الثلاثاء ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
أسرار ما زالت غامضة في التراث
بقلم خالد زغريت

جحا قناع سياسي من التراث إلى الخيال

تحت طربوش جحا رأس سياسي تقنّع المحرّم بالضحك

تمثل شخصية جحا ظاهرة إنسانية إبداعية فريدة فقد تجاوزت الأزمنة والأمكنة، وصار نتاجها الضاحك ملكاً لكل إنسان، حيث شارك الجميع جحا بتأليف النوادر المضحكة التي تعبر عن مختلف حالات البشرية النفسية، فهي للتسلية والترفيه حيناً، والوعظ والإرشاد حيناً آخر، كما هي طابور خامس ضد قمع السلطان والمحرمات ولقد زخرت كتب التراث العربي بنوادر جحا كما حفلت الذاكرة الشعبية بمعين لا ينضب أضافتها العامة على تراث ضحك جحا، كل هذا يلح بسؤال واضح..ترى ماهي حقيقة شخصية جحا ؟؟

شخصية جحا بين الواقع والخيال:
كما بدت سيرة جحا غامضة المنشأة والوجود في الذاكرة الجماعية فأن مصادر التاريخ والأدب تختلف في نسب وحقيقة وجود بوضعه إنساناً طريفاً منذراً حيث يذكر صاحب الصحاح الجوهري إن جحا المكني بأبي الغصن صور جل كوفي من قبيلة فزاره بين ما يحسم مؤلف القاموس أن جحا لقب (دجين بن ثابت وقد ترجم ابن حجر لسان الميزان لمحدث بصري هودجين بن ثابت اليربوعي كنيته أبوغصن ورد على ذلك صاحب أعلام النبلاء أن أبوالغصن هوالشيخ العالم الصادق العمر بقية المشيخة أبوالغصن بن قيس الغفاري مولاهم المدني عداده في صغار التابعين يروي عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب ونافع بن جبير وخارجة بن زيد الفقيه وأبي سعيد كيسان القبري والقدماء ورأى جابر بن عبد الله فيما أعترف به أبوحاتم حدث عنه مضن بن عيس وعبد الرحمن بن مهدي وبشر بن عمر الزهراني والقعنبي وإسماعيل بن أبي أويس وجماعة وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النوادر)ج7ص25 ويذكر لذلك أن جحا صاحب النوادر هودجين بن ثابت اليربوعي البصري ويضيف رأى دجين أنسا ًوروى عن أسلم وهشام بن عروة شيئاً يسيراً وعنه روى بن المبارك ومسلم بن إبراهيم وأبوجابر محمد بن الملك وألهمي وبشر بن محمد السكري وأبوعمر الحوضي بينما يقول النسائي أن هذا ليس بئقة ويذكر الميداني أنه بلهاء العرب ومغفليه وصنفه مع أبي ضمضم وأبي علقمة وسورة وقد أورد صاحب مجمع الأمثال مثلاً عربياً هوأحمق من جحا حاليا بعض نوادره منصفاً إياه مع ما يضرب بحماقته المثل (أحمق من بيهس (النعامة)وأحمق من ربيع البكاء وأحمق من الدابغ على التحلئ.

وأحمق من راعي ضأن ثمانين) جحا في تراث الأمم الأخرى إن اختلاف المؤرخين حول شخصية جحا لا يعني نفى وجوده هذه الشخصية بل تدل بقوة على وجوده ألا أن جحا تحول مع الأزمنة التالية إلى شخصيات متعددة تؤدي حاجة لإنسانها وهي الظرافة القائمة على النقد السياسي المضمر وخاصة في الأزمنة التي شاعت فيها الصراعات السياسية وقمع الرأي والانتماء وقد نسب لها الناس ما كانوا يعجزون عنه قصد التنفيس عن الكتب السياسية والتعبير عن آرائهم منسوبة إلى شخصية تجمع ما بين الغفلة والبلة وبين الذكاء الحاد وتلك مفارقة تنسف حقيقة أن جحا واحد أنه من صنع أبناء الأزمنة المنسوبة إليه مما يؤكد ذلك أنه ننجد طرائف ونوادر جحا ممتدة من العصر الأموي وحتى العثماني وخاصة في أيام القمع السياسي والجور والظلم ومما يدعم هذا المذهب هوأن هذه الشخصية معروفة بأسماء متعددة لدى مختلف الشعوب الأخرى فهوجحا نصر الدين عند الأتراك وهورجا في بلاد أسيا الوسطى وأرتين لدى الأرمن وبات في أيرلندا وجورج في إنكلترا وتل في ألمانيا، كل هذا يؤكد أن شخصية جحا صنعت لحاجة إنسانية للتعبير عن المحرم السياسي والاجتماعي عن طريق المواراة والقناع.

القناع السياسي في طرائف جحا:
لقد تجاذب طرائف جحا تناقض مثير فهي تارة مضحكة بمافيها من سذاجة وبله وغفلة ومرة تضحك بمافيها من ذكاء أونقد سياسي لاذع وماتحمله من أقنعة مضمرة (فقد ترافق جحا مرة مع تاجر وقاض في الطريق، فسأله القاضي: من كثر لغطه كثر غلطه أما لك أغلاط ؟فأجاب جحا: بلى لقد خرج مني مرة ( قاض في النار بدل قاضيان في النار ومرة أخطأت فقلت إن التجار بدل (الفجار) لفي جحيم. فأخجل الاثنين )هكذا هي طرائف جحا تقوم على بداهة حاضرة وحاذقة تضمر دوماً نقداً ينطوي على قناع سياسي للتعبير عن المحرم السياسي والاجتماعي في ظل سلا طين الظلم والقمع وتقييد التعبير والرأي ولنلاحظ أن بداية هذه الطرائف ترجع إلى أيام الصراعات السياسية الكبرى وما يرافقها من تعسف وقهر وترهيب تكبت الناس فيروي المؤرخون أنه لما( ورد أبومسلم صاحب الدولة العباسية إبان الصراع المرير بين بني أمية وبني العباس إلى الكوفة قال لمن حوله آيكم يعرف جحا فيدعوه إلى فقال يقطين أنا فذهبت ودعاه فلا دخل مجلس أبومسلم ولم يكن فيه غير أبومسلم ويقطين فوقف جحا وقال يا يقطين آيكما هوأبومسلم.. فضحك أبومسلم مستظفر بلهه وقد حمل البعض هذا الموقف قناعاً سياسياً إذ رؤوا في تصرف جحا دلالة على حسن التخلص بالظرافة من اتهام وجود الحاكم. وبين ما نروي كتب التاريخ قصص عن جحا تدلك على حمقه يرى الآخرون فيها قناعاً سياسياً لمداراة السلطان الجائر فيقول صاحب مجمع الأمثال (أحمق من جحا وهورجل من فزارة مكان يكنى أبا الغصن فمن حمقه أن عيس بن موسى الهاشمي مر به ويحفر بظهر الكوفة موضعاً فقال له: مالك يا أبا الغصن قال: إني دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها فقال عيسى كان يجب أن تضع عليها علامة قال جحا: قد فعلت فسأل عيسى ما هي قال سحابة في السماء تظلها ولست أرى العلامة) وقد علق البعض أن جحا إنما أراد تنبيه عيسى بن موسى الهاشمي إلى استدلا لته الخاطئة في الحكم وعدم تدبره العقل والمنطق في ذلك أن بناء هذه القصة على المصادفة لا تخلومن تأليف مدروس يحقق غاية أن الطرفة إنما كانت قضية ومواراة في التعامل مع السلطان الظالم.ولقد حكى عن جحا الكثير من القصص ما يجعلنا ندرك أن قناع لفلسفة مجتمع كامل فهوحاضر في الأفراح والأتراح والظلم والعدل وكل المواقف التي لا تجمعها إلا مجتمع بأسره ولنلاحظ الغاية التي تنطوي عليه حكاية جحا مع الجريمة قيل ( أنه خرج من منزله يوماً بغلس فعثر في دهليز منزله بقتيل فضجر به وجره إلى بئر منزله فألقاه فيها فنذر به أبوه فأخرجه وغيبه وخنق كبشاً حتى قتله وألقاه في البئر ثم أن أهل القتيل كانوا في سكك الكوفة يبحثون عنه فتلقاهم جحا فقال في دارنا رجل مقتول فانظروا أهوصاحبكم فعدلوا إلى منزله وأنزلوه في البئر فلما رأى الكبش ناداهم وقال يا هؤلاء هل لصاحبكم قرن فضحكوا ومروا.

لنلاحظ في هذه الحكاية التقاء الذكاء والسذاجة وكأنناً أمام مسرحية كوميدية قصيرة تنشد الأضحاك والإيماء معاً. ولوتتبعنا ما يروى عن جحا عبر مراحل زمنية متعددة فإننا سنحظى بالبعد السياسي لنوادره منها هوجحا يدل الناس إلى سبيل التخلص الذكي من بطش تيمورلنك فيمكن أنه لما استولى السفاح على بلاد الأناضول يحضر علماء البلدة وفضلاؤها ويسألهم أنا عادل وأم ظالم فإن أجابوه أنك عادل ذبحهم وأن قالوا أنك ظالم قتلهم فضاق ذرعهم فجاؤوا يقصدون الشيخ لما أشتهر به من الأجوبة السديدة الحاضرة وقالوا له :لا ينقذنا من شر هذا الظالم عيرك فذهب جحا وحضر مجلس تيمورلنك ولما سأله السفاح أجاب أنت لست ملكاً عادلاً ولا باغياً ظالماً لماً فالظالمون نحن وأنتم سيف العدل الذي سلطه الواحد القهار ذوالجلال على الظالمين، وكما أسلفنا تكثر قصص جحا مع الحكام وبراعته في التخلص سخطهم لكن نوادر جحا لم تقف عند البعيد السياسي المباشر بل انطونت على ما ينتجه من أزمات اجتماعية تجعل إنسانها مأزوماً اجتماعياً ووجودياً نتيجة القمع والظلم وقد كثرت هذه الطرائف حتى شاعت الأمثال الشعبية عنه من مثل (ما قاله جحا) وذلك عند استهجان حادثة ما وذلك( جحا يضيع حماره ليجده ويفرح) وهومبنى على حكاية مفاده أن جحا أضاع حماره فأخذ ينادي في السوق : من يجده يـأخذه مع بردعته ومقوده فسأله ما الفائدة من وجوده إذا كنت تريد أن تعطيه بطقمه فأجابهم أنكم لا تعرفون لذة وجود المفقود. وهناك حكاية تروى عن جحا في حسن تخلصه من شهادة الزور تقول (غافلوا جحا وأخذوه شاهد زور للمحكمة فادعى المدعى على خصمه بحنطة فلما سأله القاضي قال جحا :
أشهد أن لهذا الرجل بذمة هذا الرجل مئة رطل شعير فسأله القاضي حنطة أم شعير فرد جحا (يا سيدي القاضي مادامت الشهادة كاذبة فالحنطة والشعير سيان) أن قصص جحا لا تحص وهي متبدلة حسب الأزمنة والأمكنة وما يتبتدع فيها كون شخصية جحا كما ذهبنا هي صنيعة الحاجة وهي طربوشاً يوارى تحتها رأساً سياسياً يقنع المحرم با الضحك وأن كان هناك من أصول تراثية فإنما هي دلالة على تقلب الشعوب بين فنون القمع والقهر السياسي عبر العصور والأمكنة المختلفة

تحت طربوش جحا رأس سياسي تقنّع المحرّم بالضحك

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى