الأحد ١١ نيسان (أبريل) ٢٠٢١
بقلم الهادي العثماني

تباريح الحزن، أو امرأة من برج الألم

تباريح الحزن، أو امرأة من برج الألم
قراءة في ديوان «هوس الزمن الضائع» للشاعرة منية صالح وسلاتي
بقلم: الهادي العثماني

"نحن نُفرِغ أحزاننا في شِعرنا لنتخفّف من بعض الألم" شاعر
"إذا الحــزنُ أبْـلَى بالأسـى فرَحـي أراوِغُ الحزن َ حتى يرجعَ الفرحُ أُداريهِ بالشعرِ كي أعلو على وجعي أشْدُو القصيدَ لعلّ القلبَ ينشرحُ" شاعر

إذا كانت العناوين هي أولى عتبات النصوص، فإنّ عنوان المجموعة الشعرية "هوس الزمن الضائع" للشاعرة التونسية منية عائشة صالح وسلاتي يشي باكرا بما تُحيل عليه كتاباتها من ألم وحزن، ويكشف منذ البداية عن لون شعري مخصوص يرتدي جلابيب الحزن ويشكو الضياع. قصائد موجَعة موجِعة، مثقّلة بالكآبة، طافحة بالألم، راشحة بالأسـى مغرقة في معجم الحزن والتوجّع. وليس أصعب على الشاعر من أن يَقُدَّ من عواطفه قولا أمينا في مقام الصدق ينحته من ذاته، ويجترحه من عواطفه وإحساسه ووجدانه ما به يستدعي القارئ ويشدّه اليه في زمن رديء كزمننا هذا؛ زمن استقال فيه القارئ واغترب الحرف وتردّى الابداع وانحطّ، فصار قول الشعر من زعم الأدعياء وتطاول الأشباه، استسهله الجميع وطرقه كلّ طارق حتّى صار ما يُكتَب باسم الشعر - جلّه - خارج الشعر، وفي مجال اللّاشعر، ممّا أساء إلى الشعر وانتهك حرمة الحرف، فكثر الشعراء وقلّ الشعر، واستفاض القول وشـحّ الابداع.

وباسم الحداثة استسهل الادعياء والأشباه الأمر واستهانوا بالمسألة، فحبّروا ولم يعبّروا، وطلسموا ولم يحسموا وأغمضوا ولم يُبِـينوا ولم يبـــلّغوا، وإنّما هو لغو وثرثرة حتى طفا الغثّ واختفى الجيّد، ولا عجب فالجيّد في الغالب قليل نادر والأسوأ يطغى ولا يدوم.. ولقد جذبني عنوان هذه المجموعة الشعرية حتى دعاني إلى الولوج في النصوص، فدلفت أسائلها، واختبر مكنوناتها.. صافحتها على عجلٍ ثمّ سامرتها على مهلٍ فانـفـتحـت وبـاحـت لـي وكشفت عن دواخلها، فإذا أنا حيال نمط من القول مدجّج بالشكوى مكتظّ بالأنين، ففي كل حرف جراح وفي كلّ لفظ نواح.. وماذا عساني أنتظر من كتابات امرأة شاعرة ناهزت نصف العمر في غربة قاسية، وحيدة منفردة تواجه أعباء الحياة ومكرَهات المرحلة، بعيدة عن الأهل والخلّان غريبة عن الربوع والأوطان، كسيفة البال محطّمة الوجدان وقد ضاع من العمر ما ضاع فانبرى الحنين الى الماضي، والأسف على ما فات هوسا لا ينقطع. ولأنّ الماضي لا يعود، على حدّ تعبير الكاتب المصري محمد عبد الحليم عبد الله، فإنّه لا يبقى غير الذكريات، بها نعوذ، بها نلوذ، ونحيا في زواياها لنرجم بها صلابة هذا الواقع المقيت...

في نصوص الشاعرة منية كثير من الجراح، كثير من الألم، كثير من الشجن الذي يصقل الروح ويثقّفها كما تصهر النار الحديد فتُبِين عن أصل معدنه وتصقل السيف فيصبح ثقيفا، ولعلّ أوّل نصّ يعترضك في الكتاب يختزل بامتياز محتوى النصوص كلها انطلاقا من العنوان ذاته "حرقة الغربة". ومنذ أوّل القول وفي لغة تقريرية صادعة " يحاصرني الفراغ"، نكتشف هذا الكمّ الهائل من العناء الجاثم على صدر الشاعرة القلقة الحائرة وهي تفزع الى القلم تبثّه شكواها وإلى الورق تهديه نجواها، تزرع الحرف بذر مواسمها، وتظل العبارة تئنّ وتشكو، لأنّ الوجع جسيم.. نصّ قصير مكتنز مكثّف، أربع وعشرون لفظة مختصرة تغنينا عن الشرح والتفصيل، وتكفينا مشقّة التفسير والتأويل، وبين الأفعال والأسماء يُتداوَل القول صريحا فصيحا ليختزل حجم المأساة الضاربة في الأعماق، ضحيتها الجسم والروح معا
الأفـــعـــال: يحاصرني/ يبتلعني/ تاهت/ تجمّدت/ تلسعني/ يصارع/ يزداد (ألما)/ يحترق: تمثّل هذه الأفعال أسبابا ومؤثّرات يقوم فيها ضمير المتكلّم مفعولا به يتحمّل وقعها السلبي
الأسماء: الفراغ/ الغربة /خطواتي/ الروح/ الحلق/ الشهقات/ قلب/ سكرات الموت/ ألم/ شفاه الغربة.
مجالات التأثّر ومواقع الألم وبين الفعل والمفعول به علاقة تأثّر وتأثير شديدة البأس عميقة الوقع ستنسحب على باقي النصوص _ أغلبها_ فإذا ما تكتبه الشاعرة خلاصة الألم والإحساس بالألم يسربله حزن مكين.

في قراءة سريعة لهذا النصّ الذي اختارته الشاعرة فاتحة الكتاب، نستطيع دونما عناء أن نكتشف عمق المأساة وشدّة وطأة الألم النافذ المتمكّن من الجسم والروح... كل الأفعال، بلا استثناء، تفضي الى مناخات الخوف والحيرة وتحيل على مدارات الرعب لدى امرأة حزينة محاصرة بالفراغ، تبتلعها الغربة والشعور بالاغتراب، تائهة الخطوات، تجمّدت روحها، تلسعها الزفرات وقلبها يصارع شهقات الموت في صدرها، والجرح يزداد ألما، وربيع العمر على شفاه الغربة يحترقّ. وليس من باب الصدفة ان تكون كلمة الغربة هي العبارة الوحيدة التي تكرّرها الشاعرة مرتين في هذا النصّ على قصره، فالغربة والاغتراب أصل البلية ومفتاح الألم، ناهيك أن هذه العبارت ومشتقاتها الغربة/ غربتي/ غريبة، في مختلف النصوص قد تكرّرت إحدى عشر مرّة قولا بالتصريح عدا التلميح، وبَوْحا بالعبارة عدا الإشارة. فالغربة والشعور بالاغتراب هما أصل المأساة وسبب كل هذا الألم الطاعن في الأعماق، ما حدا بالشاعرة إلى انتهاج هذا الأسلوب الحزين في الكتابة، فانبرت تمتح لغتها من معجم ذي مرجعية رومنسية مغرقة في اليأس ضاعنة في القتامة..
في هذا المناخ المجلّل بالحزن المكلّل بالكآبة سامرنا نصوص "الهوس" فألفيناها على إخلاص لمثاباتها الشعرية، وبلوعة حارقة تقول الشاعرة: ص 21) وحدة قاتلة، إحساس رهيب، لوعة بالاحشاء)... (ها أنا ذا وحيدة شريدة اتسكّع بين وحدتي وهذا العالم الغريب ...).. لغة موجعة يغلب عليها اليأس والألم ويتوشّحها القول شعرا مسربلا بالقنوط، فإذا النص أقرب الى الرثاء الذاتي (اعترافات أنثى متعبة/ ص 31 نموذجا).

في هذا النص اعتراف صريح بوطأة الزمن في مراحله الثلاث ماضيا وحاضرا ومستقبلا.. تقول الــشــاعــرة: متعبة أنا.. متعبة من الأيام متعبة منّي ومن نفسي من صبحي من غدي.. متعبة أنا من أنيني ومن حنيني.. متعبة أنا من الماضي والحاضر وممّا سيأتيني... هذا بعض بَـوْح لامرأة مكسورة، محبطة، وللزمن على صفحة قلبها بصمات وكدمات، وفي غياب الأهل والوطن الحبيب مواجع بالجملة رانت على قلب مرهف حسّاس، قلب امرأة تتلوّع فتحاول أن تترجم لوعتها إلى شعر لعلّها تفضفض فترتاح، ولكنها لا ترتاح. ومن أين لها أن ترتاح وهي تشتَـمّ رائحة شواء داخلي فاح قتاره، وهي ترى سنين العمر تسّـاقـط الواحدة تلو الأخرى كحبات مسبحة في يد كاهن عجوز، فتفزع الى الشعر تلوذ به مذعورة من مرور الزمن السريع وتقدّم العمر، وتعوذ به من ألام الأيام وانفراط الأعوام، ولكن الشعر هو أيضا متعب لأنّ الشاعر يحترق داخل قصائده ألف مرّة وفي داخله تقوم أعاصير "تسونامي" عنيف وتنفجر براكين وهو يقدّ القصيدة من ذاته قبل أن يخرجها إلى الناس في أحسن تقويم، فويل للشعراء من زلازل الشعر تدك ّجبال الصمود، ولكن لا بدّ لهم من الإفراج عن صراخهم المكبوت، وإلّا انفجروا وتلاشوا شظايا، فويل للشعراء من رقة إحساسهم _ وويل للشعراء من شعرهم وشعورهم..

واخيرا، ألا يحقّ لنا أمن نتساءل: لماذا الشعر؟! في زمن القحط العاطفي والتصحّر الوجداني يبقى الشعر غيثا يجود القلوب فيُلَـيّن عريكتها ويبعث فينا روح الفضيلة والحب والخير ويكرّس إنسانية الإنسان في زمن دخلت فيه البشرية في دوّامة تكنولوجيا عاصفة ووقعت ضحية غزو حضارة كذوب سلبت الإنسان إنسانيته وشيّأت العالم فتكلّست العواطف ومات فينا كل شعور بالجمال، فما أحوجما اليوم إلى الشعر بلسما يضمّد كرامتنا المطعون..

عـلـى سـبـيـل الخـــاتـمـة

ديوان «هوس الزمن الضائع» صرخة امرأة مطعونة لجأت إلى الشعر مهربا واستعارت منه إبرة وخيطا لترتق ما أحدثه الزمن من خروق في نفسها، وإن بعض الجراح لعميق، وقد يتّسع الخرق على الراتق، فلا لوم إذنْ إن هي بكت واستبكت، وصرخت واستغاثت، فلا يعلم ألم الجرح إلّا من يكابده، ولا يعرف الداء إلّا من به ألم..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى