الأحد ٨ أيار (مايو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

تولستوي والفقراء

مقدّمة

رأيْنا في موقفِ فيكتور هوجو كيف دافعَ عن الفقراءِ والبائسينَ، وكيف كرّسَ حياتَه في منفاهُ بجهدِه ومالِه لإطعامِ الأطفالِ الفقراءِ ورعايتِهم من النّاحيتَينِ البدنيَّةِ والنّفسيّةِ من أجلِ إدخالِ السّعادةِ إلى نفوسِهم، دون النّظرِ إلى انتمائِهم أو عرقِهم أو دينِهم، فكان كاتباً عالميّاً بنتاجِه الأدبيِّ العظيمِ، وكان مفكّراً ومصلحاً اجتماعيّاً بمواقفِه الإنسانيّةِ النّبيلةِ في مناصرةِ الفقراءِ والدّفاعِ عن حقوقِ المظلومينَ والمشرّدينَ والمنفيّين ورعايةِ الأطفالِ المحرومينَ من أدنَى مقوّماتِ الحياةِ الإنسانيّةِ البسيطةِ.

أمّا الأديبُ الرّوسيُّ الكبيرُ ليو تولستوي، فقد كان أيضاً أديباً عالميّاً بغزارةِ نتاجاتِه الفكريّةِ وتأثيرِه الكبيرِ في ميادينِ الفكرِ العالميِّ في التّربيةِ والتّعليم والإصلاحِ الدّينيّ والسّياسيِّ والاجتماعيِّ، فقد وهبَ تولستوي فكرَه العالمَ بأسرِه، وسخّر حياتَه للدّفاعِ عن الفقراءِ والمظلومينَ والمحرومينَ، وقد تجلّى ذلك في كتاباتِه، وترجمَها في أفعالِه حينَما تخلّى عن أرستقراطيَّتِه؛ ليحْيا حياةَ الفقراءِ بتوزيعِ ثروتِه وممتلكاتِه على مزارعيهِ، ويلبسَ لباسَ الفقراءِ ويعيشَ ويعملَ بينَهم، كما حرصَ على تعليمِهم والمحرومينَ من العلمِ، وهذا ما سأُركّزُ عليه في هذهِ المقالةِ.

تعليمُ الفقراءِ والمحرومين

أقْدمَ تولستوي في السَّنةِ التّاسعةَ عشرةَ من عمرِه على تنظيمِ مدرسةٍ في قريتِه (یاسنایا بوليانا). وسجّلَ ذلك في مجموعتِه القصصيَّةِ (قصص سيباستوبول)، لتكونَ إيذاناً بميلادِه الأدبيّ، وليعودَ بعد استقالتِه من الخدمةِ العسكريّةِ، ويستأنفَ العملَ في مدرستِه.

فبعدَ أن تقاعدَ تولستوي من خدمتِه العسكريّة سافرَ إلى أوروبّا الغربيّة، فزارَ عام 1857م سويسرا، ثمّ ألمانيا وفرنسا وبريطانيا عامَ 1860م، حتّى نهايةِ عام 1861م، وكان مهتمّاً بإقامةِ المدارسِ، وأصبحَ معنيّاً بوجهٍ خاصّ بمشكلةِ تعليمِ أولئكَ الّذين فاتَتْهم فرصةُ التّعلمِ في الصّغرِ.

وقد اطّلع تولستوي على مناهجِ التّعليمِ في أوروبّا، وأُعجبَ فيها بطرقِ التّدريس وأساليبِه. ولمّا عادَ إلى مسقطِ رأسِه في بلدتِه ياسنايا بوليانا، بدأَ بتطبيقِ تلكَ النّظريّاتِ التّربويّةِ التّقدميّةِ في مدرستِه الخاصّةِ لتعليمِ أبناءِ المزارعينَ. وأنشأَ لذلك مجلّةً تربويّةً سمّاها باسمِ بلدتِه (ياسنايا بوليانا) الّتي شرحَ فيها أفكارَه التّربويّةِ، وسعَى لنشرِها بين أفرادِ مجتمعِه. وقد اختلطَ تولستوي بالمزارعينَ، وتعلّمَ أساليبَهم في العملِ، ودافعَ عنهم ضدَّ المعاملةِ السّيّئةِ من جانبِ ملّاكِ الأراضي، ومنذُ ذلكَ الوقتِ لم يُغادرْ إقطاعيَّتَه بوليانا واستقرّ فيها، ففي عامِ 1862م، تزوّجَ من الكونتيسة صوفيا أندريفيا، فعاشَ معَها في حبٍّ وتفاهمٍ ووئام.

وقد ألّفَ كتاباً مدرسيّاً مطوّراً سمّاه (الأبجديّة)، صدرَ عام (۱۸۷۲م). وصفَه بقولِه: "بذلْتُ فيه روحي بأكملِها". وصارَت هذهِ الأبجديّة حدثاً تربويّاً كبيراً في التّعليمِ الرّوسيّ.

قوّتُه في دفاعِه عن المستَضعفين:

كتبَ النّاقدُ الرّوسيّ الكبيرُ أ.س. سوفورين في يوميّاتِه (بتاريخ ۲۹ مایو ۱۹۰۱م) ما يلي: "لديْنا في روسيا، قيصرانِ: نیکولاي الثّاني، وليو تولستوي، مَن منهُما الأقْوى؟ لا يستطيعُ نيكولاي الثّاني أن يفعلَ شيئاً مع تولستوي. لا يستطيعُ هزَّ عرشِه، في حين أنّ تولستوي، وبلا شكٍّ، يهزُّ عرشَ نیکولاي وعائلتِه"!

لقد استمدَّ تولستوي قوّتَه من جماهيرِه من الفلّاحينَ الرّوسِ الّذين دافعَ عنهم وعبّرَ عن همومِهم وآلامِهم وناضلَ من أجلِهم في مقاومةِ الظّلمِ والطّغيانِ والاستبدادِ، وأيقظَ فيهم مشاعرَ الاحتجاجَ والغضبِ، وقد أدّت هذِه الوقفةُ الشّجاعةُ مع الفقراءِ إلى منحِ أدبِ تولستوي ميزةَ القوّةِ وسرعةَ الانتشارِ ، كما منحَتْه شعبيَّةً عظيمةً على مستوى العالمِ. ومع مطلعِ القرنِ العشرينَ، لاقَت تعاليمُه الدّينيَّةُ والأخلاقيّةُ اهتماماً خاصّاً.

وهكذا أصبحَ تولستوي بطلاً محرّراً للفقراءِ، فكانتِ الجماهيرُ الرّوسيّةُ الغفيرةُ تتكلّمُ بلسانِ تولستوي، وتدعُو إلى التّحرّرِ من قبضةِ هؤلاءِ القياصرةِ ومن يدعمُهم من رجالِ الدّينِ الكنَسيّ، فكان أدبُ تولستوي نواةَ ثورةٍ للفقراءِ ضدَّ الحكّامِ والأثرياءِ في حقبةٍ تاريخيّةٍ سوداءَ، لم تُتوَّجْ بانتصارِ العمّالِ والفلّاحينَ إلّا بقيامِ الثّورةِ البلشفيَّةِ عامَ 1917م والقضاءِ على الحكمِ القيصريِّ الّذي انتَهى بمقتلِ نيقولا الثّاني وزوجتِه وابنِه وبناتِه الأربعِ في ليلةِ السّابعَ عشرَ من يوليو عامَ 1918م.

ومن هُنا نستطيعُ أن نركنَ إلى حقيقةٍ مطلقةٍ بأنَّ القلمَ الّذي يستندُ إلى قوّةِ الجماهيرِ الشَّعبيّةِ المقهورةِ أمْضى وأعْتى من السَّيفِ الّذي يستمدُّ قوّتَه من القبضةِ الأمنيَّةِ والعسكريَّةِ أو من عمالتِه للخارجِ في سبيلِ بسطِ نفوذِه وجبروتِه على الرّعيّةِ من أبناءِ أمَّتِه وشعبِه، فقدْ سقطَ جميعُ القياصرةِ وظلّتْ فحمةُ تولستوي تخطُّ على أروقةِ الأزمنةِ أروعَ وأنبلَ رواياتِ الانتصارِ الفكريِّ للفقراءِ على الأثرياءِ، والضّعفاءِ على الأقوياءِ، والسّلمِ على الحربِ، والعدلِ على الظُّلمِ، وحرّيّةِ العبادةِ على طواغيتِ الاستعبادِ، ومِن قبْلُ فقد انهارَ ملوكُ فرنسا، وسقطَ من بعدِهم نابليونُ، وظلّ قلمُ فيكتور هوجو يسطِّرُ ألفَ ملحمةٍ وملحمةٍ في صدورِ البؤساءِ في كلِّ أنحاءِ العالمِ، ولمعَ شعرُه ونثرُه كالثُّريّا شرقاً وغرباً! فهل يا تُرى سيُنجبُ الشّرقُ العربيُّ قلماً يتبوّأُ مكانَ الشّرفِ والسُّؤددِ اللّذين نالَهما قلَمَا هوجو وتولستوي، والحالةُ ليسَت أفضلَ ممّا كانتْ عليهِ فرنسا وروسيا في القرونِ الماضيةِ؟!
عيشُه مع الفقراء

في بدايةِ العقدِ الخامسِ من عمرِ تولستوي، وبعدَ أن عاشَ حياةً مترفةً من العيشِ الرّغيدِ، مع نعمةِ الصّحّةِ وسعةِ الشُّهرةِ، وغِنى الملكِ والثّروةِ، واستقرارِ الحياةِ الأسريّةِ النّاجحةِ. ينتابُه سؤالٌ من الدّاخلِ يحملُ الكثيرَ من الحيرةِ: وماذا بعدُ؟ فيهربُ من السّؤالِ، ويقولُ لنفسِه: حينَ أفرغُ من هذا العملِ سأفكّرُ في الإجابةِ عنهُ.

فيستبدُّ به السّؤالُ، ويلقيهِ في حيرةٍ من أمرِه باحثاً عن إجابةٍ منطقيّةٍ لنهايةِ الإنسانِ - وقد امتلكَ ما امتلكَ من متاعِ الدّنيا وشهواتِها وثرواتِها وشهرتِها - فيقولُ: "حسَنٌ سيكونُ عندَك ستّةُ آلافِ فدّانٍ في أرقَى منطقةٍ وثلاثُمئةِ حصانٍ. وماذا بعدُ؟ حسَنٌ ستكونُ أكثرَ شهرةً من بوشكين وشكسبير، وموليير، بل وكلِّ كتّابِ العالمِ. وماذا بعدُ؟".

وهُنا تبدأُ مرحلةٌ أخْرى في حياتِه؛ إنّها مرحلةُ عذابٍ متواصلٍ، تُشعِرُه بعدمِ القدرةِ على مواصلةِ الحياةِ بسببِ الإحساسِ بأنَّ كلّ سعادةٍ أو تعاسةٍ في هذهِ الحياةِ ما هيَ إلّا خدعةٌ كبيرةٌ. والسّؤالُ بداخلِه عن معنىً أعمقَ وأدوَمَ لا يفارقُ كيانَه، فلا هو يستطيعُ أن يتجاهلَه، ولا هو قادرٌ على مواصلةِ الحياةِ كما كانتْ باستبعادِه، ولا هو قادرٌ على الإجابةِ عليهِ، فيقولُ: "ما نتيجةُ أيِّ فعلٍ أقومُ به اليومَ أو غداً؟ ما هيَ نتيجةُ حياتي كلِّها؟ هل هناكَ أيُّ معنىً للحياةِ سيبْقَى ولا يفْنى بقدومِ الموتِ المحقَّقِ الّذي ينتظرُني؟". ص 28/ تولستوي- الأعمال الكاملة

ويعبّرُ عن هذا أيضاً بقولِه: "بحثتُ عن إجابةٍ لأسئلَتي في كلِّ فروعِ المعرفةِ الّتي اكتشفَها البشرُ. بحثتُ لفترةٍ طويلةٍ وبكدٍّ عظيمٍ. لم أبحثْ بقلبٍ فاترٍ أو لمجرّدِ حبِّ الاستطلاعِ، ولكنْ كنتُ أبحثُ وأنا يشملُني العذابُ، ولا يفارقُني الإصرارُ ليلَ نهارَ، كإنسانٍ يُحتَضرُ، ويبحثُ عن مخرجٍ للنَّجاةِ، ولكنّني لم أجِدْ شيئاً".

وهنا يبدأُ التّحوُّلُ الكبيرُ في حياتِه من البحثِ في الكتبِ، ومن البحثِ بين أفرادِ طبقتِه، إلى عامّةِ النّاسِ من الفقراءِ الّذين لمسَ شيئاً ما بينَهم، أشعرَهُ بأنّهم يعيشُون معنَى الحياةِ، حتّى لو كانوا غيرَ قادرينَ على التّعبيرِ عن هذا المعْنى. ويكْفي أنّهم سعداءُ راضونَ بالحياةِ على الرّغمِ من أنّهم ينقصُهم الكثيرُ من رفاهيةِ المادّيّاتِ الّتي تتمتّعُ بها طبقةُ المثقّفينَ والأثرياءِ، وهم لا يرفضُون الحياةَ ولا يرونَها عبثاً مثلَ الطّبقاتِ الّتي يعيشُ بينها.
وحينَ بلغَ تولستوي الثّمانينَ من عمرِه، كانتْ شهرتُه قد ضربتْ كلَّ أقاصي الأرضِ، وتُرجمَت أعمالُه الى لغاتٍ عديدةٍ. وكان أرستقراطيّاً حقيقيّاً يحملُ لقبَ الكونت ليو نيكولا يفيتش تولستوي ويعيشُ حياةً رغيدةً ويتنعّم مع عائلتِه بثروةٍ كبيرةٍ جمعَها من نجاحِه العالميّ وبممتلكاتٍ وصلَت الى أن يمتلكَ القريةَ الّتي يعيشُ فيها.

لكنّ تولستوي الّذي كان قد بدأَ يميلُ منذُ سنِّ السّبعينَ الى تغييرِ نمطِ حياتِه. تنازلَ عن ضيعتِه لأهلِها وعن أرباحِ مبيعاتِ كتبِه لزوجتِه، ولبس ثيابَ الفقراءِ وراحَ يعيشُ في الحقولِ المجاورةِ لبلدتِه يكسبُ مالَه بعرقِ جبينِه. وذاعَ صيتُه في روسيا وخارجِها وتهافتَ النّاسُ يبحثون عنهُ لمعرفةِ تفاصيلِ حياتِه باعتبارِه فيلسوفاً له مبادئُه الخاصّةُ. أمّا زوجتُه، فقد ثارَت على تصرّفاتِه باتّهامِه بالجنونِ لاستعادةِ ممتلكاتِ العائلةِ، واعتبرَت حياتَه بين الفلّاحين ونومَه في أكواخِهم وارتداءَه ملابسَ تشبهُ ملابسَهم أمرٌ يدعُو الى الاشمئزازِ.

فجاءَ ردُّ تولستوي عليها برسالةٍ طويلةٍ وشهيرةٍ قبيلَ رحيلِه النّهائيِّ عن منزلِه، قالَ فيها: "أصبحَ وضْعي غيرَ محتمَلٍ في هذا المنزلِ يا صوفْيا. لم أعُدْ قادراً على ممارسةِ حياتي اليوميَّةِ في هذهِ الرّفاهيةِ الّتي تحيطُ بي، وباتَ الثّراءُ يَخنقُني. وما أَنشدُهُ هو عالمٌ من السّكونِ والوحدةِ، لا يفسِدُه ضجيجُ المالِ، وأنانيّةُ الثّراء، ووحشيّةُ الرّغبةِ في التَّملّكِ...".

فمن هذهِ الرّسالةِ نستشفُّ أنَّ تولستوي لم تعدْ مملكةُ الأدبِ والكتابةِ مملكتَه في هذا العالمِ، ولم يعدْ تاجُ ملكِه المرصّعُ بالذّهبِ والألماسِ، ولم تعدْ ثيابُه ولا مالُه ولا قصورُه تُغنيه عن البحثِ عن حياةٍ يشعرُ فيها بالمعْنى الحقيقيِّ من وجودِه.

فقد شعرَ تولستوي براحةِ العيشِ بين هؤلاءِ البسطاءِ، لكنّه كان يشعرُ بأنّ هناكَ نوعاً من المعرفةِ يحتاجُ إليهِ، ولم يجِدهُ بعدُ. ومن هُنا بدأتْ مرحلةٌ جديدةٌ في حياتِه، وجدَ فيها شيئاً كانَ بمثابةِ اكتشافٍ عظيمٍ، فقد "أيقنَ أنّ الإجابةَ عن تساؤلِه الأساسيِّ عن المعنى الّذي لا يُحطّمُه الموتُ، لا يُمكنُ أن تُوجدَ إلّا في العقيدةِ: المعْنى الّذي لا يموتُ، هو توحُّدُ الإنسانِ معَ مَن لا يموتُ.. مع اللهِ، بعقلِه.. بفهمِه." ص 30/ تولستوي- الأعمال الكاملة

لفظَ الأديبُ الرّوسيُّ ليو تولستوي (1828 - 1910) أنفاسَ الحياةِ الأخيرةِ في محطّةِ قطارِ (آستابوفو) بسببِ إصابتِه بالتهابٍ رئويٍّ حادٍّ، فودَّعَ الحياةَ إلى غيرِ رجعةٍ.

مواقفُه من الفقراءِ في مراثي الأدباءِ

مرثيّةُ أحمد شوقي:

فقد وصفَ أميرُ الشُّعراءِ أحمدُ شوقي (1868 - 1932م) تولستوي بالحكمةِ والشّجاعةِ، فحقَّ أن يحزنَ عليهِ الفقراءُ؛ لأنّه نصيرُ الضُّعفاءِ، وحقَّ أن يبكيَه المؤمنُون؛ لأنّه أخذَ من الدّينِ جوهرَه. فقدْ دافعَ عن الفقراءِ ضدَّ ظلمِ الأغنياءِ، وجاهدَ ضدَّ الحروبِ جميعِها، ونادى بالمحبَّة والسّلامِ. قال شوقي في قصيدتِه "تولستوي"

تولُســتويُ تُجـــــري آيَةُ العِلمِ دَمعَها
عَلَيـكَ وَيَبكي بائِــسٌ وَفَقـــيرُ
وَشَعبٌ ضَعيفُ الــرُكنِ زالَ نَصيرُهُ
وَمــا كُلُّ يَــومٍ لِلضَعــيفِ نَصــيرُ
وَيَنـدُبُ فَلّاحـونَ أَنتَ مَنـارُهُم
وَأَنتَ سِــراجٌ غَيَّــبــوهُ مُنـيرُ
يُعــانونَ في الأَكــــواخِ ظُلمــاً وَظُلمَةً
وَلا يَملُــكونَ البَــثَّ وَهـوَ يَســيرُ
تَطوفُ كَعيسى بِالحَنانِ وَبِالرِضى
عَلَيهِم وَتَغـشى دورَهُــم وَتَـــزورُ
في مقالِ الوداعِ للمنفلوطيّ

أرسلَ مصطفى لُطفي المنفلُوطيّ (1876-1924م)، وهو ممّن تلقَّوا علومَهم في جامعةِ الأزهرِ، الّتي كان يرأسُها الشَّيخُ محمّد عبده - رسالةً مفتوحةً إلى تولستوي في عامِ (1910م)، بعدَ أن عرفَ من وسائلِ الإعلامِ أنّ تولستوي تركَ منزلَه ليعتزلَ النّاسَ.

وقد ابتدأَ المنفلوطيّ رسالتَه هذِه بقولِه: "قفْ ساعةً واحدةً نودِّعَكَ فيها قبلَ أن ترحلَ لطيَّتِك، وتتّخذَ السّبيلَ إلى دارِ عزلتِكَ..".

ثمّ يتناولُ المنفلوطيّ في رسالتِه صراعَ تولستوي ضدَّ القيصرِ: "قلتَ لقيصرَ: أيُّها الملكُ! إنّكَ صنيعةُ الشّعبِ وأجيرُه، لا إلهُه ومعبودُه. وإنّك في مقعدِك فوقَ عرشِك، لا فرقَ بينَكَ وبينَ ذلك الأكّارِ في المزرعةِ، وذلكَ العاملِ في المصنعِ..".

ثمّ يتحدّثُ عن جهادِ تولستوي ضدَّ القوَّةِ الثّانيةِ الّتي تضطهدُ الشَّعبَ، وهي قوّةُ الإقطاعِ: "وقلتَ للغرندوقِ الرّوسيّ: ليسَ من العدلِ أن تملكَ وحدَكَ وأنتَ نائمٌ في سريرِك بينَ روضِكَ، ونسيمِك وظلِّكَ ومائكَ- هذهِ الأرضَ الّتي تضمُّ بين أقطارِها مليونَ فدّانٍ، ولا يملكُ أحدٌ من هؤلاءِ الملايينِ – الّذين يفلحُونها ويحرثُونها، ويبذرونَ بذورَها، ويستنبِتُون نباتَها، ويسوقُون ماشيَتها، ويتقلّبُون بين حرّها وبردِها، وأجيجِها وثلجِها- شبراً واحداً فيها. فاعرفْ لهم حقَّهم، وأحسِنِ القِسمةَ بينَكَ وبينَهم، وأشعِرْ قلبَكَ الخجلَ من منظرِ شقائِهم في سبيلِ سعادتِكَ، وموتِهم في سبيلِ حياتِكَ".

ويتكلّمُ المنفلوطيّ عن الحياةِ البسيطةِ الّتي كان تولستوي يعيشُها. فلقدْ كان يعملُ في الحقلِ مع الفلّاحينَ، ويرتدي الملابسَ الّتي يرتدونَها. ولكنَّ الإقطاعيّينَ لم يستمِعُوا إلى نصائحِه، ولم يتّخذُوا منهُ قدوةً.

ويكتبُ المنفلوطيّ عن صراعِ تولستوي ضدَّ قوّةٍ ثالثةٍ، هي قوّةُ رجالِ الدّينِ. فكان جوابُ رجالِ الدّين في روسيا أنْ أرسلُوا إليهِ كتابَ الحرمانِ من الكنيسةِ؛ لأنّ تولستوي طالبَهم بتأييدِ الشّعبِ الفقيرِ، ضدَّ الأغنياءِ، وضدَّ الملوكِ. فالدّينُ يقْضي عليهم بهذا، وليسَ اللّهثُ وراءَ الدُّنيا وزُخرفِها.

ويتحدَّثُ المنفلوطيُّ أيضاً عن تنديدِ تولستوي بتعذيبِ المساجينِ والمنفيّينَ في سيبيريا، واستنكارِه للحروبِ وويلاتِها، وعن دعوتِه للمحبَّةِ والتّسامحِ". (تولستوي – مج / ص133).

خاتمة

ختاماً نرَى أنَّ تولستوي وقفَ معَ الفقراءِ وقفةً إنسانيّةً نبيلةً لم تقتصرْ على الفكرِ والفلسفةِ، وإنّما امتدَّتْ إلى حياتِه العمليّةِ ومواقفِه الحقيقيّةِ، فعاشَ حياةَ الفقراءِ تقشُّفاً وورعاً، وعملَ معهم وتعلَّمَ أساليبِهم، بعد أنْ تخلّى عن ممتلكاتِه وأموالِه للفقراءِ، وهذا ما دفعَ بزوجتِه إلى إنكارِ حالتِه، لكنّه أصرَّ على خَيارِه بأنّ الحياةَ لا طعمَ لها إلّا في حياةِ هؤلاءِ البائسينَ، وأنّ الحياةَ لا معنىً لها إلّا في الاتّحادِ مع مَن أوجدَ الحياةَ.

ضريح ليو تولستوي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى