الأحد ٢٤ آب (أغسطس) ٢٠١٤
بقلم ريمة عبد الإله الخاني

تأثير البيئة في العمل الأدبي

تحليل

إن التحليل الذي نقدمه الآن عن البيئة الخاصة بالعمل الأدبي المرتبطة دوما بالبيئة العامة والظروف المحيطة بالمبدع،تعطي صورة واضحة عن تأثيرها المباشر في إخراج عمله ممزوجا بأحواله الحياتية وتفاصيله النفسية، وفكره المتقد الفعال.
ومن الأمثلة القريبة التي يستشهد بها للتحليل هنا والتي تخدم طرح التأثير المتبادل بين البيئة والطبيعة الخاصة للمبدع على سبيل المثال لا الحصر:

هو الدكتور والأديب :نجيب الكيلاني،فهو من الأدباء القلائل الذين استطاعوا تخطي السجن بكتاباته وأعماله التي لم تتوقف طول حياته .

لقد ولد في أول حزيران (يونيو) عام 1931م بقرية (شرشابه) محافظة الغربية، وفي سن الرابعة أدخل مكتب تحفيظ القرآن، حيث تعلم القراءة والكتابة والحساب وقدرا من الأحاديث النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصص الأنبياء وقصص القرآن، التحق بالمدرسة الأولية، ثم انتقل منها إلى مدرسة الإرسالية الأمريكية الابتدائية بقرية (سنباط) التي تبعد عن قريته خمسة كيلو مترات كان يقطعها مشيا على الأقدام ذهابا وإيابا. نشأ في أسرة تعمل بالزراعة، وكان منذ صغره يمارس العمل مع أبناء الأسرة في الحقول. وقضى المرحلة الثانوية في مدينة (طنطا) عاصمة محافظة الغربية، ثم التحق بكلية طب القصر العيني (جامعة القاهرة) عام 1951، وفي السنة الرابعة بالكلية، قدم للمحاكمة في إحدى القضايا السياسية وحكم عليه بالسجن عشر سنوات...

ما يهمنا من سيرته وعطائه الطويل، هو رغبته في إنشاء ما يسمى بالأدب الإسلامي وفعل، وقد كان معتدلا غير متعصبا، وهنا يخطر في ذهننا ان الاضطهاد الذي يطال المبدعين ما هو إلا دافع لمزيد من الإصرار عموما، مما يولد المضي بثبات رغم المعوقات، ويعتبر الدكتور نجيب الكيلاني غزير الإنتاج لم يسع لشهرة ولا منصب، لذا فنرى اسمه غير واضح إعلاميا بعكس أقرانه، لكنه أعطى الكثير ولم يتوقف.

من أعماله على سبيل المثال: ديوانه الشعري الأول (أغاني الغرباء)،روايته الأولى (الطريق الطويل)، مسلسلا إذاعيا 1973، وله سلسلة روايات كثيرة وهامة، إضافة إلى: من كتبه المهمة كتاب (لمحات من حياتي)..

إن ضخامة عطائه وتفتق ذهنه على تنوع العطاء لدليل على أن الإبداع الحقيقي لا يتوقف إلا بالموت، وتبقى بصماته ماثلة في الأذهان...ويكفيه رواية :عمر يظهر في الشرق نموذج حقيقي لكتابات كيلاني الغارقة في المصرية، المقولبة إسلاميا، الجدية الطرح والحيوية الطريقة، ناهيك عن سلاسة اللغة وسهولتها.

إن سرد الكيلاني يحمل معه روح مواطنته في كل عمل، ورسالته في كل سطر قد أحاطته من كل جانب حتى لتجده تنفسها في كل عمل، تخللت الخلايا بكل تفاصيلها، فتغفلت البيئة مع المبتغى حتى توحدتا، وهذه نراها ف المؤمنين بقوة بمذهبهم الفكري، امثال ماركس وغيره من المفكرين الأقوياء الذي أثروا جدا في الجمهور، ولكن السؤال هنا لمَ لم يكن تأثير الكتاب الإسلاميين قويا بما يكفي لمنافسة التيارات الاخرى؟.

ربما كان لقوة المنافسة الإعلامية للتيارات الأخرى، أو تقصير من المبدع نفسه بحق نفسه وأعماله، أو أن الوهم الذي نتخيله عن الخصوم وطمس الهوية الإسلامية بشتى الطرق لتظهر على السطح الكتابات المتحررة من الضوابط الإسلامية لها شان في ذلك كبير...

على كل حال لو استعرضنا حياة الأديب الروسي مكسيم جوركي من جانب آخر وعرفنا سيرته الشخصية بداية لنقارن فرق التكوين الفكري والبيئي :

ولد في نجني نوفجراد عام 1868، وأصبح يتيم الأب والأم وهو في التاسعة من عمره، فتولت جدته تربيته، وكان لهذه الجدة أسلوب قصصي ممتاز، مما صقل مواهبه القصصية. وبعد وفاة جدته تأثر لذلك تأثراً كبيراً مما جعله يحاول الانتحار. جاس بعد ذلك على قدميه في أنحاء الإمبراطورية الروسية، لمدة خمس سنوات غير خلالها عمله عدة مرات، وجمع العديد من الانطباعات التي أثرت بعد ذلك في أدبه.

تعنى كلمة جوركى باللغة الروسية "المر" وقد اختارها الكاتب لقبا مستعارا له من واقع المرارة التي كان يعانى منها الشعب الروسى تحت الحكم القيصرى والتي شاهدها بعينه خلال المسيرة الطويلة التي قطعها بحثا عن القوت، وقد انعكس هذا الواقع المرير يشكل واضح على كتاباته وبشكل خاص في رائعته "الأم".

كان صديقاً لـ لينين الذي التقاه عام 1905 م توفي ابنه مكسيم بشكوف عام 1935 م، ثم توفي هو في 18 يناير 1936م في موسكو، وسط شكوك بأنهما ماتا مسمومين. سميت مدينة نجني نوفجراد التي ولد فيها باسمه "غوركي" منذ عام 1932م حتى عام 1990م.

لو أسقطنا هذه السيرة الذاتية على مؤلفاته وخاصة الام نجد مدى مرارة ما كتب ومدى تأثر كتاباته بمرارة حياته الصعبة:
الأمهات هن فقط القادرات على التفكير في المستقبل لأنهن ينجبنه من خلال أطفالهن.

تبدو السعادة دائما صغيرة عندما تمسكها في يديك، لكنك إذا تركتها أدركت فورا كم كانت كبيرة وغالية.
كن طيبا وكريما وإنسانيا، وأحب رفاقك، وواس المكلومين، وسامح الذين أذنبوا في حقك.

ماذا توحي لنا تلك الكلمات؟، إنها توحي بإنسان كريم معتدل المزاج مستقر التفكير.. لكن جوركي كان ميالا للانتحار فكيف نحلل هذا؟.

إن طبيعة الحياة الروسية، قد جبلت على العمل ثم العمل، على الكفاح ثم الكفاح، مع تحجيم العواطف حتى الشح والضن بها، فتاتي كتابات المبدعين، كتنفيس عما يعتلج في صدور كثير من الناس، تقدم صورة حقيقية عن طبيعة محبة لم تجد احتواء ولم تجد صدرا دافئا بقيت تبحث عنه عمرها، ولعل معظم المبدعين الروس خرجوا من بيئة صعبة جدا، فخرج رحيق كتبهم مملوءاً برائحة الفودكا والملفوف والفطائر الروسية التي رغم بساطتها وفقرها بما لذ وطاب، يجدونها قمة في اللذة.
ولعل رائحة الفقر جمعت النفوس، ولملمت أنفاسهم اللاهثة نحو المراد الذي بقي في معظم أعمالهم كسراب يلوح في الأفق.
حتى رواية الام جسدت الكفاح الروسي الحقيقي، ونزاع اللقمة وخاصة الطبقة العاملة المظلومة دوما، وقد عكس فيها مرآة روحه فقلمه لم يخرج عن نطاق ما يشعر به ويعاني، خاصة في عصر الرأسمالية والثورة الشعبية ضدها، وكأنها ثورته هو أولا.. في القرن العشرين.

من الجمل التي تلفت النظر توظيف الكلمات الصحيح للموقف المحدد:

لقد ابتلع المعمل النهار، وامتصت الآلات من عضلات الرجال...(ص 14) من رواية الأم.
الإنهاك المتكدس عبر السنين يفقد الشهية... ص (15)
ما نراه مقارنة مع المثال السابق، ان التيارات التمردية هي من شقت عباب العالم ولفتت الأنظار جيدا، والتيارات التي حاولت التعايش مع ما هو قائم بقيت في بعض ظل ماذا يعني هذا؟.
هل الجمهور بحاجة لهزة عنيفة حتى يرى هؤلاء؟. أم هناك عوامل اخرى سخرت وسائل عدة لظهور بعض المبدعين؟.
تعد لحركة الترجمة التي ظهرت مع دار الهلال التي أسسها جرجي زيدان كما هو معلوم، دورا في المساهمة عمليا في ظهورهم للساحة، بينما الكتاب ذوي المذهب التعايشي لو جاز التعبير، لم يتسنى لهم واجهة إعلامية قوية تخلد اسمهم.. فنحن شعب نميل للذين ظهروا بطرق عنيفة قوية متمردة.

ولو حاولنا ولوج عالم القصة والسرد في القص السوري لوجدنا أن هذا كان لصيقا جدا ببيئة الكاتب بقوة، فحنا مينة كانت رواياته تمس عالمه البحري، مثال: نهاية رجل شجاع، وكذلك القاصين السوريين في عالم القضاء مثلا/الدكتور بد الإله الخاني(وروايته خندق بعد الاخير واعماله القصصية المتنوعة مثال سجناء الجليد الازرق) والمحامي سعيد الكوسا، فهما قد استلهما في عملهما التحقيقي القضائي السرد عامة، وقد انعكس هذا حتى على نفسيهما، ففي مكسيم جوركي انعكست الحياة الشخصية على العمل، بينما نرى هنا انعكاس العمل على النفس ؟، وفي كل متأثر ومؤثر وعندما ترجح كافة أحدهما على الآخر تظهر البصمة الخاصة ممزوجة بالطباع الخاصة الفطرية.

أما في المغرب العربي، فقد بقي تأثير الثقافة الفرنسية واضحة في معالم كتاباتهم ونمط سردهم،مثال، واسيني الأعرج، وروايته أصابع لوليتا التي تدمغ العمل بقوة بالطابع الفرنسي للمرأة الحرة المتحررة من كل قيد ديني وفكري، تتمايل مع تمايل الريح ...وبين الأديب الجديد العهد علي بنساعود ونهجه الذي يميل للطريقة القصصية المختزلة والمكثفة القصيرة جدا ( مجموعته الأخيرة ظلال ذابلة).

والجدير بالذكر،أن نرفق ماقلناه،بالإبداع العراقي الذي كان يملك لغة قوية في السرد ونهجا خاصا يملك من الواقعية الشبكية إمكانات هامة في هذا السياق ويملك كاميرا بانورامية دوما تجعلك متأثرا به شئت ام أبيت، كانت رواية قبل اكتمال القرن... عن واقع العراق قبل النفط والفقر والعوز والجهل، كان وصفا للحياة المستنقعية آنذاك لافتا وصادقا وجريئا بلغة جزلة جدا وطريقة سرد مشوقة حتى آخر حرف.

وتعتبر الروائية ذكرى محمد نادر من الكاتبات العراقيات القلائل اللواتي أمسكن عصى السرد من المنتصف، فجمعت ما بين طرح قضايا حساسة عراقية واقعية، في زمن لم يكن النفط واردا أساسيا في البلاد وكيف عاشت زمن الفقر والجهل والنزاع ضد الاستعمار والخونة نجده في روايتها :

قبل اكتمال القرن، والتي تملك قدرا كبيرا من الجرأة في الطرح، والواقعية في السرد، ونبش ما كان مسكوتا عنه قديما، بصدق النقل، وعفوية اللغة وجزالتها بذات الوقت، ناهيك عن شبكية العلاقات فيها وبانورامية اللقطات.
على غرار هذا نجد أن بعض الطرح كان حداثيا جدا قدم ما يعانية الكاتب عبر الشابكة العنكبوتية من متاعب يجد فيها متنفسا في علاقاته الاجتماعية وحتى المصلحية في ظل وطن ينهار، نجده في رواية الأديبة الحداثية: صبيحة شبر و رواية : فاقة تتعاظم وشعور يندثر

وجرأة الطرح عن خفايا النت وزلاته و مهاويه، عن طريق سيرة ذاتية لصيقة تقدمها الكاتبة بصدق رغم قصور العامل الفني فيها عن بلوغ الجزالة والقوة.

بينما نجد عند الكاتب العراقي الحداثي: أسعد اللامي في رواية : شباك أمينة، الذي لم نجد شباكها كما في رواية في انتظار غودوت، حيث طرح الظروف الحالية في العراق وتخبط الناس بين تيارات دينية ولا دينية غير عابئة بالوطن أصلا ولا تشعر بشعور مواطن فقد الأمان والاطمئنان فيه، بأسلوب رشيق ولغة جزلة، ومعالجة متقطعة الجهد لم تمسك الرواية بقوة التشويق ولا بتماسك النسيج الفني، لكنها كانت تطرح جرحا قاتما أسودا جديرا بالطرح بين جمهور لم يعد يعرف من هو المحق.
في نهاية تحليلنا ورغم أننا أعطينا نماذج مختلفة من المبدعين، إلا أن الملاحظ أن غالبية الكتاب متأثرين اكثر منهم مؤثرين، يعالجون القضايا الاجتماعية انطباعيا غالبا لا إصلاحيا، وفي كل مذهب إبداعي خاص، له فضاءاته الخاصة والأجواء المعبرة عنه بصدق.

تحليل

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى