الأربعاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

تعدد الأصوات في رواية «وجع لا بد منه» لعبد الله تايه

تمهيد:

صدر للكاتب الفلسطيني عبدالله تاية روايةٌ جديدة بعنوان: (وجع لا بد منه)، عن دار الكلمة للنشر في غزة، ط أولى، ٢٠٢٢ م، وتقع في( ٢٧٦) صفحة من القطع المتوسط، وتتوزع على اثنين وعشرين قسماً، مرقمة بأرقام حسابية، وهى رواية متعددة الأصوات، سلط الكاتب من خلالها الضوء على الوجع الإنساني المتعدد، فكل راوٍ من هؤلاء الرواة يروي الأحداث من منظوره، ووجهة نظره بضمير المتكلم. حاول الكاتب عبد الله تاية أن يفيد من التحولات والتطورات التي طرأت على البناء الفني للرواية العربية الحداثية في الرؤية والأداة؛ ليطور من أعماله الروائية؛ وليأتي بعمل جديد تعكس صورة الإنسان وفق معايير فنية وجمالية يلمس المتلقي من خلالها إبداع الكاتب.

والقارئ للرواية يستطيع أن يلحظ أن الكاتب قد تجاوز الرواية التقليدية ذات الصوت الأحادي إلى الرواية ذات الأصوات المتعددة، إذ عمد إلى تقنية بناءٍ حديثة قائمة على تقنية تعدد الرواة/ الأصوات بدلاً من تقنية الاتكاء على تقنية الراوي أحادي الصوت في روايته.

تعد تقنية تعدد الرواة علامة حداثية تنتسب إلى الرواية الجديدة، ذلك أن الروائيين قد وظفوا تقنيات عديدة لخوض هذه التجربة، فتخرج على المتلقين أصواتُ رواتِهم متشابكة متداخلة، فهذا الراوي المتخفي وراء ظلال رواته، فذاك راوٍ أول، وذاك راوٍ ثان، وذاك صوت شاهد، أو مخطوط أو رسالة، فظهرت الرواية الجديدة عبارة عن لقاء أصوات متعددة، تتناوب الحكي، وتتجاذب أطراف الحديث (أسلوبية الرواية، مدخل نظري، حميد لحمداني، دار سال، الدار البيضاء، ط1، 1989م، ص7).

تدور الرواية حول ثيمة أساسية هي تصوير أوجاع الفلسطينيين ومعاناتهم في أثناء عودتهم من السفر من القاهرة إلى مدينتهم غزة التي لا تعرف الخوف، والتي لم يخلق مثلها في البلاد، من خلال الغوص في دواخلهم النفسية والذاتية ورحلتهم مع السفر ومشاقه وتحدياته.

يُلقي الكاتب عبد الله تايه الضوء على روايته وسبب تسميتها بــ "وجع لابد منه" بقوله إنها ترصد وجع الفلسطيني المتعدد : من التشتت في البلاد العربية والأجنبية منذ النكبة، حيث وجع الفلسطيني في السفر الذي هو بالنسبة للآخرين نزهة، وبالنسبة للفلسطينيين رحلة عذاب، ووجع تردي الوضع الصحي في فلسطين الذي يضطر الفلسطينيون للسفر من أجل العلاج، ومن ثم طريق العودة إلى غزة المحفوفة بالألم والوجع،) نلتقي لنرتقي، ٠١‏/٠٦‏/٢٠٢٢م( https://ol.om .

ستتناول هذه المقاربة ثلاثة أبعاد: الأول: دراسة تعدد أصوات الشخصيات الروائية، والثاني التعدد اللغوي، والأخير: التقنيات الأسلوبية الأخرى.

البعد الأول: تعدد الشخصيات وتعدد الأصوات.

تتحدث الرواية عن الوجع الفلسطيني بمختلف أنماطه، وتتوزع الشخصيات المحورية في الرواية على سبع شخصيات فلسطينية غزية: ثلاث سيدات، وأربعة رجال يجتمعون في سيارةٍ ذات سبعة الأبواب على رحلة العودة، قدم الروائي شخصياته من خلال تعدد الأصوات، بصيغة ضمير المتكلم، وتسمى أصواتاً، وهذه الأصوات (الرواة) هي : سبعة أصوات في الرواية، وهي تتكرر غير مرة، وتبرز العلاقات الإنسانية بين الشخصيات بعضها ببعض، ويمكن رصد أهم شخصيات الرواية بتتبع مصائرها وتعبيرها عن ذاتها من منطلق فكري واجتماعي وسياسي يحمل كل منها ملامح وأبعاداً يُذكر منها:

1 - سليم حميدوش: وهو أول من يسرد حكايته التي تبدأ ببيان اضطراره للسفر بحثاً عن علاج لساقه التي أصيب بها خلال مشاركته في "مسيرات العودة وكسر الحصار" على حدود غزة الشرقية.

٢ - الحاج علي الغمري : ظل الحاج علي الغمري لسنوات طويلة في غزة، ولم يغادرها في سفر، إلى أن كتب الله له رحلة للديار الحجازية المقدسة؛ لأداء العمرة، ولقاء نجله عبد الحافظ الذي يعمل مهندساً، ولم يره منذ فترة طويلة، وكان يجلس في المقعد الأمامي المجاور للسائق المصري حمادة الشوربجي.

٣ - فادي المظلوم : أحد آلاف الشباب في غزة الذين خاضوا غمار تجربة الهجرة، هرباً من الفقر والبطالة وانعدام فرص العمل، وفي الوقت الذي نجح البعض منهم، فإن آخرين اضطروا للعودة إلى غزة.

٤ - الشاب إبراهيم الوالي: عائد إلى غزة ليكمل حياته فيها، أما النساء فهن ثلاثةُ:

١ - عزيزة النادي: معلمة مصابة بالسرطان كانت تتلقى العلاج في مصر.

2 - فوزية سلمان: وهي تقصد غزة لزيارة أهلها في مخيم جباليا للاجئين بعد انقطاع لسنوات إثر زواجها بابن عمها في مخيم جرش بالأردن، انقادت لعاطفتها بعد حديث والدها: " حاولي أن تأتي لزيارتنا يا ابنتي، أمك مريضة" (الرواية : 110).

٣- مريم أبو الحسب: ولحكايتها تفاصيل كثيرة ومتشعبة، أفرد لها الكاتب مساحة واسعة في الرواية، لارتباطها بذكرى أليمة.. فغربتها ترتبط بهزيمة حزيران 1967م، التي يُطلق عليها العرب "النكسة"، لحقت مريم بزوجها محمد المجند آنذاك في "جيش التحرير الفلسطيني" بعمان، والذي هرب من غزة إلى مصر، بعد اشتداد الملاحقة الإسرائيلية للفدائيين الفلسطينيين، وقد قررت العودة لغزة لتقيم بها.

وهكذا يتبين أن تعدد الرواة /الأصوات في الرواية يعني أن كل راوٍ من هؤلاء الرواة يروى الأحداث من منظوره بضمير المتكلم، ومن موقعه الزماني والمكاني، فتتداخل الأزمنة، ويتشكل زمن روائي مختلف عن الزمن الخطي الطبيعي.

الراوي العليم:

على الرغم من أن الكاتب قد منح كل شخصية الحرية التامة للبوح عما يمور في داخلها من مشاعر وأفكار، إذ تعددت أصواتها وشخصياتها وأيديولوجيتها الفكرية، فإن المتأمل في بنية الرواية يكتشف أنها لا تتكأ على الراوي العليم الذي يقوم بالإخبار عن الوقائع والأفعال الحادثة على رقعة القص اتكاءً كلياً، لكنّ هذا الراوي - أحياناً - يتجلى في الرواية بوضوح، فيعرِّف بالشخصيات، ويكشف عن تصرفاتها، فيسرد بجلاء بعض أحداث الرواية معلقاً وواصفاً، يقول على سبيل المثال، واصفاً حال شخصية الراكب فادي المظلوم، وتعلقة بالفتاة العائدة معه من السفر، يقول الراوي العليم:

"... وقف فادي في الطابور، الجميلة تنظر إلى الواقفين أمامها، ثم حانت منها نظرة إلى الطابور خلفها، اصطدمت عيناها بعيني فادي المظلوم الذي ابتسم ورفع يده بالتحية وكانه يحجب عن وجهه شعاع الشمس. تمتم في نفسه "وجدتها.. وجدتها".. الآن يهون تعب السفر، في الصالة الداخلية سأعرف اسمها ومكان سكنها"، لاحظتْ تحيتَه فرفعت يدها إلى شعرها تمسده في رد خجول على تحيته، نظرت إليه، وقد ارتسمت على ملامحها ابتسامة جميلة(الرواية: ٢٦٧ ).

فالقارئ يدرك أن الذي يتحدث هنا ليس أحد شخوص الرواية، وإنما هو الراوي العليم الذي يرصد تصرفات شخصيتي فادي والفتاة معاً.

وفي مقطع آخر يتجلى الراوي العليم حين يقوم بالتعريف بشخصية إبراهيم الوالي إحدى شخصيات الرواية، فيقول:

"إبراهيم الوالي هو الوحيد الذي أتی إلی هذه الطريق قبل شهور، ويعرف التفاصيل، لكنه آثر الصمت، وقال لنفسه: "لو تكلمتُ لن يُصدّق الركاب كلامي، فليجربوا بأنفسهم، لا أريد أنْ أزعجهم بتفاصيل كثيرة لا تَسر"(الرواية ١٦٠).

يتبين مما سبق أن الراوي العليم يُعرّف بالشخصية، ويَعرف كل شيء عن الشخصية التي يصفها ، فهو عالم بكل الأحداث ملم بنفسية الشخصيات، خبير بما يجري في ضمائرهم، كأنه يعلم عن شخصيات الرواية أكثر مما تعلم هي عن نفسها.(ينظر: إبراهيم جنداري، الفضاء الروائي في أدب جبرا إبراهيم جبرا دار تموز، دمشق، ۲۰۰۸م: ٨٤) .

https://maktbah.net ).

ويبدو الإيقاع السردي في هذه الرواية متنقلاً بين الأصوات المتعددة، والراوي العليم، معتمداً - إلى حدٍ كبير- على الإيجاز؛ بوصفه وسيلة تؤدي إلى تغيير مسار الأحداث في العملية السردية، وهو سبيل إلى إحداث نقلة أساسية في زمن السرد تدفع بالأحداث إلى الأمام (ينظر : فالح عبدالسلام، الحوار القصصي، ۱۹۹۹م:۹۱).

وهذا التداخل بين الأصوات والراوي خلال الرواية لم يكن محض مصادفة، بل يبدو أنه متعمد من قبل المؤلف؛ لشد انتباه المتلقي لما يجرى في الرواية، والكشف عن معالم إحدى شخصيات الرواية؛ اظهاراً لقدرته الإبداعية في صياغة عالمه.

وفي أحايين أخرى يتخفى الراوي وراء رواة آخرين، فيتخلى عن عدسته المحايدة، فيصبح صوتاً داخلياً للرواة، يهجس ويهمس، ويعلن ما يمور داخلها من رؤى وانفعالات، ومحاولاً تفسير ما يحيط به من أحداث وسلوكيات صادمة، كما أن الراوي يتسلل عند مفاصل معينة، فيتحدث بصوت الراوي العليم الذي يتجلى بما يمتلكه من معلومات واسعة، وثقافة المتنوعة، فيأخذ دور الموثق والمحلل للظواهر؛ ذلك أنه يتخفى بحذر وعناية واقتدار في ظل الشخصية؛ لتسريب ما تود البوح به من أفكار ورؤى وأحاسيس. وهذه إضافة نوعية للمؤلف بحيث يشعر المتلقي بأنه يمثل صوتاً من أصوات الرواية.

من ينعم النظر في الرواية، يهتدي إلى أنها رواية واقعية بامتياز، وأن الكاتب عرض لشخصيات حقيقية، يكاد القارئ يراها بين ظهرانيه، ويلمس أفراحها وأحزانها، وفوقها للقاء الأحبة والأبناء والأهل، وأنه اجتاز فضاءات متعددة ومفتوحة من الشخصيات في آن واحد. وأن المتصفح الفصيح، يكتشف أن ملامح الشخصيات وأبعادها وسماتها وظروف سفرها تكاد تكون متشابهة ومتخالفة في آن معاً، إذ بنى الكاتب أبعاد شخصياته ومعالمها على ثنائية التشابه والاختلاف.

فثمة تآلف وتشابه في الزمن، إذ استمرت الرحلة يومين كاملين من مشقة السفر وعذاباته والمعاناة والأوجاع، فالزمن يستغرق حقبة زمنية محدودة، ولكنها خصبة بالأحداث، ومتشعّبة، أما المكان، فواحد، وهو قلب السيارة التي تجمع المسافرين السبعة، وإن تولدت عن هذا المكان في السرد أمكنة أخرى؛ لتدل على حياة التشتت والغربة التي يعانيها الفلسطينيون، ولكن مقصدهم العودة إلى مدينتهم غزة، وهم جميعهم يتحدثون عن كل أنواع المعاناة في الداخل وفي الشتات، وبعضهم كان الحافز إلى مغادرته غزة هو طلبَ العلاج في مصر لفقدانه في غزة، وصعوبة توافره؛ بسبب الحصار المرير والفقر المدقع، ونقص الإمكانات، وقد قدم الكاتب وصفاً دقيقاً ومفصلاً للشخصية الواحدة، وعلى الرغم من العذابات والأوجاع والمعاناة التي يقاسها الفلسطينيون، فإنهم يصرون على العودة.

والحق أن كل مشهد يرويه أحد الرواة هو في حدّ ذاته مشهد مكتمل الأجزاء والعناصر والأركان، وكأن الكاتب يبني قصة قصيرة بعناصرها الفنية المكتملة، ولكنها تتشابه في الوقت ذاته مع سائر المشاهد في تجسيد أوجاع الإنسان الفلسطيني.

أما ملامح الاختلاف بين الشخصيات، فهي متعددة، فالمسافرونذ قد جاءوا من أماكن مختلفة، وثمة اختلاف آخر يتمثل في تباين مستوى العمر، فأعمارهم مختلفة، شباب وشيوخ، وثمة اختلاف في نوعهم الاجتماعي ما بين ذكور وإناث، وكانت قضاياهم وأوجاعهم الخاصة مختلفة.

هذا التشابه وهذا الاختلاف قد عمّق من موضوع الرواية وأثراها، إذ كان الكاتب يدع الشخصية تسرد بحرية تامة وبأسلوب سرديّ منسجم ومتناسق، فيه تفصيلات دقيقة للأحداث والأفعال والدوافع والأسباب التي حفزّتها على العودة إلى غزة عن طريق معبر رفح. وقد شاركت الشخصيات بدرجات متفاوتة في رسم معالم شخصياتهم، وتصوير الأحدث، ودرجة تصعيدها زماناً ومكاناً.

إن نظرة فاحصة للبناء الفني للرواية يهدي إلى القول بأن كل مشهد يرويه صوت من أصوات الشخصيات هو في حد ذاته مشهد مكتمل الأجزاء والعناصر والأركان، وكأن الكاتب يبني قصة قصيرة بعناصرها الفنية المكتملة، ولكنها تتشابه في الوقت ذاته مع سائر المشاهد في وحدة منسجمة لإبراز فكرته الرئيسة وهي تجسيد أوجاع الإنسان الفلسطيني.

بيّن الكاتب أن شخصياته تأخذ طابعاً إنسانياً عاماً، ذلك أنه وضّح أن الجندي المصري الذي يسيِّر حركة السيارات في سيناء يعاني هو الآخر من هذا الوضع الصعب، فقد كان الجنود يظهر على وجوههم التأفف والضجر من طول الوقوف، ومعاناة الحر الشديد والتعب، وربما دفعوا حياتهم ثمناً لذلك.

البعد الثاني: التعدد اللغوي:

حظيت الرواية بالتعدد اللغوي الموازي لتعدد أصوات الرواة/ الشخصيات الذي هو من أهم متطلبات الرواية ذات الأصوات المتعددة التي تحاول في شكلها الفني الجديد إعادة صياغة الواقع، وترتيب أحداثه بما يتلاءَم وتباين معطياته وأنساقه.

يعمل هذا البعد على بيان دور تعدد الأصوات في تحقيق جانب من التعدد اللغوي، مثل: الحوار بنوعيه، والتناص، والتهجين، واللغة الشعرية.

أ - تقنية الحوار:

يمثل الحوار وسيلة رئيسة من وسائل السرد الروائي في رسم الشخصيات، والإبانة عن مستواها الثقافي والفكري والاجتماعي، كذلك يهدف إلى الكشف عن مدى التأثير والتأثر فيما بين أحداث الرواية بشكل سردٍ روائي ينطوي على خصائص فنية عديدة، فقد عرض الروائي أحداث الرواية بشكل تفصيلي دقيق؛ كي يتيح للقارئ معاينة الواقع المعيش في المجتمع الفلسطيني بصورة واضحة تتجاوب مع ما كان عليه الإنسان الفلسطيني في ظل الأوجاع والمعاناة التي نجمت عن الاحتلال المرير، والحصار السافر، والانقسام البغيض.
أبرزت الرواية طابع الحوار من خلال إشراك شخصيات عدّيدة في تقرير الحدث، والكشف عن ملابساته الخفية، إذ يعمد الروائي من خلاله إلى تطوير الخط الدرامي؛ كي يقلل من رتابة السرد، وشدِّ القارئ إلى الرواية حينها. ويدرك القارئ أن قدرة الكاتب وبراعته على اختيار المفردات والعبارات الحوارية في الموضوع الرئيس قد تجلت بشكل واضح في إبراز انسجام تلك العبارات مع المستوى الفكري والاجتماعي والبيئة المحيطة بالشخصيات المتحاورة، وقد انقسم الحوار في الرواية إلى نوعين الحوار الخارجي والحوار الداخلي:

أ - الحوار الخارجي:

وظف الكاتب تقنية الحوار الخارجي الذي يعني محادثة بين شخصين أو أكثر، وقد استخدم وسائل الاتصال من مثل الهاتف المحمول، تقول إحدى الشخصيات في حوار مع ابنتها في غزة:

 أمي متى ستغادرين الفندق؟ اشتقنالك.
 بعد قليل ستأتي العربة التي ستأخذني في طريق العودة، كيف إخوتك وأخواتك؟
 كلهم بخير ينتظرونك على شوق.
 ووالدُكَ؟
- عمل سجلاً تجارياً وحصل على تصريح للعمل في الأرض المحتلة، وينام في عمله، وكل يوم يتصل بنا، يسأل عنك.
 أنا بخير أكملت علاجي، وأخذت الجرعات كاملة، أشعر بتحسنٍ كبير، ولي مراجعة بعد ستة أشهر، الجو بارد، أحس أحياناً بقشعريرة من البرد.
………………..
- بالسلامة يا أمي.
 بالسلامة يا ابني.
– إن شـاء الله المرة الجاية نشـوفك مع الأولاد جاية تتفسحي مش للعلاج.

ربنا كريم يا ابني إن شاء الله. ( الرواية : ١٤ ).

وفي الحوار الخارجي يستخدم الكاتب –أحياناً – تقنية التنقيط، ومن أمثلة ذلك ما جاء من حوار بين فوزية وزوجها، تبدأ فوزية الحوار فتقول:

قلت لزوجي:

 الآن تَحسّنتُ كثيراً، عُدْ إلى البيت واهتم بالأولاد، أنا الآن بخير، سألحق بك بعد أسبوعين، آخـذ الـجـرعة الأخيرة، وأستريح لأيام، وحـين أتمالك قوتي سألحق بك.
 .................
 نظر إليّ غاضباً دون كلمة) الرواية : ١٦ ).

يصف الكاتب مسار الحوار الذي دار بين الزوجة مريضة السرطان وزوجها باستخدام تقنية التنقيط، والتي تحمل دلالات متعددة، منها الدلالة على الانقطاع الزمني التي ينوب عن التعليق السردي، من مثل: " سكتتْ برهة أو ما شابه ذلك، وفي التنقيط دلالة على امتناع الشخصية عن المحاورة، وفيها دلالة على التردد في إكمال الكلام، وهي تشرك المتلقي في إعادة إنتاج المعنى وفهمه.

ومن أمثلة توظيف تقنية التنقيط قول الكاتب على لسان فادي المظلوم:

"...نزلت في هذه الشقة من ثلاثة أيام مع صديق عدنا سوية من إسطنبول، كانت الأخبار غير جيدة، قررت السفر وهو قرر البقاء.

قلت له:

 هذا شأنك، أنا لم يعد لي رغبة بالبقاء بعد الاتصال الأخير مع والدي ووالدتي، أسرتي استعجلتني بالقدوم..
 ...........
صمتْ ولم يعقبْ (الرواية : ٢١).
في هذا المقطع الحواري وظف الكاتب تقنية التنقيط؛ ليعبر عن الرغبة القوية في صمت المحار، وعدم رغبته في استكمال الحوار.

وفي موضع آخر ينقل الكاتب الحوارات التي كانت تدور بين المسافرين بعضهم بعضاً، فيقول عن الحوار الذي بدأه الحاج علي العمري بصوت عال:

 يا باب الله، یا کریم، يا مسهل الأمور.

هتفت الحاجة مريم:

 الفاتحة على نية السفر .

فادي المظلوم متأسفاً:

 عمري ما أعيدها وأسافر، يا ريت ظليت في تركيا ولا أجيت هالمشوار.

عزيزة النادي مستغرقة في الدعاء:

 ربنا يهونها علينا..
سليم حميدوش بندم:
يا ريت رجلي كلها راحت ولا أجيت هالمشوار.

الحاجة مريم:

والله لو رايحين على أمريكا زمان وصلنا.

أما فوزية فقالت مقارنة الحال:
طلع مخيم جرش أحسن مكان في الدنيا.

تمتم السائق حمادة:

وحدُّوا الله، السفر قطعة من العذاب" (الرواية ١٧٩، ١٨٠ ).
يعبر المتحاورون عن أوجاعهم ومعاناتهم في أثناء رحلة العودة إلى غزة عبر سيناء، هذه المعاناة دفعت سليم حميدوش إلى تمني لو بترت ساقه في غزة، ولم يضطر إلى خوض تجربة السفر المريرة.

ب - الحوار الداخلي:

استخدم الكاتب أسلوباً حوارياً يتجسد في الحوار الداخلي للشخص مثل ما جاء في استخدامه لغة الجسد، يقول سليم حميدوش: أحسستُ بالنار تسلخ راحة قدمي، وكدت أسمع نزيف الدم ينطفئ بصوت مسموع تحت بدني، وفجأة رأيته ينظر إلي بعينين مفتوحتين على وسعهما"( الرواية: ١٤)،

وفي موضع آخر يتمتم فادي المظلوم العائد من إسطنبول إلى غزة بعد محاولة هجرة إلى أوروبا لم يكتب لها النجاح.. في حوار داخلي عن معاناة السفر وأوجاعه، فيقول: "الوقت لم يعد له قيمة، هنا لا قيمة للوقت.. "هناك للوقت قيمة.. الوقت هو الحياة، العمر هو ساعات ودقائق" (الرواية: ١١٧).

ويقول في مكان آخر:" لم يكن السفر في السابق بكل هذه المعاناة، لولا ما تشهده سيناء من أحداث أمنية".

كان هذا حديث فادي المظلوم مع نفسه داخل سيارة تتلاصق بداخلها أجساد سبعة ركاب من غزة، وثامنهم السائق حمادة من مدينة العريش في سيناء المصرية، يتمم سليم حميدوش في نفسه من دون تلفظ:

"السفر من القاهرة إلى غزة صار ليلتين قمريتين ونهارين شمسيين، هذا لو سارت الأمور على ما يرام ووصلنا المعبر قبل إغلاقه.. يقول الناس إن هذه المسافة كانت تقطعها العربة قبل الفوضى في سيناء في أربع أو ست ساعات. (الرواية:٢٦١).

وتعبر عزيزة النادي عن وجهة نظرها عن طريق علاج مرضى السرطان في قطاع غزة في انتقاد صريح وواضح: تقول في حديث داخلي...:

"ترى لماذا لا يتوفر هذا العلاج بسهولة في مدينتي، لعنة الله على الحصار، وعلى الانقسام وعلى الجغرافيا التي حاصـرتنا، وعلى الاحتلال الذي خرج من الباب، وعاد من الشباك، عاد بكل قذاراته وقسوته"(الرواية: 15).
وتعبر إحدى الشخصيات في حوار داخلي عن شوفها ولهفتي للعودة إلى الوطن فتقول:

قلت لنفسي: "ها أنا أعود إلى حيث نشأت.. إلى مخيمي مخيم الشاطئ.. وإلى مخيم زوجي في جباليا" (الرواية: ٧٢ ).

ب - اللغة الشعرية:

وظف الكاتب في روايته اللغة التي تقترب من شواطئ الشعر في ألفاظها وتراكيبها وأسلوبها التشخصي الموحي ويقول في أحد مواضع الرواية واصفاً:

"الظلامُ يلف المكان، أشجار طويلة سوداء، عربات سوداء، شارع مظلم، نداءات الباعة ترتفع على الشاي والقهوة والسجائر، نورٌ يفج من أضواء الجامع القريب؛ فتنثال في قلبي سكينة عميقة"(الرواية:44). وفي موضع آخر من الرواية:

"تهبط العربات وراء بعضها البعض في طابور تتقدمهم عربة الجيب العسكرية، الطريق مسفلت واسع، بين کثبان رملية مترامية الأطراف... لا سكان ولا بيوت ولا شجر، بل ربما بلا طير، إلا ذلك الطير العجيب الذي يلف ويدور في الهواء، ثم يُغطس منقاره في ماء القناة، ويفر بجناحين بيضاويْن إلى مرتفع قريب، أو إلى حافة القناة"(الرواية: 184).

إن توظيف اللغة الشاعرية في لغة الرواية تزيدها حيوية وتوتراً، وتضفي على عناصر الرواية بعداً جمالياً مؤثراً، وتجعل العبارات تحمل دلالات موحية بالمعاني والمشاعر.

ومن أمثلة اللغة الشعرية الموحية، يصف الكاتب في لغة راقية موحية شعرية، ترتفع وتسمو عن لغة الركاب، إذ يقول:

"سأجد نفسي في غزة مدينتي التي لم يخلق مثلها في البلاد، سأجدها على حالها، مشبوكة بالأسلاك، يلاعبها موج البحر العاتي، ســـــــاراهـا بوجه فقرها، وأنين أولادها، ودعوات المحرومين في جنباتها، وصراخ باعتها، ومرضاها الذين يطول بهم الحال؛ فتصير القبور نزلهم، يا لهذه المدينة!! إني أحبك رغم كل شيء، وأكرهك رغم كل شـيء، وأعشـق بوزك الذي تهزأ من فعل الحروب. والجوع، والقهر، والزنانات.

وتزداد اللغة الشعرية شفافية وإشراقا عندما يستخدم الألفاظ والتراكيب ذات الدلالات الموحية التي تشي بالمشاعر والأحاسيس، فيقول:

- أنتِ - ما أنتِ إلا مدينة عشقي المؤقتة، وريح فيك سيحملني إلى أحلامي الكبيرة على بعد مسافات قليلة من وثبة عالية لما وراء الأسلاك، أو الموج، أو تلال الســـــوافي، أو حقول التفاح، أو مكب النفايات، أو تلك البيوت التي أصابتها اللعنة، فلا زالت أكوامها المتمرة مائلة للعيان، لم يعمرها أحد، وتنتظر فرج الله. (الرواية :٧).
والواقع إن توظيف هذه اللغة الشعرية الموحية يشعر المتلقي أنّ مثل هذا الأسلوب ذا اللغة الأدبية الرفيعة الموحية الشعرية التصويرية لا يصدر إلا عن المؤلف الراوي، فهو لا يعلن عما فيه جهاراً، ولكنه يتخفى في الظل وراء الشخصية؛ لتسريب ما لم تقله الشخصية، إنه يلقي الضوء على أفكار الشخصيات ونوازعها، وهو يجيد هذه الحيلة الفنية باقتدار ومهارة. ويكتشف القارئ أنّ من أهم وظائف الحوار أنّه يساعد القارئ على معرفة المواصفات التي تحملها الشخصيات في الرواية، (ينظر: صبحية زغرب، جماليات السرد في الخطاب الروائي لغسان كنفاني،ص١٧٥).

ج- التناص:

ومن الأساليب اللغوية التي وظفها الكاتب التناص وقد أضافت هذه الرواية إلى تعدد الأصوات إلى سمة جديدة هي الاستخدام الحاذق للتناص، فاستطاعت من خلاله أن تقدم لنا الحاضر، وهو ينعكس في مرايا الماضي الذى يبدو أكثر تألقاً وجاذبية من هذا الحاضر الكابي البليد الذى زحف حتى على قلب مدينة غزة العتيق، ولم يكتف بأطرافها الهامشية؛ لأن هذه الرواية الجديدة تدور في طريق العودة إلى غزة عبر سيناء

والواقع إن لغة الرواية جاءت غنية وثرية بالتناص الديني والتراثي؛ ذلك أن التناص يساهم في إثراء السرد والكشف عن صياغة مرايا من الماضي المنصرم ينعكس فيها الحاضر، ويكتسب بعده الزمنى والتاريخي. فالنص يستخدم فالنص يستخدم عددا من المتناصات التي استطاع أن يضفرها بحيلة سردية مقنعة فى نسيج السرد الروائي، وأن يجعلها جزءاً من لحمة هذا السرد وسداه ومن أشكال التناص الموظفة في الرواية التناص الديني والتناص الأدبي والتناص الشعبي والتناص الثقافي.

ومن نماذج التناص الديني(القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والأدعية الدينية)؛ استدعاءُ نصوص قرآنية من الكتاب الكريم. يقول الكاتب على لسان إحدى الشخصيات:

"في طريق عودتي إلى مدينتي التي لا تعرف الخوف، والتي لم يخلق مثلها في البلاد"(ص: 5). وهذا النص السردي يتناص مع قوله تعالى عن ديار قوم عاد: " ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَٰادِ (الفجر:٨) .

وإن كان الكاتب قد أعاد ألعبي عن دلالة الآية؛ ليعبر عن مدى حبه لمدينته ، وأنها تسكن في شغاف روحه ومشاعره، إنه يحبها على الرغم مما تعانيه من احتلال وحصار وانعدام دميم ".…يا لهذه المدينة!! إني أحبك رغم كل شيء، وأكرهك رغم كل شـيء، وأعشـــــق بوزك الذي تهرأ من فعل الحروب، والجوع، والقهر، والزنانات" (الرواية : ٧).

ومن التناص القرآني ما ورد في النص السردي "وضاقت الصدور بما رحبت" (الرواية ١٦٩ )، هذا النص السردي قريب من قوله تعالى:

"وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة: 118)، مع محاولة الكاتب استبدال كلمة الصدور وأنفسهم بالأرض، ولكن الجو النفسي يكاد يكون متشابهاً، وهو جو الضيق والقلق والتعب الذي هو في حاجة ماسة إلى العناية الإلهية والصبر والسلوان والأناة ، بعد أن ضاقت الصدور بما رحبت.
ومن التناص القرآني قول الحاج على الغمري معلقاً على حالة السفر والمتسبب في مشقته وتعبه: "إن ربك لبالمرصاد" (الرواية:٢٣٥ ).

هذا النص السردي مأخوذ من قوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (الفجر: 14)، وهو تناص يتماهى مع الواقع والحال الذي يعبر عنه المسافر، ويبين أن أمله في الله كبير في الانتقام من أولئك الذين تسببوا في هذا التعب، وتلك المشقة للمسافرين، فالله بالمرصاد لعباده يتوعد الجبابرة، ويدق الظلمة بإنكارهم، ويقمع أهل الأهواء والبدع باحتجاجهم!

أما الدعاء الديني "سبحان مالك الملك... اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا * ثُمَّ اسْتَوَىٰ على العرش"، فإنه مأخوذ من دعاء حديث شريف الذي يقول فيه: "سبحان مالك الملك والملكوت.. سبحان رب العزة والجبروت.. سبحان الحي الذي لا يموت" (إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ٣ / ٥٢

http://shiaonlinelibrary.com ).

ويتردد في نصوص الرواية السردية أدعية دينية، منها:" يا صاحب الوقت ارحم من لا يملك الوقت، يا صاحب الأمر ارحم من ليس بيديه الأمر، يا رب الناس ارحم الناس، هدهدهم بعنايتك صبّرهم بترياق صبرك، ولطفك، وارفع عنهم بسلطانك حر الشمس، وتعب الوقت") الرواية:١٧٠).

ومن التناص الديني ما كان يتردد على ألسنة المسافرين من عبارات وتراكيب دينية مثل قولهم:

"الحمد لله، وربنا يسهل لنا الطريق "أصبحنا وأصبح الملك لله.. سبحان العزيز الفتاح!".

فهذه صورة من صور أدعية الصباح التي يرددها الناس عند السفر . وهي مقتبسة من أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام، فعن حديث عبدالله بن مسعود قال: "...أصـبحنا وأصـبح المـلك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ..."( ينظر: الموسوعة الحديثية https://dorar.net).

وفي هذا السياق التناصي يجد القارئ أن الكاتب قد اتكأ على آلية الامتصاص عند استدعائه لبعض النصوص، بحيث امتص رحيق المعنى؛ وذلك لغايات تعبيرية جمالية.

فالكاتب هنا لا يقصد استحضار آلية كاملة من الآيات القرآنية، بل يقتطف منها جزءاً ثم يصهرها في نسيج خطابه الروائي؛ وذلك لتبيان عظمة الله - سبحانه وتعالى-.

ومن المتناصات الأدبية لا سيما الشعر العربي التراثي ما ورد في أحد المقاطع السردية التي تقول: "...هذه هي الدنيا، لا يروق صفاؤها لمقيم، ولا للمسافر، ولا لمغادر يتوزعون بين حنين اللقاء وحسرة التفرق، ولولا فسحة الأمل، لكانت الحياة قاتلة مزعجة"( الرواية ٨٣).

هذا النص السردي مستوحىً بطريق غير مباشر من بيت شعر للشاعر الطغرائي يقول فيه:

أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما
أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ

(الطغرائي، عالم الأدب، https://www.pinterest.com).

فالنص مقتبس بالمعنى وبطريق غير مباشر من قول الشاعر بعد أن ذوّب الكاتب معناه، وأعاد إنتاج عبارة جديدة تتوافق وتجربته الذاتية.

ومن المتناصات الأدبية التي تجلت في أحد المقاطع السردية قول السارد على لسان شخصية إبراهيم العادل: "لأجل القرية التي لا أزال أحتضن رواياتها وحكاياتها، وبي أمل الواثق للوصول إليها ذات يوم وأن طال السفر" (الرواية: ص١٤٠)، يحيل هذا المقطع إلى بيت تراثي من الشعر لشاعر مجهول يعبر فيه عن شوقه لمدينة صنعاء باليمن:

لا بدَّ من صنعا
وإنْ طال السفر

(ينظر: بدر الدين العيني: المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، الشاهد التسعون بعد المائة والألف لقائل مجهول ٤/ ٢٠٢٣ https://al-maktaba.org).

فالشخصية تصر على العودة إلى مدينتها غزة مهما كلفها ذلك من غصة المشقة والتعب.

ومن المتناصات التي وظفها الكاتب الأمثال العربية فصيحة وشعبية، ومنها قول الكاتب: " الظلم مرتعه وخيم (الرواية: 29). وهذا النص السردي مأخوذ من المثل الذي يقول: "الظُّلْمُ مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ، وهو مثل عربي، مأخوذ أصلاً من قول شاعر غير معروف:

البغي يصرع أهله
والظلم مرتعه وخيم.

ويضرب هذا المثل: في النهي عن الظلم والمبالغة فيه.

(ينظر: جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، http://www.alwarraq.com ١ / ١٤٣).

ومن التناص مع الأمثال الشعبية استدعاء الكاتب المثل الشعبي الذي قالته فوزية النادي:

"... أردد في صـمت قول والدي -رحمه الله- "ما باليد حيلة"، قدر واستسلام، حزن وغصة، هذا قدرنا" (الرواية: ١٧).

يعبر المثل الشعبي المستوحى في النص السردي السابق: "ما باليد حيلة" عن عدم وجود أي شيء ممكن فعله، وقد جاء هذا المثل منسجماً مع جوّ السفر ومتاعبه، فللسـفر قوانين، وأنظمة، وأوامر، وواجبات، وظروف، وخنق، وكتم، وكبت، وصــبـر، وعدم راحة. تلك ظروف لا يعرف المسافر كنهها.

ومن الأمثلة على ما جاء في النص السردي من أمثال شعبية قول أحد المسافرين: "خليه على عماه"( الرواية: ٢٠٧).

ويشرح الكاتب نفسه هذا المثل الشعبي، فيقول: يعني أن لا أعرف خيراً له من أن يعرف، وإن كان لا بد أن فدوه يعرف عند حلول الوقت المناسب، عندها قد تصدمه الحقيقة وتصبح واقعا لا بد أن يتعايش معه. (ينظر: الأمثال الشعبية الفلسطينية، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، https://info.wafa.ps).

ومن المتناصات الثقافية استدعاء مقولة مشهورة هي: "وجدتها .. وجدتها" إذ يقول: "تمتم في نفسه "وجدتها .. وجدتها".. الآن يهون تعب السفر، في الصالة الداخلية سأعرف اسمها ومكان سكنها" (الرواية : ٢٦٧ ).

في النص السردي السابق تناص، إذ تنسب هذه المقولة للعالم اليوناني أرخميدس عندما اكتشف قانون أرخميدس طفو الأجسام في الماء، وهي مقولة شهيرة بمثابة صرخة فرح عارم؛ حين أدرك المعلومة المجهولة.. كان ذلك بعد حيرة كبيرة ومعاناة طويلة في التفكير والبحث حين تنبه فجأة إلى قانون طفو الأجسام في الماء. (وجدتها .. وجدتها ٠٤‏/١٠‏/٢٠٢٢ https://haythatdayy.com).

وفي الجملة، فإن التناص يشي بما يتمتع به الأديب من خبرة ثقافية ومعرفية واسعة منفتحة على القرآن الكريم والأدب والأمثال، وهو ما يطبع شخصيته بطابع الإحاطة والشمول والاتساع.

د – التهجين:

ومن التعددية اللغوية؛ استعمالُ المزج بين اللغة الفصيحة والألفاظ العامية، والسوقية، وهو ما يطلق عليه هنا التهجين، ويقصد به المزج بين اللغة الفصيحة واللغة العامية، فتجد اللهجة الفلسطينية، وتجد اللهجة المصرية على ألسنة الفلسطينيين الذين عاشوا في البيئة المصرية. فمن أمثلة اللهجة الفلسطينية كلام أحد الصبية لآخر صديقه:

 ولك طراد اليهود بعدين بطخ عليها وبموتونا، مش كل يوم بيطخوا على الصيادين" (الرواية ١٧٥).

ومن أمثلة اللهجة المصرية ما جاء على لسان الشاب إبراهيم الوالي الذي عاش في بيئة مصرية عن الانقسام معبراً عن كراهيته له: "يغور في ستين داهية") الرواية : ١٤٠).

وفي موضع آخر يسأل أحد الجنود الحاج على الغمري وهو يفتش حقيبته:

إيه ده يا حج، إنت جاي منين؟

(الرواية : ١٥٦).

وهذا التنوع في اللهجات يشي بتنوع أوجاع الفلسطينيين وتعدد معاناتهم.

البعد الثالث: تعدد الأساليب:

إن تعدد أصوات الرواة في الرواية وتنوع الأصوات يفضي إلى تعدد أساليب الشخصيات في التعبير؛ الأمر الذي مكَّن الكاتب من توظيف عدد من الأدوات والأساليب الفنية مثل أسلوبي الاسترجاع والاستباق، وأسلوب القطع، والأسلوب العجائبي.

أ - أسلوب الاسترجاع:

الاسترجاع هو ترك الروائي مستوى القص الأول، ليعود إلى أحداث ماضية سابقة، فيرويها في لحظة لاحقة لحدوثها، وهو تقنية فنية تتمثل في ايقاف السارد لمجرى تطور أحداثه ليعود لاستحضار أو استذكار أحداث ماضية (ينظر: عبد العالي بو طيب، إشكالية الزمن في النص السردي، مجلة فصول المصرية، عدد٢، ١٩٩٣).

ومن أمثلة الاسترجاع في الرواية ما ورد على لسان إحدى الشخصيات وهي تتذكر ماضيها:

"انتقلتُ من مخيمٍ إلى مخيم.. من بيت العائلة إلى بيت العريس، كنت في التاسعة عشرة، وقد درسـت حتى الثالث الإعدادي، ثم انقطعت عن الدراسة، ومكثت في البيت، عريسي جندي في جيش التحرير الفلسطيني؛ كانوا يسمونه "جيش الشقيري ــ نسبة إلى أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير حينذاك، عريسي أكمل الثانية والعشرين، ودرس حتى الأول الثانوي، ثم صار يعمل مع أبيه لمساعدة الأسرة، ولما بدأ ميكرفون هيئة الاستعلامات والتوجيه المعنوي ينادي على من يرغب في التجنُّد للجيش، ارتفعت معنويات الناس، ووجد والد زوجي فرصـة لابنه كي يتسلم راتباً شهرياً من الجندية مقداره خمسة جنيهات في الشهر، يأكل ويشرب ويلبس في كتيبة المجندين، ويتدرب على السلاح وأعمال الجندية، ويأتي بخمسة جنيهات الآخر الشهرين والده وتعينه على الزواج، وتقربه من العودة إلى قريته التي طرد منها"(الرواية :٤٦ ).

يسترجع الصوت ذكريات الماضي، وهو حين يسترجع ذكرياته الماضية، فإنها تأتي في صورة من صور الاسترجاع المترعة بالأوجاع والآلام والمعاناة، وهكذا هي حياة الفلسطيني في الماضي والحاضر.

وتتجلى وظيفة الاسترجاع في إثراء اللحظة الروائية بكل ما قد يكون سابقاً عليها وتعمل على إعادة التوهج وبث الحياة للنص السردي، وتجعله حدثًا حاضرًا، فضلاً عن أنها تعين الشخصية التي تسرد على ترتيب أفكارها عن نفسها.

ب - تقنية الاستباق:

فالاستباق هو” أحداث أو إشارات أو إيحاءات أولية يكشف عنها الراوي؛ ليمهد لحدث سيأتي لاحقًا وبالتالي يعد الحدث أو الإشارة الأولية هي بمثابة استباق تمهيدي للحدث الآتي في السرد، (ينظر: مها حسن القصراوي، الزمن في الرواية العربية، ص213، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 2008)، وقد وظف الكاتب تقنية الاستباق ليجعل شخصياته تعبر عما يجول في خاطرها من مشاعر الشوق والحنين إلى أحبابه، ومن أمثلته في الرواية ما سرد على لسان فوزية إحدى الشخصيات:

"الآن أنا في العربة أمضي في هذا الليل والعتمة؛ لألتقي مع أهلي في مخيم جباليا الذي نشأت فيه، غادرته من سنوات طويلة في حال الفرح ، وها أنا أعود إليه محملة بالحنين وبأثقال الدنيا.. أعود إلى المكان الذي نشأت فيه وأحببته"(الرواية : ١١٠).

وقد يأتي الاستباق على صورة حُلْم، فالمرأة التي لم تُرزق أطفالاً تحلُم بأنها ترى في الحلم ما حرمت منه، تقول: "ذات ليلة صحوت على حلم جميل، رأيت نفسـي ألعب وأتنقل بين حدائق، وأشجار، وخضرة مملوءة بالأطفال، وورودٍ من كل شكل ولون، حتى رائحة الورود غمرت صدري ورئتي" (الرواية: 106 ).

وفي موضع أخر تتشوف إحدى الراكبات إلى العودة؛ لتجتمع بأسرتها تقول:

"استعنتُ على الظلام على جانبي الطريق بقراءة آيات مما أحفظ، وأنا أطالع في ذات اللحظة وجوه أولادي وبناتی، أصير أمامهم ومعهم وجهاً لوجه، ويداً بيد، وطولاً بطول، وصورة بصورة، تعلو ضحكاتهم، وتكثر طلاباتهم وشقاوتهم وتهريجهم، وصراخهم، وفرحتهم، ولعبهم، ومساعدتهم لي، وبكاؤهم علي يوم سافرنا، فتجول في عيني دمعتان كبيرتان، ويحشو قلبي حزنٌ عميق، إنا لله وإنا إليه راجعون، ارحمنا يا رحيم.." (الرواية : ١٨).

إن طول الغربة وطول مدة العلاج، واشتداد المرض، وتعب الرحلة، ومشقة السفر تدفع بالمسافر إلى التشوف إلى المستقبل ، وتجعل المرء يتشوق إلى لحظة اللقاء بأفراد أسرته بعد هذا الغياب والمعاناة وأوجاع السفر .
إنَّ من أبـرز وظائـف أسلوب الاسـتباق؛ مشـاركةُ القـارئ في النـص؛ إذ يوجـه انتباهـه لمتابعـة تطــور الشــخصية والأحــدث مــن خـلال هــذا الاســتباق، كــا يســاهم في بنــاء النــص مــن خــلال التأويــات والإجابــة عــن تســاؤلات يطرحهــا.

ج - أسلوب القطع:

استخدم الكاتب تقنية القطع في الرواية موظفاً تقنيات سردية أخرى تماهت مع تلك التقنيات؛ لبلورة مشهده، ففي مقطع سردي بدأه الشابُ إبراهيم من البداية عند حديثه عن بيروت ثم توقف فجأة عن السرد، دون إشعار بذلك، ولا تمهيد، وأخذ يتحدث عن الرحلة، ويتساءل متى الوصول إلى معبر رفح، فيقول: "بيروت بالنسبة لي عالم جديد، والثورة في بيروت شيء آخر غير ما نقرأه في الكتب عن الثورات، صرت أنا وصديقي عبد المجيد في جيش التحرير، انضممنا لمعسكر الجيش في القاهرة، وبعد شهور غادرنا إلى بيروت..).

 متى نصل؟

قالت سيدة تحكي في المقعد الخلفي:

 قربنا نصل. (الرواية: 136).

إن مثل هذا التقطيع الفني المستوحى من فن السينما يمنح سير السرد حيوية وتدفقاً ويخرج القارئ من الشعور بالملل والرتابة.

د - العجائبية:

يقصد بالأسلوب العجائبي الخروج عن المألوف وخرق للمعتاد وانتقال من المعروف إلى الغريب، ومن المعقول إلى اللامعقول، ومن الواقع إلى ما هو فوق الواقع. "فالعجائبي يعني" استكناه الواقع بوسائل غير واقعية تتجاوز المألوف"(فوزي عيسى: الواقعية السحرية في الرواية العربية، كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، مصر، ٢٠١٢ ص ١١).

وعلى الرغم من أن رواية (وجع لا بد منه) رواية واقعية السمات والأحداث، فإنها ترصد أوجاع مجموعة من الركاب العائدين من القاهرة إلى غزة من خلال معبر رفح، بيد أن الكاتب أراد ابتكار أساليب تعبيرية جديدة ومغايرة لمعالجة الواقعي، بما هو غير واقعي والمعقول عن طريق اللامعقول بغية أن يأتي بلون جديد، فأضفى على القسم السابع لوناً في الإمكان أن نعده من ألوان الغرائبية العجائبية على الأحداث، فحاول أنسنة الجمادات، وجعلها تعبر هي الأخرى عن أوجاعها، فليس الفلسطيني وحده هو الذي يتوجع، بل السيارة التي تقل الركاب إلى المعبر هي الأخرى تتضامن مع أوجاعهم وتتوجع مثلهم، فاتخذ الروائي من العجائبي وسيلة فنية صاغ من خلالها خطابه ورؤاه، إذ جعل من السيارة كائناً حياً يكشف عن العلاقة الحميمة التي تربطها بالسائق، فتقول:

"لم يكن السائق شفوقاً علي أبداً وهو يضغط علي كلما خرج معي من جوف المدينة، وحاراتها، وشــــــوارعها المزدحمة، إلى الطرق الخارجية الواسعة الممهدة، فهو بمجرد أن يخرج بي من الشوارع الضيقة، ويعتدل على الطريق العام الفسيح الجنبات ذي المسارين في اتجاهين متعاكسين، لا يكترث لطول سهري معه. نمکث مرات كثيرة معاً لساعات طويلة في عتمة الليل، أو الضوء الخافت في الحارات، يحدثني وأسمعه، يدغدغني بيديه فأستجيب له، وهو يرنو بناظريه يرافب مفآجات الطريق، ويتابع مراقبة الناس والمارة بحذر وانتباه"( الرواية: ص ١١٢ ).

وفي مكان آخر يجعل الكاتب السيارة تعبر عن أحاسيسها، وتعبر عن علاقتها الطيبة والحميمة مع السائق، فتقول:

...." لم أرَ من قبله أحداً يحبني هذا الحب، ويكلمني بلسان الحال والرضـا، أو بلسان النزق والتجرؤ عليَّ، وهو في غمرة التصابي، وبدل أن يحملني بخفة، يُحملِّني بما لا طاقة لي به، وكلما انضغط قام بإعادة مدّ يديه فوق ظهري، ويعود مرات للعبث بيديه على بطني يلامسه، يصافحه، يهدهده ويمسح عليه في هدوء، يعبث أحياناً في ثناياه وتعاريجه، يمسـد عليه بحنو مرات، وبقسـوة خفيفة مرة أخرى" (الرواية 113 )!

لقد استنطق الكاتب الجماد، وبين أن الجماد نفسه يعاني من أوجاع السفر، فعمد إلى أنسنة الجماد، ووصف العلاقة الإنسانية المبنية على المحبة والود بين السائق وسيارته، يقول على لسان السيارة، يقول على لسان العربة على سبيل الحوار الداخلي : "وأنا معاك يا حمادة، عايزة أرتاح من هالمشـوار الطويل، الله يعينا ويعين المسافرين"(الرواية: ٢٦٢).

ه - أسلوب المحاكاة الساخرة:

يجد المتلقي أن الكاتب - أحياناً- يمتطي الكوميديا السوداء؛ ليخفف عن المسافرين إحساسهم بمتاعب السفر، مثلما جاء على لسان المسافر إبراهيم الوالي الذي يسخر من الوضع السياسي الراهن، فيتمتم، ويقول: "استراحة القدس.. أين نحن وأين القدس؟!..... " ...صاحب المقهى اختار اسماً وطنياً ودينياً لاستراحته، الاسم جميل بخط كبير يمتد على لوحة كبيرة جداً، يمتد العنوان على سطح بناية المقهى" (الرواية ٢١٠). وكأن الشخصية تريد أن تهمس بين الثنايا أو تهمس لقد غدت القدس موطناً للإعلانات لجلب المسافرين. وفي موقع سردي آخر يقول الحاج علي في سخرية مرة متهكماً:

 إذا من القاهرة لغزة يومين وليلتين كيف لو بدنا نرجع على يافا وأسدود قديش بدنا؟!( الرواية : ٢٦٥).

ومهما يكن من أمر، فقد أبرزت الرواية أهمية تنوع أساليب الصياغة السردية في تحقيق أكبر قدر من الموضوعية والحياد الفني باستخدام تقنيات الرواية ذات الأصوات المتعددة التي تنتقل فيها من صوت الراوي الواحد إلى تقنية الصوت المتعدد ميلاً منه نحو التجريب الخلاق تخلصاً من السردية التقليدية المعروفة في القص الروائي؛ الأمر الذي يتيح للرواة على تعددهم، واختلاف مواقعهم الروائية تقديم وجهات نظر متغيرة تعكس مواقف المتباينة غير المتجانسة.

سلطت الرواية الضوء على الوجع الإنساني بأسلوب سردي يعتمد التشويق والإثارة، إذ إن كل خيط من خيوط النص الروائي ينسج لوحة داخل اللوحة الأم الكبرى، وتتداخل هذه اللوحات مع بعضها بعضاً لتكتمل محققة المشهد الكلي.

التعريف بالكاتب:

عبد الله تايه (1953) كاتب وقاص وروائي فلسطيني، الأمين العام المساعد لاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، عمل مُديرًا عامًا في وزارة الإعلام، له عدد من الروايات والمجموعات القصصية، وكتب في الثقافة العامة، حاز سنة ٢٠٢٢ م على وسام الثقافة والعلوم والفنون ومستوى الإبداع، وذلك تقديراً لدوره الطليعي في إثراء الإبداع الثقافي الفلسطيني وتثميناً لإنتاجه الأدبي الذي يجسد معاناة شعبنا ويوثق الرواية الوطنية ويدافع عن حقوق شعبنا.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى