الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٤
بقلم تركي بني خالد

تخصيب الذكاء

تتسابق الدول في هذا الزمان- حتى الفقيرة منها- في مجال تخصيب اليورانيوم من أجل المساهمة في جعل العالم أقل أمناً، ومن أجل قتل أحلام الأطفال بعالم يعيش في سلام، ومن أجل التهديد بالدمار الشامل، وربما من أجل أن تنتحر البشرية مرة واحدة بعد أن تمتد يد عابثة إلى الزر الأحمر، فترسل الناس إلى الهلاك المؤكد.

أيّ سيناريو أبشع من هذا الذي يصور فناء العالم بأسلحة بناها الإنسان و بمواد كيميائية وفيزيائية وبيولوجية اكتشفها عقل الإنسان ليدمر نفسه؟ أي جاهلٍ هذا الإنسان الذي يتحول إلى عدو ذاته؟ أيّ فائدة تجنيها الشعوب من تخصيب اليورانيوم؟ ألم يجدوا شيئاً أحق بالتخصيب من اليورانيوم؟ أليس الأولى أن تتجه الأنظار و توجه الجهود نحو تخصيب العقل البشري، تخصيب الذكاء، وتخصيب الإبداع الإيجابي البنّاء لدى بني البشر؟

يقولون إننا نعيش الآن في عصر الآلات الذكية، عصر الغرف الدراسية الذكية، و عصر الأدوات المنزلية الذكية. حتى القنابل أصبحت هي الأخرى ذكية. كل الأشياء تحولت إلى ذكاء خالص، لكن الإنسان وحده يبقى الأغبى والأكثر جهلاً بين كل الأشياء! هل أصبحت الأدوات أذكى من البشر الذين صنعوها في المقام الأول؟ وتصبح الحواسيب وعلومها المواضيع المفضلة من حيث دراستها في المدارس و الجامعات، فغدا الاهتمام بتطوير قدرات الآلات بدلاً من الاهتمام بذكاء الإنسان البشري نفسه وأصبح الذكاء الاصطناعي أكثر جاذبية من الذكاء الرباني الذي منحه الله لمخلوقاته.

أصبحنا نهتم بالبرامج و تطويرها على حساب تطوير المعرفة البشرية نفسها وأصبحت التكنولوجيا معبودة الجماهير بدلاً من أن تكون خادمتهم المطيعة. أصبحت الأدوات-وليس البشر- هي التي تصنع الموسيقى للأطفال، بديلاً عن غناء الأمهات لأطفالهن، فالغناء البشري لم يعد ذا قيمة، فكل شيء بات رقمياً!!

و ربما ستقوم الحواسيب و الروبوتات بدور جليسة الأطفال في مقبل الأيام، فلا حاجة- حسب ظن بعض الجهلة- إلى جليسات الأطفال ما دامت هناك التكنولوجيا، محبوبة الجماهير. وستقوم الحواسيب بتعليمنا القراءة والكتابة عوضا عن الأستاذ- ذلك الشخص "الممل"- أو هكذا يحلو تصوير دور المعلمين والمعلمات من أجل استبدالهم بأدوات تدّعي الذكاء في حين يتراجع الذكاء البشري و تساهم التكنولوجيا في تدريبنا على الكسل والبلادة.

في زمان البزنس وسطوة التجار، صار التسويق شيئاً مهماً، وأصبح الإعلان التجاري سيد الشاشة بلا منازع.

ألم يفكر أجد من هؤلاء البشر الأغبياء بتسويق أو تطوير الذكاء الطبيعي؟ أليس الذكاء الآلي هو صورة مشوهة لذكاء البشر الذي هو منحة الله لخلقه؟ ألا يمكن لهؤلاء العباقرة في مجال الحواسيب وحلفائهم التجار و رواد الدعاية و الإعلان أن يفكروا في ذكاء لا إضافات صناعية فيه ولا محسنات؟

لماذا يتقزم البشر في إنسانيتهم ويتراجع عقلهم وضميرهم وتواصلهم الطبيعي، في حين تتقدم الآلة وتصبح كل أنواع الذكاء صناعية؟ ألا يمكن أن يكون العقل البشري أكثر ذكاءً؟ أو على الأقل بدرجة ذكاء الحواسيب نفسها؟

ألا يمكن إنفاق بعض المال في دعم الأبحاث التي تهدف إلى تحسين سلوك الإنسان ودراسة ذكاء الإنسان الذي يوجه سلوكه؟ ألا يمكن وقف تردي العقل البشري نحو الهاوية؟ أليس إنسان العصر الحاضر بأغبى المخلوقات، يصنع الأشياء التي تدمره ويعبث كالأطفال فيحرق نفسه بنفس الأشياء التي يدعي أنه بناها. يصرف الملايين على أسلحة الدمار وتخصيب اليورانيوم على حساب قوت شعبه ودواء أطفاله ثم ببساطة يعلن استعداده لتدمير ما بناه وعلى نفقته هو، أي غباءٍ أكثر من هذا وأي عبثٍ!!

الحاسوب لا يستطيع إلا أن يحسب، ولا يمكن له أن يفكر فمن أين له هذا الذكاء؟ يقوم الحاسوب بتصحيح الامتحانات لكنه لا يتعامل إلا مع نوعٍ واحدٍ من الأسئلة وهي الاختيار من متعدد، هل هذا ذكاء؟ ألا يدمر هذا في الطلبة القدرة غلى الكتابة والإبداع؟ ألا يشجع هذا على التخمين؟
صحيح أن الحاسوب يقوم بتصحيح أخطائنا الإملائية حين نكتب ويعطينا أحياناً إرشادات أو تحذيرات حول قواعد اللغة، لكن أليس في هذا تعويد للطلبة على الكسل وفقدان القدرة على تذكر شكل الكلمة؟ ألم يفقد الكثير منا قدرته حتى في جدول الضرب؟ بسبب وجود الحاسبة بجانبه؟ لا يمكن للحاسوب أن يفرح، أو يحب و يكره، أو يتألم و لا حتى أن يفكر في العواقب. إنه يوفر لنا المعلومات لكن ببلاهة، لا يقدر الأتيكيت ولا يعرف آداب المجاملة!

يا إلهي!! ماذا يمكن أن يحدث لو أنّ الله خلقنا بعقول آلية أو ذكاءات صناعية؟ كم سيكون العالم غبياً عندئذٍ؟ وها هو العالم يتجه بسرعة نحو استبدال ذكائه الطبيعي بذكاءٍ من صنع آلي.

يتسابقون الآن في مجال إدماج الحاسوب في كل شيء ولا وظيفة جاهزة إلاّ لأولئك الذين يفهمون في "الهارد وير" و"السوفت وير".. أولئك العباقرة، الذين يلبسون نظارات سميكة ويجلسون الساعات الطوال وراء ذلك الصندوق الغبي الذي يسمونه كمبيوتر. عجزوا عن تطوير عقولهم، فاستبدلوها بحواسيب.

هل تستطيع الحواسيب حقاً التفكير؟ وهل يأمل "العلماء" فعلاً باستبدال البشر بجيل من الروبوتات تقوم بدورهم في أداء الأشياء؟ أم أنهم يريدونها لمساعدتنا على التفكير و لتسهيل الأمور علينا؟ هل يمكن أن يتصرف البشر كالبشر؟ و هل يمكن أن يعود الناس إلى إنسانيتهم؟ وهل يجعلون الآلة عبداً لهم بدلا من أن يعبدوها هم؟

ألا يمكن تحويل مسار الإنفاق المالي والبشري نحو الإنسان نفسه، نحو عقله، ونفسيته، وسلوكه، بدل توجيه الموارد البشرية نحو الآلة؟

تزداد الآلات تعقيداً و تطوراً، وتتطور وسائل الاتصال والمواصلات، وتتخلف وتتراجع وسائل التواصل بين البشر، مكالمات لكن دون عواطف، وسفر ميسر لكن لأغراض غير إنسانية، لمزيد من جمع المال، ولمزيد من التدمير والتأخر. ما قيمة الذكاء في الأدوات إن فقد الإنسان أعز ما يملك- ذكاءه عقله وأحاسيسه ومشاعر الإنسان في داخله؟

أين ذكاء البشر؟ أين الوظائف التي تتطلب حساً بشرياً و عقلاً بشرياً؟ لا توجد وظيفة هذه الأيام لمن لا يجيدون الغباء. التجار يملكون المال و ليس لديهم حاجة إلا لموظفين يخدمون أغراضهم الربحية المادية من خلال الاعتماد على التكنولوجيا. لا يهمهم القذف بأرباب الأسر إلى شارع البطالة، ولا يهمهم ماذا يحدث لكيان المجتمع ما دامت هناك حواسيب تجمع وتطرح وتضرب وتقسم.

هل سيأتي اليوم الذي تحل فيه الأدوات مكان الناس الذين يفترض أنهم سيستخدمونها؟ هل سيختفي المعلمون بكل أحاسيسهم وتشجيعهم مقابل غرف صف ذكية وحواسيب تبتسم من خلال أيقونات بلهاء؟ هل ستقوم الحواسيب بطرح النكتة واستخدام المرح في التعامل مع التلاميذ؟ أي تعليم هذا الذي سيحدث في المستقبل القريب؟

أي منزلٍ ذكي هذا الذي سيكون لدينا في مقبل الأيام؟ هل سيقدم لنا الروبوت فنجاناً من شاي الصباح؟ وكيف نستبدل ابتسامات الأشخاص الجميلين من حولنا؟ أصبح لدينا أدوات ذكية لكن لأناسِ أغبياء. غرف صفية ذكية، لكن أين التلاميذ والمعلمون الأذكياء؟ أين التعامل الذكي؟ أين الحياة الاجتماعية التي نتوق إليها؟وكيف سيكون عشق المستقبل القريب؟ هل سيتحول الشعراء والكتاب إلى الحواسيب من أجل أن تكون مصدراً لإلهامهم؟ أم هل سنطلب من الحواسيب أن تنظم لنا شعراًَ حين نشتاق لمن نحب؟ أين ريشة الرسام، وأين خيال الكاتب؟ هل سنترك ذلك كله للحواسيب؟؟

إذا كنا ولدنا كائناتٍ بشرية فلماذا لا نعيش كبشر ولماذا يتصرف البشر بطرقِ أسوأ من تلك التي عند الحيوانات. أين ذكاؤنا البشري؟ حتى الحيوانات، لا تقتل إلا إذا شعرت بالتهديد وفي حالة الدفاع عن نفسها، ولا تقتل بشكلِ جماعي، وليس لديها وسائل إبادة شاملة، لكن البشر يمارسون القتل والشر من أجل المتعة. من أجل المكابرة. ومن أجل الشعور بالسيطرة. حين أوكلنا وظيفة التفكير للآلات، أصبحنا كالآلات أو أكثر سوءاً.

أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم!


مشاركة منتدى

  • نعم ايها الانسان الفاضل انا أوافقك بالرأي

  • الاخ الكريم د. تركي
    شكرا لك على هذا المقال الجميل, وكما ذكرت في مقالك ليتهم يخصبون الذكاء الادمي بدلا من تخصيب ذلك اليورانيوم اللعين ولكن من يخصبه هم اصحاب العقول الذكية اللذين استخدموا ذكائهم في دمار الانسان ليت شعري لو يفهمون .

  • أستاذي الفاضل د. تركي بني خالد
    شكرا لك على موضوعك الدسم"تخصيب الذكاء". ان ما طرحته هو ما تعاني منه البشرية برمتها . لقد نسي اؤلئك الأذكياء عقول البشر والتفتوا الى تطوير ما اسميته انت" بالالة الغبية" والى البحث عن تقنية فناء البشرية واصبح التقدم يقاس بمدى القدرة على الخراب والدمار . اوافقكك الرأي واشهد بغباء تلك الآلات التي لا حول لها ولا قوة اذا لم يشغل مستخدمها ذكاءه فهي فعلا كما وصفتها انت بانها " بلهاء" ولكنهم فضلوها على الانسان اللذي صنعها واهتموا بها ونسوا ذلك المخلوق اللذي يستخدمها ويحاولون استخدامها في تدميره كما ذكرت في مقالتك . اكرر شكري لك لاننا بحاجة ماسة الى مقالات تختص ببني البشر وتحاول الاهتمام بهمومهم واسباب سعادتهم . بوركت يمناك وبورك قلمك والى الامام دائما .

  • الاخ الفاضل حمد الصاحب :
    تحية طيبة وبعد
    لقد لفت نظري مقالة بعنوان (تخصيب الذكاء) في جريدة" اخبار العرب وفوجئت باسم الكاتب في اسفل المقالة" حمد الصاحب" وقلت سبحان الله يا لها من صدفة عجيبة لاني كنت قد قرأت مقالة تحمل نفس العنوان في" مجلة ديوان العرب" الالكترونية . هكذا بدا لي في البداية ولكن عندما قرأت النص وجدته رد وتعليق على مقالة الدكتور : تركي بني خالد( تخصيب الذكاء) . وأحب ان اشكر" الاخ حمد" على تعقيبه الجميل والبناء على ذلك المقال ولكني اعتقد اخطأ بعض الشيء دون قصد حيث يلاحظ انه سرد مقالة د.تركي بحذافيرها تقريبا واللذي لم يقرأ مقالة د. تركي يعتقد ان تلك المقالة للأخ حمد لأنه لا يوجد اشارة واضحة تدل على صاحب المقالة بوضوح ولا يمزها سوى من قرأ المقالة الأصلية .مع ان الأخ حمد بدأها بعبارة (يقول المقال: )
    ارجو يا أخ حمد ان لا تاخذ كلامي على انه نقد انه مجرد تنويه فقط .

  • الذكاء من أهم النعم الموهوبة للإنسان و أنا في مقالي هذا أريد أوضح شيئا ما

    الذكي الحقيقي يستعمل ذكائه لا إراديا دون أن يدري و يبدو ذكائه من بنيته الجسمية حيث أنه يبدو مستعدا للمهمة و لتحمل المسؤلية و هناك بعض من الناس مع احترامي لهم يظنون أنفسهم أذكياء و يظهر ذلك من ارتباكهم لبعض الغبوات حيث لما تطرح عليهم أسئلة يفكرون بعض الشيء ثم يجيبون مباشرة دون أن يفكروا في احتمال خطأ إجابتهم بينما الأذكياء الحقيقيون يحدث كل هذا لديهم لا إراديا .

  • إن الشعوب العربية تتخبط لا تدري ماذا تفعل أو ماذا تقول نراهم ليس همهم إلا الكرسي الذي هم عليه فالشعب فليفنى ولتحرقه أمريكا فهذا لا يهم فهم يستعملون الأموال في العربدة ومعاشرة الجواري وصدق نزار حين قال هذه البلاد يحميها سبع إسمه عنتر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى