الأربعاء ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

بينَ المساميرِ وقلمِ الدَّكْترة

في قريةٍ صغيرةٍ تائهةٍ بينَ الجبالِ والوديانِ.. يعيشُ سكَّانُها على عطَايا الطَّبيعةِ والمحاصيلِ الزّراعيَّةِ الّتي لا تكادُ تسدُّ رمقَ الجوعِ إلّا بشقِّ الأنفسِ، بعدَما تخلَّصتِ القريةُ من عهودِ الإقطاعِ؛ لتحلَّ عليها لعنةُ قُطّاعِ الطُّرقِ من الجبالِ.. نشأَ صبيٌّ نبيهٌ شقيٌّ عُرفَ بالعَجيِّ بعدَ أن تُوفيَّ والدُه مُبكّراً، فتركتْهُ والدتُه على أيديْ جدِّه وأعمامِه رضيعاً على أثداءِ بعضِ أمَّهاتِ القريةِ؛ لذلكَ سمَّوهُ عجيَّاً، ويبدو أنْ أهلَ القريةِ كانُوا يفهمُونَ خصائصَ اللُّغة قبلَ ابنِ جنّي.. فتخلَّتِ الأمُّ عن خليلِها الصَّغيرِ، ولحقَتْ ببعلِها في قريةٍ بعيدةٍ خلفَ التِّلالِ..

مرّتِ الأيّامُ ومخَرَتِ الأعلامُ بحارَ الظَّلامِ، وشبَّ الصّبيُّ العجيّ عن الطّوقِ، وراحَ يفتحُ أبوابَ الحياةِ بيديهِ، فتزوَّجَ وأنجبَ البنينَ والبناتِ، وملكَ بيتاً جميلاً في القريةِ بعدَ ما جنَتْهُ يداهُ من مساميرِ النِّجارةِ، وهي تدكُّ أعطافَ الأخشابِ مُعلنةً ولادةَ حرفةٍ تدرُّ عليهِ بالمالِ الغزيرِ؛ حتّى أضْحى العجيُّ مُقاولاً بارعاً في فنِّ مقاولاتِ البناءِ!

وتمرُّ الأيّامُ.. ويلْتَقي جبلٌ مع جبلٍ على نقيضِ ما يُقالُ.. فيأتيْ شابٌّ يُحضِّرُ للدّكترةِ في بلدٍ أوروبيّ؛ ليعملَ في عطلةِ الصَّيفِ؛ كي يَجمعَ مصاريفَ دراستِه.. والعملُ شرفٌ حتّى لأعظمِ الملوكِ.. ولكنَّ النُّكتةَ في التقاءِ الجبلينِ أنَّ كلّاً منهُما أرادَ أن يُثبتَ أنّهُ الأقْوى والأفضلُ على صدرِ الطَّبيعةِ.. ويبْدو أنَّ جبلَ المساميرِ انتصرَ على جبلِ الدَّكترةِ بالحُجَّةِ والمنطقِ، حينَ قالَ له: (كلّك على بعضك شقْفة أستاذ)!

لم يحتمِلْ جبلُ الدَّكترةِ الإهانةَ، ووضعَها في قسمِ الدِّراساتِ السِّرّيَّةِ.. وحينَما عادَ إلى قريةِ قطَّاعِ الطُّرقِ.. كتبَ أُقصوصةً ورقيَّةً إلى رعاةِ الأمنِ والسَّلامِ، تحملُ التُّهمةَ العُظمى بالرَّجعيَّةِ الإرهابيَّةِ آنذاكَ..)!!

وبعدَ أسابيعَ قليلةٍ عادَ العجيّ إلى حضنِ الوطنِ الكبيرِ الصَّغيرِ، ولم يُتمَّ نومَه إلى السَّاعةِ الثّانيةِ بعدَ منتصفِ اللّيلِ، حتّى جاءَ الوحوشُ وقبضُوا عليهِ.. وكادَ أنْ يُصبحَ في خبرِ كانَ، وجملةِ إنَّ وأخواتِها، لولا تدخُّلُ الشُّرفاءِ من رعاةِ الماعزِ الّذينَ فقدُوا قطعانَهم بعدَ قيامِ حركةِ قطَّاعِ الطُّرقِ العظيمةِ الّتي أعادتِ القريةَ وأخواتِها عهوداً إلى ما قبلَ العصورِ الوُسطى في أوروبّا.. وهكَذا انتصرَ جبلُ الدِّراساتِ على جبلِ المساميرِ، وردَّ الإهانةَ بأحدثِ الوسائلِ وبأخسِّ الكلِماتِ لابنِ قريتِه!

لكنَّ الألمَ ووطأةَ ردِّ الإهانةِ لا يمرَّانِ على ذاكرةِ العجيِّ الشَّقيِّ مرورَ أغنيةِ أمّ كلثومَ (يا ظَالمني).. ولمْ تمرَّ إلّا شهورٌ، فجاءَ الرّدُّ من المساميرِ ليلاً، وانهالَتْ على جبلِ الدَّكترةِ دكّاً دكّا.. ودقّاً دقّا.. ودحّاً دحّا.. حتّى علَتْ رايةُ المساميرِ في ربوعِ القريةِ.. ورُمِيتْ رايةُ الدَّكترةِ في نهرِ القريةِ في مَجاري الصّرفِ الصِّحيِّ!

منْ دفاترِ قريةٍ مَنسيَّة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى