ النعتية أو الحالية أو الصور البلاغية أو الروابط الحجاجية.

ويشغل أيضا في كثير من قصصه القصيرة جدا الجمل الفعلية البسيطة ذات المحمول الفعلي الواحد مع التركيز على الوظائف النووية الأساسية والاستغناء عن الوظائف الثانوية التكميلية. وتتقيد هذه الجمل الفعلية بالمحددات الزمانية والمكانية والروابط الحجاجية والموجهات التعبيرية، وتخضع أيضا لظاهرة التتابع والتراكب والتدارك:

" تحت جنح الظلام، لاحت لي واقفة أمام باب البيت... بتنورتها القصيرة، وأصباغها الفاقعة... جذبتها من يدها، دون أن أن أنبس بكلمة....

لم أكن أعرف لم لم أكن استلطفها، ولم أفكر في يوم من الأيام أني سأمتطي صهوتها..هي، أول امرأة أدخلها إلى حياتي، وأول امرأة تدخل جحري...

اجتازت عتبة حجرتي، وفي عينيها سرور، وكأنما تدخل معي إلى معبد... فهي الوحيدة في هذا الحي المقبري، التي تعترف بموهبتي، وتقرأ أشعاري...وكم من مرة ضبطتها متلبسة باختلاس النظر إلي، وأنا أكتب حماقاتي، وهي تنشر الغسيل، فإذا التقت نظراتنا، ندت عنها آهة حارقة، وعضت على شفتها السفلى..أهي مغرمة بي؟"

وترد البدايات الاستهلالية في قصصه بأشكال متنوعة: الاستهلال الفضائي، والاستهلال الوصفي، والاستهلال الحدثي...

وترد الخاتمة كذلك في شكل نهاية مفتوحة،ونهاية وصفية، ونهاية تأملية حالمة، ونهاية حدثية...

وتتسم الجمل القصصية بتنوع موجهاتها الإنجازية وصيغها الأسلوبية: ( الاستفهام، الاستدراك، النفي، التمني، الإثبات، الشرط، التوكيد، السببية، الاستثناء، الشك، الإنكار، السؤال والجواب،...)
وإلى جانب الجمل الفعلية، يستعمل الكاتب الجمل الاسمية القصيرة وجمل الروابط سواء أكانت منفصلة أم متصلة للتثبيت والتأكيد والتقرير:" كنت أتوهم، وأنا مراهق حالم، غارق في رومانسيتي، أني حين أصبح شاعرا... ستطاردني البنات في كل مكان، وسأختار دائما من هي أجمل.."

ويستند التركيب الجملي إلى خاصية الانزياح والتخصيص الأسلوبي الذي يقرب السرد من فن الشعر، ويتم هذا الانزياح التركيبي عن طريق خلخلة الرتبة والتشويش على نظام الجملة ومكوناتها الأصلية عن طريق التقديم والتأخير كما في هذه اللقطة القصصية القصيرة جدا:

بقلب كسير أعود إلى حجرتي، وفي طريقي إلى منفاي، صفعني حديث شابين، يفكران بصوت مرتفع: ماهي أفضل مهنة في هذا الزمن الملعون؟ أجابه رفيقه: لص أو قواد...!

لو كانت لي حبيبة لبكيت بين يديها، ودفنت أحزاني في صدرها! !"

كما يستند الكاتب إلى لغة الحذف والإضمار وتشغيل السخرية والمفارقة والتشخيص الاستعاري البارودي القائم على التهكم المهجن والإضحاك الفكاهي والتعيير الكاريكاتوري.

ويفتق الكاتب ذاكرته التناصية إحالة وامتصاصا، ويستثمر خطاطات معرفته الخلفية كالإشارة إلى: أبي الطيب المتنبي، وأفلاطون صاحب الجمهورية التي طرد منها الشعراء الخياليين، والإيروس، وقولة أبي العلاء المعري المشهورة في والديه والمثبتة في شاهدة قبره...

ومن مآخذنا على هشام بن الشاوي أنه يسقط أحيانا في الإسهاب والإطناب وتكرار ما ينبغي تفاديه؛ لأن من سمات القصة القصيرة جدا الاقتضاب والتلميح والإدهاش والومض، فلا داعي للتفصيل في الأحداث والتوسيع فيها، والإكثار من النعوت والأوصاف الثانوية التي ينبغي الاستغناء عنها. ويعني هذا أن على كاتب القصة القصيرة جدا أن يبتعد عن التوسيع لصالح الإيجاز والاقتضاب والتكثيف.

وإليكم نصا في حاجة ماسة إلى اختزاله واختصاره لكي يصبح نصا مقتضبا موحيا ومدهشا:" جلست على الرصيف، وبين أناملي لفافة تلفظ أنفاسها الأخيرة...حين غادرت العمارة، تبعتها، لم أكن أتوقع أن تصدني- هذه الجميلة الصغيرة- بكل هذه القسوة، كأنها امرأة بلا قلب... فلم اسمع منها كلمة واحدة، وأنا أسير إلى جانبها كتفا إلى كتف...توقفت بمحاذاتنا سيارة مرسيديس، فتح الباب، ركبت إلى جانب العجوز الأصلع، بلا تردد...كان ينظر إلي كما لو كنت حشرة، فتمنيت أن أبصق في وجهه...

اسودت الدنيا في عيني، تملكني حزن غامض لا تصفه غير الدموع...لعنت والدي، وهما في قبريهما، لأنهما أخرجاني إلى هذه الحياة التي لم أختر المجيء إليها، ولعنت اللحظة التي كان فيها إيروس ثالثهما..."

وعلى العموم، فهشام بن الشاوي يستخدم ملفوظات لغوية وتعابير قولية سهلة واضحة وبسيطة من حيث التداول، كما أن كلامه الإبداعي واقعي المستند، مألوف الاستعمال، يركز فيه كثيرا على معجم الذات( منفاي، دفنت أحزاني، أتوهم، أنا مراهق حالم....)، ومعجم الإيروس: ( العاهرة، تمددت على سريري، الإيروس، تنتقل من فراش إلى آخر، قواد....)

كما يمتاز أسلوب هشام بن الشاوي بالتقريرية والمباشرة بسبب ميله إلى الواقعية التصويرية والانتقادية التي تتطلب من الكاتب أن يكون واضحا الريشة والرؤية، ولكن يستحسن أن يوظف الطرائق التعبيرية الموحية والرمزية والانزياحية التجريدية لخلق قارئ متنور قادر على التأويل وإعادة بناء النص من جديد.

خاتمة:

وأخيرا، يتبين لنا - مما سلف ذكره- أن الكاتب المغربي هشام بن الشاوي يتميز في قصصه القصيرة جدا بطرح مواضيع جادة وجريئة كتصوير المجتمع المتدني في قيمه ومبادئه وأعرافه وعاداته، والتقاط ملامح مجتمعه المدنس عهارة وفجورا على ضوء رؤيتين متشابكتين تقاطعا وتجاورا ألا وهما: الرؤية الواقعية الانتقادية والرؤية الإيروسية الشبقية.

أضف إلى ذلك، أن هشام بن الشاوي في هذه المجموعة القصصية المتنوعة فنيا استعمل لغة واقعية واضحة ومألوفة، كما شغل أسلوبا تقريريا مباشرا متنوع السجلات والموجهات التعبيرية والصيغ الكلامية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى