الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٤
إلى ابنتيّ التوأمين وإلى كل الشباب والشابات

توجيه ونقد

نازك ضمرة – نورث كارولاينا (أمريكا)

في ظل الهجمة الشرسة للأفلام الحديثة ، والأغاني السطحية ، والتعابير المتحدية للتراث ، ولتاريخ الفكر العربي وعراقته ، يجد الشباب أنفسهم مندفعين أو منسجمين أو متقبلين لكل هذا الزخم المتدهور أو لبعضه ، والمتسرب لحياة الشباب وفكرهم (أعني ذكوراً وإناثاً) ، قد يتنبه البعض فلا يتقبل كل ما هو جديد وربما لا يخضع له ، عارفاً أنه رخيص تافه ، ولكن أغلبهم يجدون أنفسهم أمام هذه السيول التي لا تنقطع صبحاً ولا ظهراً ولا ليلاً ، تحت الشمس أو تحت القمر ، في ظل شجرة أو في ركن غرفة صغيرة ، أو حتى ولو في خيمة نائية في صحراء مترامية الأطراف ، مما قد يؤدي بالبعض أن يتعلق بالشعر أو بالنصوص الشعرية أو بنصوص الأغاني الدارجة والمتداولة المنهالة المنهارة ، لا تغيب عن أذنيه بل لا تبتعد عن حواسه كلها ليله ونهاره ، فنرى أن الشاب أو الشابة يتعلقان بالشعر قراءة ، أو قد يحاول البعض كتابة الشعر ونصوص الأغنية ، ظانين أن الشعر هو رصف كلام فيه شيء من وزن أو تعبير مفتوح يصف حالة نفسية بوضوح ، كشكوى حبيبة مراهقة لحبيبها أو العكس ، وتؤدي تلك الحالة إلى تعبيرات وآهات وتودد أو تعهر مكشوف يدمي القلب ، ويحطّ من قدر لغتنا ، ويدني مستوى التفكير عند أجيالنا الصاعدة ، آمالنا ومستقبلنا ، وهم صانعو تاريخنا الآتي ومدونوه.

ولا أريد الإطالة حول النهي والتثبيط ، بل أرى أن يعمل شبابنا على فهم لغتنا المكتوبة من قبل مختصين وأدباء يرتاحون لهم ، وذلك بقراءة إنتاجهم النثري الأدبي ، ولا أتوقع ولا أريد لشبابنا أن يبدأوا بقراءة الأدب الجاهلي ولا الأموي ولا حتى العباسي ، بل يبدأوا بالعكس أي بقراءة ما كتبه الأدباء المعاصرون المشهود لهم ، ومن مختلف الأقطار العربية ، وأكرر من مختلف الأقطار العربية ، مع محاولة قراءة بعض ما ترجم من الآداب العالمية إلى اللغة العربية ما أمكن ، حتى يمسك الشاب أو الشابة بناصية اللغة ، ويحصد ثروة تعبيرية صريحة وترميزية تعينه على فهم الشعر الحديث القوي النابع من قلب الشاعر المتمكن ومشاعره.

اختلفت بلاغة شعر الحداثة عن بلاغة وقوة الشعر الكلاسيكي من عصورالجاهلية والعصر الأموي والعباسي ، فامرؤ القيس يقول بصراحة قوية:

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعتِ صرمي فأجملي

أي لا تتمنعي ولا تهجريني ورقي لحالي وهو الأمير الأجلّ ، وكذلك مثل قول أبي فراس الحمداني ، وهو الأمير الحبيس الأجلّ أيضا

أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى
ولا خطرت منك الهموم ببالي

أي وبرغم صوتك الحزين الشجي أيتها الحمامة فلا أصدق أنك تحسين بمثل ما أحس به من حرمان وهموم ومعاناة.

الشعر الحديث يعتمد على الاختزال والترميز وانتقاء الكلمة الأنسب في المكان الأنسب ، فلم يعد لدى الشاعر الوقت للجلوس طويلاً لتدبيج الأحاسيس في كلمات ، بل شاعر العصر الحديث يعبر عن حالة تجتاحه في لحظات كالحلم ، فتكون قصيدة غير مرتكزة على أبيات شعرية رنانة أو خطابية ، فلم يعد لدينا وقت لتشبيه وجه الفتاة بالقمر بجملة طويلة مع استعمال أدوات التشبيه مثل (كلمة : مثل ، كأن ، أو حرف الكاف . . . الخ) ولكن الشمس ترمز للوضوح والقوة والاحتراق والنهار ، والقمر للجمال والهدوء والأنس وربما العزلة ، وسرعة جريان ماء النهر المتدهور كالمندفع إلى خطر أو موت أو حبيبة في طيش ، والتثاؤب إفلاس وفراغ ، والغرفة الخاوية من الأثاث ضياع وعزلة وموات ، والتقلب في الفراش ألم وقلق وفكر في حب أو مصيبة أو مرض أو هجر أو حرمان. هذه أمثلة بسيطة لتذكير شبابنا ، فأتمنى أن تكثروا من قراءة القصص والروايات والمقالات الصحفية اليومية والأسبوعية ، كل حسب هواه ، حتى يتشكل لدى الفرد منكم توق ونهم وتعلق بفهم ارتباط اللغة بتطور الفكر والحياة والجمال والمعاناة ، وأن المعاني تتوالد وتتكاثر مع تطور الشعب وحضارته ، ومع مرور العصور ، بعدها ستتوالد في نفوسكم بذور مواهبكم ، وستشرق الإشعاعات المختزنة في نفوسكم ، تقولون شعراً أو نثراً أدبياً يكون إبداعاً ملائماً معاصراً مرغوباً مطلوباً.

رالي في 8/7/2004

نازك ضمرة – نورث كارولاينا (أمريكا)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى