السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

جمالية اللغة الشعرية عند جوزف حرب

إنَّ اللُّغة الشعريَّة هي جوهر الإبداع؛ ووسيلة الصياغة الشعريَّة؛ وهي أداة الشاعر الطيعة في بناء الصورة، وتحفيزها البصري والجمالي؛ والشاعر خلاّق لغة؛ أي: خلاّق صور وتراكيب شعريَّة جديدة، ولذا؛ عليه يقع الاعتماد في خلق الإثارة الشعريَّة وتحفيزها؛ في مضمار اللغة الشعريَّة، وعليه تقع مسؤولية جذب القارئ من خلال مهارته اللغوية الإبداعية المتميزة، وصياغته المتفرِّدة؛ ولذا؛ فإنَّ "الشاعريَّة أو الأدبيَّة هي ما يمكن أن نسمِّيه بالمضمرِ أو المسكوت عنه؛ وهذا المضمر هو ما يثيره النصّ لدى متلقيه، ومن هنا، فهي تجاوز وتخطٍّ لأي تحليل أحادي يجعل سبيله – فقط- البحث عن خصائص لغويّة؛ ولا ينفي ذلك – بالضرورة- قيمة هذا التحليل؛ ولكنه – بالضرورة أيضاً- لا يفي بمتطلبات قراءة النصّ؛ ومن هنا يكون التأويل مشروعاً ومطلوباً؛ ومهما يَتَنَّوع أو يتعدَّد فإنَّه لا يُلْغِي تأويلاً سواه؛ ولا يهدِّد مضمراً غيره، لأنَّ المعجم اللُّغويّ – هنا- يتوقف على إمدادنا بما نوده، وتظلُّ الدلالات أشبه بهامشيَّات معجميَّة؛ تتولَّد أطيافُها من مختلف دلالات معجميَّة أخرى"().

وهذا يدلنا أنَّ اللغة الشعريَّة ولادة متجدّدة؛ ولتبقى - كذلك- ينبغي أن تتطور لغة الشاعر مع مطلع كل قصيدة؛ وعلى هذا؛ فالكتابة الشعريَّة الراقية تفجر مستمر، وتغاير دائم؛ وعلى هذا أكَّدَ أُدونيس بوصفه شاعراً وناقداً من الطراز الرفيع على ضرورة فهم عملية الكتابة الشعريَّة؛ إذْ يقول: "الكتابة الشعريَّة عملٌ مزدوج: تفجِّر اللغة الشعريَّة المثقلة، المشحونة باللغة الأيديولوجيَّة التقليديَّة؛ وتفجِّر بنيتها التركيبيَّة وأشكالها، إنَّها تُحَرِّر اللغة الشعريَّة من مناخها الفني التقليدي، وتدخلها في مناخ آخر"().

واللغة الشعريَّة - من منظور أُدونيس- ليست فقط عملية ولادة؛ وإنما عملية خلق وإبداع دائمين، وضرورة وجوديَّة كذلك؛ إذْ يقول: "إذا لم أكتبْ، فأنا أشعرُ بأنَّني غير موجود. بالكتابةِ أكتشفُ من أكون، أتعوَّدُ اكتشاف ذاتي، والإفصاح عنها... تتيح لي الكتابةِ أيضاً معرفة الآخر. ومعرفة العالم بالتأكيد. يراودني إحساسٌ بأنَّ الحياة بأكملها حركة اكتشاف متواصلة. وهذه الحركة تتيح للإنسان أن يشعر بأنَّه موجود؛ وأنَّه يساهم في خلق العالم، وفي تغييره...وما يمكن أن يقال عن الشعر، يمكن أن يقال على جميع أشكال الخلق والفن والفلسفة...إلخ"().

إنَّ رؤية جوزف حرب للغة الشعريَّة لا تقل قيمة أو أهمية عن رؤية أُدونيس؛ فالشاعر جوزف يُعَدَّ اللغة الشعريّة لغة الحس الشعوريّ المصوَّر بأسلوب جمالي وبحساسيّة فنية عالية؛ وهذه الحساسيّة هي التي تميِّز الشاعر الجيد عن الشاعر الردِيء؛ يقول جوزف حرب في حوارنا معه : (اللغة هي قنديل الإبداع المضيء الذي يضيء التجربة بقنديل من نور، ويبعث فيها شعاعها البهي الطهور.. إنها أداة المبدع الطيعة التي يشكلها ببوح الخيال،وسحر الجمال.. باختصار إنها حياة النص،وقلبه النابض)(4) لهذا؛ عمد الشاعر جوزف حرب إلى تحفيز قصائده بتشكيلات لغويَّة جديدة؛ تعتمد لغة الابتكار، من خلال هندسة الجمل، وهندسة إيقاعها الخارجي والداخلي؛ وهذا؛ ليس بغريب على شاعر حسّاسّ، شاعر أعطى للقصيدة مناخاً شعوريًّا جديداً، وأفقاً تشكيليًّا متميّزاً في سماء الفن والحداثة الشعريَّة، وللتدليل على هذه المهارة التشكيليَّة، والقدرة الّلغويَّة التصويريَّة العالية التي يملكها جوزف حرب؛ سنجري إضاءات على هذه اللغة من خلال التقنيات التي حققتها على الصعيد الدلالي والتشكيلي في آن؛ نذكر من هذه التقنيات:

1- اللغة/ والتنظيم النسقي:

ونقصد بـ [اللغة/ والتنظيم النسقي]: تنظيم الأنساق اللغويَّة في القصيدة؛ لتحفيز مدلولاتها، ومستثيراتها الدلالية؛ إذْ إنَّ التنظيم النسقي يهب الصورة الشعريَّة أيقونتها الدلاليّة المكثفة، وشعريتها المفعمة بالإدراك، والشعور العميق؛ ويُعَدَّ التنظيم النسقي عنصراً مهماً في تحقيق الاستجابة الشعريَّة؛ واللّذة الإيقاعيَّة التي تطرب لها الأذن؛ نظراً إلى الإيقاعيَّة الخفية التي تحملها الأنساق اللغوية المتضافرة ضمن السياق الشعريّ.

وقد جاءت قصائد جوزف حرب منظمة نسقيًّا؛ يإيقاعات متضافرة؛ منها إيقاعات بصريَّة، ومنها إيقاعات لغوية؛ ومنها إيقاعات صوتية تتبدّى أكثر ما تتبدَّى في حركة الأنساق الّلغويَّة المتضافرة، وتنظيمها النسقي المتوازن، الذي يخلق هندسة إيقاعيَّة تستثيرها حركة نصوصه؛ بإيقاع داخلي يحفِّز العبارة الشعريَّة من الداخل، قبل تحفيزها من الخارج بالأنساق الّلغويَّة المتضافرة خاصة في القوافي الشطريَّة، كما قوله:

"أيتُّهَا العريشةُ العاريةُ الصفراءْ
إنَّا معاً في حضرةِ الخريفْ، لا ورقٌ فينا، ولا حفيفْ
ماضٍ، ولَنْ أعودَ. أقبلَ المساءْ.
أيتُّها العريشةُ العاريةُ الصفراءْ
أدرككِ الخريفُ مثلي.
سوفَ تمضينَ كما أمضيْ.
فلا تَنْسِيْ إذاً
نيسانُ جاءْ، أنْ ترجعي عريشةً خضراءْ"().

لابد من الإشارة بداية، إلى أن اللغة الشعرية –في قصائد جوزف حرب تحقق منتظمها الفني الجمالي من حيث توليف الكلمات والجمل برشاقة،وإيقاعية جمالية مفعمة بالشعور، والإحساس والشاعري. وهنا نحنُ، إزاء نصّ منظم نسقياً تقوده حركة الأنساق اللُّغويّة التقفوية المتوازنة؛ محققة درجة إيقاعيَّة مثلى تنبعث من صدى الإيقاع الداخلي؛ لحركة الأنساق اللغويّة المتوازنة بين الأنساق المضافة، والأنساق الوصفية، والأنساق التقفويّة التي تعتمد حروف المدّ، وتكرار الصيغ، بفواصل متوازنة منظمة تثير إيقاعها الداخلي؛ وتعكس هذه الإيقاعية بالحس اللغويّ والإدراك الفني لنسيج هذه الأنساق ضمن القصيدة؛ كما في حركة الأنساق التالية: [العارية = عريشةً خضراء]، و[حضرة الخريف = لا حفيف] [ماضٍ = أمضي] [أقبل المساء = نيسان جاء]؛ إنَّ هذه الأنساق اللغويَّة المتوازنة تثير القارئ بإيقاعين:إيقاع موسيقي يرنّم الحركة الإيقاعية؛ ويزيد تآلف النغم ونسقه الصوتي الإيقاعي العذب؛ وإيقاع لغوي؛ يؤكد الهندسة المحكمة للتشكيلات الُّلغويَّة المتوازنة التي تنسجم والإيقاع الرومانسيّ للحالة الشعوريّة المجسدة؛ إزاء الإحساس باليأس والهرم الذي يعشش في باطن الذات؛ مسقطاً هذا الإحساس على الطبيعة؛ لتبدِّد جهامة هذا الإحساس من خلال ما تبثه من أمل، واخضرار؛ وخصوبة وروحانيَّة وصفاء، وهذا ما نلحظه في قوله: فلا تَنْسِيْ إذا نيسانُ جاءْ، أنْ ترجعي عريشةً خضراءْ".

وقد أتاح هذا التنظيم النسقي للأنساق اللغويَّة – في قصائد جوزف حرب- أن يثير نصوصه إيقاعيًّا ودلاليًّا من خلال خلق هذا اللون من الانسجام والتآلف التصويري بين الأنساق اللغويَّة، والمواقف النفسية الشعوريَّة التي تبثها حركة هذه الأنساق، أو الإيقاعات اللغويَّة مجتمعة، كما في قوله:

"هَلْ ألومُ سَرِيْرَكِ؟
أنتِ الفتيَّةُ كالجمرِ.
كيفَ أغارُ إذا ضَاجَعَتْكِ الرياحُ، ولا شيءَ فيَّ
وليس صَحَارى؟
تناديكِ شهوةُ هذا السريرِ، فتعرينَ مثل الظهيرة للراقصينَ بعيدِ الحصادِ.
فكيفَ يحقُّ لهذا الخريفِ الذي بي أنْ يغارَ؟
وأغضبُ منكِ وأَغضبُ" ().

لابد من التأكيد بداية أن شعرية اللغة –في قصائد جوزف حرب- تتأسس على فاعلية التنظيم الدقيق للمفردات والأنساق الشعرية،وهذا ما يجعلها ذات قيم فنية متوالدة،وأنساق ائتلافية منسجمة ، إن إيقاعاً أو صوتاً؛ وهنا، تكمن فاعليَّة حركة الأنساق اللغويَّة من خلال تفعيلها النسقي الائتلافي بين حركة الأنساق اللغويَّة المضافة حيناً، والوصفيَّة حيناً آخر؛ محقِّقاً درجة قصوى من التآلف النسقي بين الأنساق اللغويَّة التالية: [سريركِ = هذا السرير] [الظهيرة = الراقصين] [الخريف = الرياح] و[أغارُ = يغارُ]؛ وهكذا؛ يزحزح جوزف حرب النسق الإيقاعي المتوتر بالأنساق الوصفيَّة المنكسرة حيناً، والمتوازنة حيناً آخر، لشعرنة قصائده بالتماوج الإيقاعي على المستوى الصوتي والدلالي معاً.

ومن ناحية أخرى؛ قد تأتي بعض قصائد جوزف حرب مؤسَّسة - جماليًّا- على التنظيم النسقي لحركة الأنساق اللغويَّة؛ وهذه الأنساق لا تحفِّز الإيقاع الداخلي فحسب؛ وإنما تحفّز الرؤى؛ وتستثير الفاعلية الجمالية التوَّاقة لهذا النوع من الائتلاف النسقي المنظم، كما في قوله:

"لَمْ أجِئْ كي أُقيمَ بظلٍّ من الوقت، أو أدَّعِيْ مرفأً، أو وصولاَ
فإنِّي رأيتُ الكثيرَ قليلاَ.
وما عدتُ أملكُ من جسدِ العشقِ للكونِ حتَّى النُحُولاَ
ورسولي إلى الليلِ قنديلُ رُوحي، وقد قَتَلُوا في بلاطِ الظلامِ الرَّسُوْلاَ.
ورغمَ هدوءِ المجاذيفِ فيَّ، وأنِّي محوتُ المدى، وطويتُ الفُصُولا
فلا شيءَ إلاَّ غبارٌ وملحٌ، وبيتُ وصولٍ أرى انتظاري فيهِ الرَّحِيْلا" ().

لابد من الإشارة إلى أن سحر اللغة ومصدر جماليتها- عند جوزف حرب- أنها تشعرك بنكهة الإبداع الصافي من خلال هذه الأنساق المتوالفة في تشكيلها وحراكها الفني.وهنا، يبدو لنا أن المقطع مشبع بالأنساق الّلغويَّة، المنظمة نسقيًّا؛ بإيقاع التقفيات المنسجة فيما بينها؛ ليخلق منها موقفاً وموضوعاً جماليًّا؛ يُعزِّز منحاها التأملي في البوح عن المعاناة الداخلية؛ ليبدو لنا الإيقاع إيقاعين متماثلين: إيقاع نغمي مبثوث من أصداء الذات؛ يتشكل نسقيًّا بمهارة الشاعر وحنكته التعبيريَّة على تشكيل تلكم الأنساق اللغويَّة المتضافرة فيما بينها، كما في قوله: [وصولا = قليلا- النحولا- الرسولا- الفصولا- الرحيلا]، ناهيك عن تماوج النفي [لم أجِئ = ما عدتُ/ فلا شيء] مع الإثبات [إني رأيت- إني محوتُ]، مولِّداً حركة نغمية على صعيد التشكيلات اللغويَّة، والأصداء الدلالية بين [السلب/ والإيجاب]/ و[ البوح/ والتصريح]،و[الإخفاء/ وعدم الإظهار]؛ ينسابُ هذا الإيقاع النصي على صعيد الدلالات والرؤى الاغترابية التي تنحو إلى تأكيد اليأس، والإحساس بالفقد والّلاجدوى؛ أما الإيقاع الثاني فهو إيقاع نفسي؛ يتصاعد شيئاً فشيئاً عن طريق تفعيل هذه الأنساق اللغويَّة المنظمة على صعيد التقفيات حيناً، وعلى صعيد الرؤى الاغترابية الحزينة التي تنزع إلى الرحيل حيناً آخر؛ وهو - بهذه الهندسة النسقيَّة- يفجر فينا شهوة الإحساس الدافئ الذي يكمن في أعماقنا؛ للإحساس بشعور الشاعر، ومعاناته واغترابه؛ أي يستثير فينا حسّ التأمل وعاطفة التفاعل مع النصّ؛ وهكذا، يُسَلِّمنا جوزف حرب إلى أصداء قصائده بنغمات إيقاعيَّة؛ تنساب من خلال أنساقها اللغويَّة المنظمة؛ لنتفاعل معها من الداخل؛ بنغمات مؤتلفة تتركها تلكم الأنساق في أنساق القصيدة وعباراتها كلها؛ لتبدو أشبه بتلك الذبذبات النغمية التي تثير الأسماع لحظة الانتهاء من الفاصلة الشطريَّة؛ أو النغمة الختامية التي تثير مفاصل القصيدة كلها.

وقد ينوِّع في إيقاع أنساقه اللغويَّة بين إيقاعات نسقيَّة عديدة؛ لكنها تنزع كلها إلى الانتظام والائتلاف؛ لتؤكِّد تنظيمها وتنسيقها المحكم؛ وكأنَّها موقّعة إيقاعيًّا بشبكة متواكبة من الأنساق المنظمة؛ التي تسهم في تجسيد أضواء فنية كاشفة لأنغامها وأصدائها الترنيميَّة العميقة، كما في قوله:

"مَضَى ألفُ عصرٍ عَلَيّْ
وما غيرُ رائحةِ الوقتِ، والملحِ، فوقَ يَدَيّْ.
مَضَى ألفُ عصرٍ عليّْ،
فَمَنْ كانَ لصًّا فقد صار لصّيْنِ.
والسجنُ صارَ سُجُوناً.
وأصبحَ أقصرَ عُمْرُ الحدائِقِ، والشوكُ أصبحَ أقْوَى وأعلى.
ويا طعنَةَ الرُّمْحِ، كم أنتِ أرفقُ ممَّا يحاصِرُني اليومَ مِنْ أسلِحَهْ.
لقد ضاقَ بَهْوُ الأسابيعِ، واتَّسَعَتْ قاعَةُ الأضْرِحَهْ.
...ولكن إلى الآن مازال يدخلُ بيتُ يدي ويبكي"().

إنَّ هذا النصّ يمضي بنسقِهِ السردي الوصفي مثيراً حركات نغمية متواشجة بين الأنساق الوصفيَّة، والأنساق المضافة؛ تاركاً القارئ يغوص في مداليل هذه الأنساق الدالّة على الحزن،والكآبة، والاغتراب الوجودي؛ فالشاعر يحاول أن يكتشف وجوده؛ متأملاً معالم هذا الوجود؛ لكن الزمن يفلت من بين يديه؛ وينكسر حلمه أم ضباب الحزن، وغيوم الكآبة، والدموع، واليأس، والانكسار؛ "ولكن إلى الآن مازالَ يدخُلُ وجي بيتَ يديّ ويبكي"؛ وهنا، تتجلّى حركيَّة القصيدة وتناميها التشكيلي بتآلف الوصف السردي، الذي يراكم الحالات النفسية الشعوريَّة العميقة في مداليل العبارة وزخمها النفسي/ والأنساق اللغويَّة المنظمة التي يبثها في حركة قوافيه على شكل إيقاعات داخلية تنبعث من أصداء العبارات وتواشجها النسقيّ المنظّم، إذْ يقف الشاعر على القوافي الائتلافية التي تترك نصه في حالة توهج إيقاعي وبثّ نفسي لمداليل الشعور الداخلي المنبعث من أصداء ذاته الحزينة الجريحة التي تتلمس الوجود؛ لكنها تصدم بالضباب والتلاشي والجراح والدموع؛ وهكذا تسهم الأنساق اللّغويَّة المنظمة تقفويًّا/ ودلاليًّا في تحقيق درجة عليا من التآلف الإيقاعي/ والدلالي؛ لبلوغ القصيدة ذروتها الفنية، وإثارتها الدلاليَّة، من خلال بثّ منعرجات الذات وأحاسيسها؛ بتنظيم نسقي يرسمها بوضوح أمام المتلقي.
2- اللُّغة وتبئير الحدث الشعريّ:

ونقصد بـ [اللغة/ وتبئير الحدث الشعريّ]: تعميق الحدث الشعريّ من خلال تحفيز الرؤية؛ ليكون الحدث مكمن تفاعل المستويات اللغويَّ، وتفجير مداليلها كلها؛ وأنساقها التصويريَّة والتشكيليَّة على اختلاف تشعباتها وتفرعاتها في كيان القصيدة؛ ومن هنا؛ فإن تبئير الحدث الشعري يعني – بالدرجة الأولى- تشكيل رؤية جديدة متمحورة حول بنية الحدث، ومثيراته النفسية، والبصريَّة، والدلاليَّة؛ وإذا كان جوزف حرب قد تميّز على مستوى الصورة، والرؤية، والإيقاع العاطفي الرومانسي في نصوصه؛ بوصفه شاعراً تصويريًّا من الطراز الرفيع من خلال بداعة الصورة، وفضاء متخيلها الشعري، وتجسيدها البصري؛ فإنه برز - كذلك- على مستوى تبئير الحدث، وتفعيل الرؤية، وممغنطتها للأحداث الجزئية، والأنساق اللغويَّة؛ لتبدو قصائده ذات أفق تأملي مفتوح، وهندسة تشكيليَّة بارعة في تشكيل العبارة؛ ونحت الصورة، وحياكة المشهد الشعريّ بطريقة تجسيديَّة ترسم الحدث، وتوسِّع آفاق الرؤية؛ الأمر الذي يجعل نصوصه الشعريَّة نصوصاً بانورامية؛ متشعبة الأحداث، والرؤى، والدلالات دون أن تترك أثراً لتنافرٍ، أو نشوزٍ، أو خلخلة في بنية تشكيل الأنساق اللغوية، وتفاعلها النسقي، وائتلافها التشكيلي، كما في قوله:

أيُّها الكونُ، لماذا عندما أًصغي إلى أشرعةِ الموتِ، أرى كَمْ أنتَ يا كونُ جميلُ، وبعيدٌ وجليلُ. ومع الرملةِ في الصحراءِ، كَمْ أنتَ كريمٌ، ومعي، يا كونُ، كَمْ أنتَ بخيلُ!
لَمْ أزَلْ في عمقِ أعماقي لا شيءَ، لعليَّ ليس لي ظلٌّ، ومن كثرةِ ما أنِّي ضئيلُ
لا تُرَاني عَيْنُ ممحاةٍ ولا فيَّ زوالٌ. وَحْدَهُ الشيءُ إذا كانَ يَزُولُ"().

يستوقفنا - في هذه القصيدة- أمران: أحدهما: تبئير الرؤية صوب الحسّ الشعوريّ المأزوم؛ إزاء وجوده الذي يتمخض عنه إحساسه اليائس بالضعف، واليأس، من وجوده المتلاشي؛ وإحساسه بالضآلة الوجوديَّة. أمَّا الثاني فيتمثل في تكثيف الأنساق اللغويَّة؛ التي تعبِّر عن تأملاته الوجودية، وإحساسه المتراكم باليأس الوجودي؛ إذْ تلاشى الأمل أمامه؛ ولم يبقَ إلا سراباً أو خيوطاً من ضبابٍ ضئيلة؛ ووجود عبثي ضئيل؛ يصل إلى درجة التقزم والاضمحلال، كما في قوله: "ومن كثرةِ ما أنِّي ضئيلُ/ لا تُرَاني عَيْنُ ممحاةٍ ولا فيَّ زوالٌ. وَحْدَهُ الشيءُ إذا كانَ يَزُولُ)". ولاشكَّ في أنَّ النصّ مُبَأَّرٌ حول هذه الرؤية اليائسة التي رسمها؛ وكل صورة أو جملة تعكس طبيعة الحدث الشعريّ الذي يجسده من إحساسه القلق، اليائس الذي يرسم أصداء ذاته المنكسرة؛ المتصدعة بالحزن، والدموع، والعتمة، والظلمة الوجوديَّة، أو المحو الوجودي؛ وقد جاء قوله التالي: "كَمْ أرى نفسي مرَّاتٍ، ضباباً، دَبَّ في خيطانِهِ البيضِ النُّحُولُ"؛ يائساً معبِّراً عن عمق التلاشي والأسى الوجودي؛ وبهذا النهج المتمثل في زعزعة الرؤى، وبلورة الإحساس الوجودي يرسم الشاعر أبعاده النفسية الشعوريَّة، بحسّ تصويريّ؛ يرتحل صوب التلاشي، والمحو الوجودي.

والَّلافت أنَّ نصوص جوزف حرب الشعريَّة ذات الطابع التوصيفي السردي؛ تعتمد توالي الأفعال التي تبئر مدلولها صوب الحدث الشعريَّ؛ لهذا؛ تكتسب نصوصه شرعيتها المشهديَّة؛ بإيقاعها الرؤيوي العميق حيناً؛ وإيقاعها البصري المجسد؛ بطابع عاطفي شفيف، حيناً آخر؛ ومن هنا؛ تلعب الأفعال دورها الحدثي بنسق زمني يُبَئِّر رؤيته صوب الحدث الشعري المُجَسَّد أو المشهد الغزلي المرسوم بعدسة مونتاجية شعريَّة عميقة الحسّ والشعور الغزلي، كما في قوله:

"لا أستطيعُ النومَ للآنَ مَعَكْ.
فَلَمْ تَزَلْ رائحتي ملأى رجالاً.
أعطني بعضاً من الوقتِ لكي يَغْسُلني حبُّكَ مِنْهُمْ.
آه كَمْ أحتاجُ في عشِقكَ هذي النارَ حتّى جسديْ يطهرُ من أجسادهِمْ. دعني أذُبْ أكثرَ، أقلقْ، أحترقْ، أشتقْ.
أكادُ أنْ أجُنَّ كي أنامَ ليلةً معكْ
لكنّني لا أستطيعُ النومَ للآنَ معكْ.
أُحبُّ أنْ أنامَ مَلأَى بنقاءِ العشقِ./ حتّى إنْ شممتني، وقد لَفَفْتَ حولَ قامتي أجنحتَكْ شممتَ بي رائحتَكْ"().

هنا؛ يعتمد الشاعر تبئير الرؤية؛ وتعزيز مدلولها الغزليّ؛ إذْ يطغى - على القصيدة- الطابع الشعوريّ الغزلي الذي يشي بالعذوبة، والنقاء؛ فالمحبوبة تحاول أن تُطَهِّر ذاتها من دنس الرجال السابقين، لتتطهَّر بحبه الذي يمثل لها الصفاء المطلق؛ إنَّ هذه القدرة التعبيريَّة على خلق الإثارة التشكيليَّة في نسقها اللغويّ؛ تدفع الحركة التعبيريَّة صوب بؤرة الرؤية المركزيَّة؛ التي تعتمد التطهير من دنس الخطيئة؛ لتغدو طاهرة من دنس الماديَّات؛ لإبراز التناقض، بين ما كانت عليه، وما آلت إليه بحبه؛ فهي أصبحت نقية كنقاء الحبّ، وصفائه، وجماله، وروحانيته التي تهدهد النفس، وتبهج الفؤاد والروح.
وقد تعتمد بعض النصوص الشعريَّة - عند جوزف حرب- على القفلة النصّيَّة المثيرة؛ مُبَئِّراً الرؤية الشعريَّة، أو الحدث الشعريّ في فاصلة الختام؛ ليعزِّز إيقاعها الجمالي المحكم، كما في قوله:

"فَتِّشْ عميقاً في الجناحْ،
تَصِلْ إلى العصفورْ.
فَتِّشْ عميقاً في البياضْ، تصِلْ إلى الكُحْليّْ.
فَتِّش عميقاً في الحِرَابْ،
تصل إلى الطحينْ.
فَتِّشْ عميقاً في الغمامْ، تصل إلى البحارْ.
فَتِّشْ عميقاً في دواةِ الشِّعْرِ حتَّى المرَّةِ الأولى التي قد عُرِفَ فيها الموتْ، تَصِلْ إلى نايٍ وصوتْ"().

هنا؛ تبدو القصيدة أنَّها تمركز رؤيتها على الجدل الشعوري صوب الموجودات؛ معتمداً القفلة المثيرة التي تترك حيّزها الجمالي المتنامي بآليات تشكيليَّة؛ تخلق الإثارة؛ وتُعَزِّز حسّ الإدراك التخييلي بالقفلة النصّيَّة المدهشة التي تثير القارئ؛ كما في قوله:( فَتِّشْ عميقاً في دواةِ الشِّعْرِ حتَّى المرَّةِ الأولى التي قد عُرِفَ فيها الموتْ، تَصِلْ إلى نايٍ وصوتْ)"؛ والَّلافت أنَّ الجمل كلها تعتمد على صيغة واحدة تقريباً منظمة نسقيًّا، بإيقاع الجدل الشعوريّ بين الإحساس بالأمل، وتلاشي الأمل، بين ثنائيات متوازنة، أو متضادة؛ كما في الثنائيات التالية: [الجناح = العصفور]، و[البياض/ الكحليّ]، و[الحرابْ/ الطحينْ]، و[الغمامْ/ البحارْ]، و[ناي/ صوت]؛ إنَّ هذه القدرة على جمع الأنساق اللغويَّة، وتفعيلها في الفواصل الشطرية، والقفلة الختامية يُعَزِّز شعريّة القصيدة عند جوزف حرب؛ ويمدّها بألق جمالي مفتوح يفتح أفق التأمل والاستغراق بما تبثه رؤاه من مثيرات بصريَّة- تشكيليَّة تحفّز قصائده، وتبعث جمالها بسحر الإيقاع وترانيمه الصوتية المتوازنة.

3- اللغة وتحفيز الدلالات:

ونقصد بـ [اللُّغة وتحفيز الدلالات]: أن يكثِّف الشاعر الرؤى والدلالات المتضادة والمترادفة في تعزيز إيقاع الصورة، وتعميق رؤاها الشعريَّة؛ بالمنافرة والاختلاف النسقي حيناً؛ وبالمواءمة، والانسجام، والتضافر اللّغوي حيناً آخر؛ لدعم الحسّ اللّغويّ التشكيليّ بعملية الإبداع والتآلف النصّي- التشكيليّ؛ كما لو أنَّ الشاعر يبدع الصورة؛ لخلق الدهشة، والإثارة، والترسيم الشعوريّ المرهف بعملية الخلق الشعري؛ بحيث يتصاعد التعبير الجمالي كلّما تغوَّر الشاعر، وأطنَبَ في ترسيم الصورة؛ وتعميق المشهد الشعريّ؛ مفعِّلاً الأنساق التصويريَّة كلها؛ لخلق حركة نسقيّة متضافرة؛ تسهم في تحفيز الدلالات؛ وتعميق إيحاءاتها في نفس المتلقي.

وقد استطاع الشاعر جوزف حرب بحنكته اللُّغويَّة، وقدرتها التشكيليَّة البارعة على استقطاب القارئ بالمحفِّزات الدلاليَّة، وإثارتها التشكيليَّة، بوساطة الترسيم الشعوري الدقيق للأنساق اللّغويَّة، لتحفيز دلالاتها، واستقطابها الشاعري المثير للمواقف والأحداث الغزليَّة، كما في قوله:

"فتحتُ شُبَّاكيْ
وكانَ الليلُ بَردْ،
وشمعةٌ في غرفتي، كحبَّةٍ من بلحٍ أحْمَرَ، أو كَزِرِّ وردْ،
هبَّ الهواءُ، أصبحتْ في لوحةٍ سوداءَ نَهَدْ"().

هنا؛ بدأ تحفيز الدلالات، والرؤى بالجملة الفعليَّة: [فتحتُ شُبَّاكي]، ثم أردفها بجملة حالية تصوِّر الطقس الذي كان عليه؛ وقد جاءت الجملة الثالثة: [وشمعةٌ في غرفتي، كحبَّةٍ من بلحٍ أحمر، أو كزرِّ وردْ] مُحَفِّزة الدلالات؛ بإثارتها التشكيليَّة؛ وترسيمها النسقي؛ الدقيق بين القافيتين [برد= ورد]؛ وقد جاءت الإضافات المتواترة بحرف الكاف التشبيهي [كحبة= كزرِّ ورد] باثة إيقاعات داخلية؛ تضفي على الصورة تحفيزاً بصريًّا ودلاليًّا في آن؛ وقد عمَّق هذا التحفيز الدلالي الجملة الختاميَّة، لتؤكد المواءمة التشكيليَّة بين [البلح الأحمر/ والورد/ واللوحة السوداء، والنهد]؛ وهنا، يتصاعد الألق التعبيري بهذه القفلة؛ مكتسباً عمقاً تأمليًّا وجمالاً تخييليًّا بارعاً من خلال النسقين المتوائمين [كزرِّ ورد = أصبحت في لوحةٍ سوداء نَهَدْ]؛ وهذه الموازاة التشكيليَّة- الإيقاعيَّة في حركة النسقين؛ تسهم في تحفيز الدلالات، وخلق الدهشة الإيقاعيَّة الداخلية بين النسقين، بتوائم وتفاعل وانسجام تام على المستويات التعبيريَّة كلها.

وقد يعمد جوزف حرب إلى شعرنة اللغة، وتحفيز الدلالات بالإضاءات المشهديَّة، والشذرات التصويريَّة المرافقة للمواقف الغزليَّة، والرؤى واللقطات المشهديَّة الغزليَّة المفاجئة؛ كما في الشاعر:

"وكانَ لنا مَوْعِدٌ في المساءِ،
جميلٌ كقامَتِها في الضبابِ،
سريعٌ كنومٍ، رقيقٌ كماءِ.
ومِنْ شغفي باللقاءِ، رأيتُ الدقيقةَ عاماً.
ورحتُ أشيخُ إلى أنْ غدوتُ عجوزاً،
عَصَاتِي عُكَّازُ ريحٍ، وجِسْمِي غمامُ شتاءِ.
وجاءَتْ، فَمَا عَرِفَتْنِي
استراحتْ قليلاً، وراحتْ"().

هنا؛ يرسم الشاعر المشهد الغزليّ رسماً فنيًّا؛ بادئاً بتشعير اللغة، والقوافي الشطريَّة، من دون أن تطغى صورة على صورة؛ أو قافية على قافية، إذْ تأتي كل صورة ومثيلتها في التركيب؛ وكأنَّ خيطاً دلاليًّا يشدّها؛ ويحفّزها لاستقطاب الصورة الأخرى في نسق تآلفي انسجامي يرسم الصورة ومثيلتها بريشة فنية؛ وهذا ما ينطبق كذلك على القوافي؛ إذْ تأتي القوافي منسابة بإيقاع هادئ بعد دورة تصويريَّة إيقاعيَّة متآلفة محكمة؛ تخطها من بداية الجملة إلى نهايتها؛ وكأنَّ الكلمات تتخلى عن دلالاتها؛ لتدخل في دلالات تحفيزيَّة جديدة؛ تقود حركتها النسقية بتماسك خفي؛ يشدُّ الصور؛ ويخلق الدلالات الغزليَّة؛ فالشاعر رسم مواقفه الغزليَّة الشعوريَّة بحيازة جماليَّة تلّفت القارئ إلى سيرورتها الدلاليَّة ونسقها الجمالي المحفِّز للقارئ المتأمل بعمق لنصوصه الشعريَّة.

وقد يلجأ جوزف حرب إلى تحفيز الدلالات بالصورة المشهديَّة الغراميَّة المعقدة، التي تترك مسافة تصوريَّة لدى القارئ بنزوعها إلى القصّ المشهدي الترسيمي في التعبير عن الحالة النفسية الشعوريَّة، كما في قوله:

"كُلَّمَا نِمْنَا معاً، تُغْمِضُ عَيْنَيْهَا؛ وتغدو امرأةً عاريةً بينَ يَدَيهْ.
تَتَصَوَّرْ
أنَّها نائمةٌ ليس معي، بل مَعَهْ، أشْعُرُ في ذلك لمَّا جِسْمُهَا، أو حركاتُ الصوتِ فيها تَتَغَيَّرْ
فهي آناً تَتَكَسَّرْ
وهي آناً مَدُّ آهاتٍ إذا في فَمِهِ قد أغرقتْ ياقوتةَ النَّهْدِ المدوَّرْ
وأنا أشْعُرُ أنِّي قَيْدُهَا لا مُشْتَهَاها.
وهي لا تصرخُ من رَعْشَتِهَا في التختِ لكنْ تتحرَّرْ.
كحمامٍ نائمٍ في راحتيهْ
فإذا نحنُ انْتَهَيْنَا، وأدارتْ ظَهْرَها في سرعةٍ، أطبقتْ أجفانهَا ذاهبةً
دامعةَ الوجهِ إليه"().

بادئ ذي بدء نقول: إن اللغة الشعرية –عند جوزف حرب - تحتفي بالمشهدية،والحركة الجمالية المباغتة،لهذا، ترى الصورة- لديه- مشهدية توصيفية تجري مجرىً قصصياً،دون أن تفقد تمركزها الفني على خصوصية الرؤيا،وسحر النبض الجمالي التي تشعه في أجزائها؛ وهذا يدلنا – بالتأكيد- أنَّ الصورة الشعريَّة-في قصائده- مشهديَّة؛ تصف مشهداً رومانسيًّا لحالة المرأة العاشقة التي تعشق رجلاً آخر؛ فيبث من خلال إيقاع اللغة وطواعيتها بين يديه حسيَّة المشهد ورؤاه البصريَّة المتخيلة المجسدة في شكل ما، أو هيئة معينة؛ واصفاً مغامرة جنسية تنزع إلى اختزال الرؤى، وتجسيد الهيئات البصريَّة؛ متجاوزاً دلالة الكلمة والجملة ذاتها إلى دلالات تحفيزيَّة؛ تزيد المشهد عمقاً وشعوراً صوب ما يبثه الشاعر من رؤى، ومداليل رومانسيَّة مباغتة، تصف ظواهر إنسانية شائعة، مثل الخيانة الزوجية، وعدم الإخلاص للحبيب؛ ومن هنا؛ فإنَّ تحفيز الدلالات الشعريَّة يتعلق بمستوى إثارة اللغة؛ الأمر الذي يجعل نصوص جوزف حرب ذات فاعلية نسقية متميزة، ومثيراتها البصريّة- المشهديَّة التي تتمثل في تفعيل الرؤى المتناقضة ذات الصدى الرومانسيّ والإيقاع الجمالي الشاعري المثير.وهذا ما أكده في حوارنا معه قائلاً: (اللغة الشعرية –في قصائدي –تنزع إلى الصورة الحية المتحركة بصرياً،ودلالياً، إنها مشبعة بأطياف من التكثيف المشهدي والتمثيل التجسيدي لما أتخيله وأراه من أطياف تمر على خاطري لحظة تشكيل القصيدة وتفريغها على بياض الصفحة الشعرية).

4- اللُّغة وتراكم الأنساق اللُّغويَّة:

ونقصد بـ [تراكم الأنساق اللّغويَّة]: تراكم المحفِّزات اللّغويَّة والأنساق التشكيليَّة المرتبطة فيما بينها برباط السببيَّة، أو العلاقة التجاوريَّة؛ بين المتجاورات النسقيَّة: [الصفة/ والموصوف]، و[المضاف/ والمضاف إليه]؛ ولمَّا كانت الأنساق اللّغويَّة تمثل المثير الإيقاعي للتجانس بين المتجاورات فإنها تتنوّع بتنوّع تلكم المتجاورات؛ وهذا يعني أن اللغة الشعرية تنتشي بالأنساق اللغوية المبتكرة التي تبين شعرية الشاعر،وقوته البلاغية الدافقة بالحس والخيال؛ تقول الناقدة راوية يحياوي: "إنَّ الحداثة الشعريَّة سعت إلى تفجير اللغة لتجاوز أزمتها المتمثلة في اجترار المفردات بالدلالات نفسها؛ وفي سياقات مستهلكة، وأصبحت الكلمة حقلاً خصباً بالدلالات التي تسهم في تفجير اللغة من الداخل"().

وبهذا المعنى؛ فإنَّ اللّغة الحداثية لغة متجاوزة نطاقها الدلاليّ إلى نطاقات دلاليَّة متجدّدة؛ مع كل نأمة تشكيليَّة، أو حركة نسقية جديدة لنظام التشكيل اللغويّ؛ ومن هذا المنظور؛ لجأ جوزف حرب إلى تقنية تراكم الأنساق اللغويَّة؛ لبث الزخم الشعوري الذي يصطهج في داخله، ليبثه إلى القارئ بنظام جمالي ودلالي فاعل في التعبير عن مكنون هذه الحالة، وعمق تلك التجربة؛ ولعلَّ من أهم مثيرات تراكم الأنساق اللّغويَّة التأزم النفسي من جرَّاء الإحساس بمرور الزمن، وأُفول سني العمر الجميلة، كما في قوله:

"كنتُ طفلاً. يا لهذا الجريِ في الأشياءِ!
يجري الطيبُ.
يجري الموجُ.
والأشرعةُ البيضاءُ فوقَ البحرِ تجري.
الكرةُ الخضراء والزرقاءُ تجري حولَ قرصِ الشمسِ.
ما مِنْ حجرٍ في يدِ طفلٍ ليس يجري.
القمرُ الفضيُّ يجري.
ولَدٌ يرمي إلى شبَّاكِ بنتٍ بيتَ شعرٍ، ثمَّ يجري
...........................................
كنتُ طفلاً وكبرت
بين مجذافي خريفٍ وشراع فوق أيدي الريح صرت
كنتُ طفلا دهشتي زالتْ.
وقد أدركتُ أن لا شيءَ يوماً كانَ يجريْ غيرُ عمري"().

إنَّ تتابع الأنساق الجمليَّة في نسق تصويريّ مؤتلف؛ يعكس حركة نفسية مهندسة، أو منسجمة تتمثل في الإحساس الشعوري المنتظم صوب هروب الزمن وأفوله؛ فكل شيء يجري أمام الشاعر، وهذا الجري يمثل حالة من عدم التوازن والاستقرار من جهة؛ والكينونة الوجوديَّة المتلاشية شيئاً فشيئاً من جهة ثانية؛ وكأنَّ كل شيء أمامه يرتحل ويجري إلى اللانهاية؛ وهذا الجريان مرده أفول سني العمر ورحيل سني الخصوبة والزهو والشباب؛ ولهذا جاء تراكم الأنساق اللّغويَّة موازياً للحالة الشعوريَّة التي تصطرع في داخله، من قلق إحساس وشعور يائس يتمثل في كثافة الانفعال، والشعور المأزوم صوب ماهية الحياة وطبيعتها المتغيرة؛ التي تؤذن بالارتحال الدائم، والجريان المستمر صوب الهاوية أو النهاية الوجوديَّة المحتومة؛ وما تراكم الجمل إلاَّ إيذاناً بحركة الوجود المتغيِّرة والتي تدل على الارتحال الدائم، وعدم الثبات؛ دلالة على جريانها السريع، ورحيل ربيع العمر مسرعاً كلمح البصر؛ ولا يسعنا إزاء هذا الإحساس إلاَّ التأكيد على جماليَّة الأنساق اللغويَّة المتوازنة التي تخلقها نصوصه الشعريَّة في ترسيم الحالة الشعوريَّة، وبثها بطريقة تأملية ترصد الأوضاع النفسية، وتعبِّر عنها بمصداقية، وشفافية متناهية؛ وهذا ما نلحظه في قوله: "كنتُ طفلاً وكبرتُ./ بين مجذافيْ خريفٍ، وشراعٍ فوقَ أيدي الريحِ صرتُ"؛ ولعلَّ هذا التراكم النسقي في توصيف الحالة الشعوريَّة، والتعبير عنها يؤكِّد قدرته العالية على الترسيم الشعوري الدقيق للمشاهد والصور الشعريَّة المجسّدة؛ لتأتي ذات عمق فني، وبراعة تشكيليَّة لافتة في توصيف الحالة، وتعميق الشعور بها.

وقد تكشف قصائد جوزف حرب عن مهارة لافتة في تنسيق المتراكمات؛ خاصَّة فيما يتعلق بالأنساق اللغويَّة المترادفة، التي تشي بتنظيم نسقي رغم تراكم الصور، وكثافة المتواليات النسقية، كما في قوله:

"من زبدٍ مالحٍ ومن شَجَرِ
أنتَ، ومِنْ سوسَنٍ، ومن مَطَرِ.
عيناكَ كُحْلِيُّ غامضٍ. ومن الصبحِ فراشٌ على أصَابِعِكَ المُغْمَضَةِ اللّينِ.
والمساءُ يذوبُ تواشيحَ في ساعديكَ كما ذابتْ بوجهِكَ فضَّةُ القمرِ.
جِسْمُكَ من حنطةٍ.
وشاحُكَ مِنْ صوفِ خُزَامى.
ومن نسيجِ ملاكٍ شعرُكَ المُرْسَلُ البياضِ على الهلالِ في كتفيكَ
يا جسداً قَدْ أُنْزِلَ العمرُ فوقَ أشهُرِهِ كقطرةٍ أُنْزِلَتْ على حَجَرِ."().

بادئ ذي بدء نقول:إن تراكم الأنساق اللغوية- في شعر جوزف حرب- يدلل على كثافة الرؤى والمتخيلات الشعرية،ومهارة الشاعر في إبراز المشهد بخصوصيته الرؤيوية العميقة،ومدلولها الجمالي الفاعل الذي يرتقي قمة في التوصيف والتجسيد المشهدي العميق؛وهنا؛ يجتذبنا الشاعر بمتراكماته النسقية المتآلفة التي تسهم في ترسيم الصور، وتفعيلها النسقي؛ حتى لتكاد الصورة تفرض ذاتها على القارئ بسيرورتها النسقية المتآلفة، أو المتناغمة ضمن مساقها الشعريَّ؛ معتمداً الصور التآلفية المتراكمة التي تتشكل وتتنامى في متواليات نسقية متضافرة على المستويات كلها؛ كما في هذه المتواليات التصويريَّة المتواشجة التالية: "والمساءُ يذوبُ تواشيحَ في ساعديكَ كما ذابتْ بوجهِكَ فضَّةُ القمرِ./ جِسْمُكَ من حنطةٍ./ وشاحُكَ مِنْ صوفِ خُزَامى./ ومن نسيجِ ملاكٍ شعرُكَ المُرْسَلُ البياضِ على الهلالِ في كتفيكَ"؛ إنَّ هذه المتواليات النسقية تتماسك، وتتآلف رغم تراكمها في توصيف المشهد، وترسيمه الواضح؛ والّلافت أنَّ جلّ هذه الأنساق المتراكمة وصفية تمضي في نسق مترابط توصيفي لجزئيات الطبيعة الترسيمية الدقيقة، وهذا يعني أنَّ المشاعر المبثوثة - في هذه القصيدة- هي لإضفاء جو رومانسي يتسق والحالة الشعوريَّة المبثوثة التي تعتمد المتراكمات الوصفية للحيازة النسقية، والتكثيف النسقي للمتراكمات الوصفية، ذات المد التأملي والقدرة التوصيفيَّة الخلاَّقة للمشاهد البصريَّة المجسدة.

والملاحظ أنَّ قصائد جوزف حرب تفرض نسقها التراكمي على القارئ في كثير من الأحيان؛ وهذا التراكم النسقي لا يضعفها أو يُقَلِّل من جمالها؛ بل على العكس يزيدها ألقاً وجمالاً وهندسة تنظيميَّة محكمة؛ لأنها؛ تأتي منسوجة بعناية، وبحنكة فنية متمرسة، قادرة على الاستقطاب والتنامي الجمالي، كما في قوله:

"شجرتانِ في حديقتيْ، وارفتانْ،
وتحتَ كُلٍّ منهما كرسيّْ، واحدةٌ بيضاءْ، واحدةٌ زرقاءْ.
حبيبتي استلقتْ على البيضاءْ.
لم يَبْقَ عصفورٌ وما غطَّ على الشجرةِ التي ترى بظلِّها كُرْسيَّهَا البيضاءْ.
جاءَ النسيمُ، حفَّ خِصْرَ الورقِ المائج في الرقصةِ الخضراء.
لا غُصْنَ إلاَّ التفَّ في شوقٍ إلى غصنٍ، لكي لا تصلَ الشمسُ إلى حبيبتي إذا هبَّ الهواءْ.
مرَّتْ بقربِ قَدَمِيْ حبيبتي آهاتُ ماءْ كصوتِ نايٍ في المساءْ
ورحلتْ حبيبتي؛ وفي غدٍ أشرقتِ الشمسُ، رأيت الشَجرَهْ، تلك التي كُرْسيّهَا زرقاءْ شجرةً صفراءْ"().

هنا؛ تفرض القصيدة تصاعدها التراكمي في تنسق الصور الجماليَّة التي تصف جمال الحبيبة، من جهة؛ وجمال الشجرة، واخضرار أغْصَانِها تبركاً بجمال الحبيبة من جهة ثانية؛ مما يجعل الحركة النسقية التصويريَّة متلاحمة في تبيان هذا المشهد، وتوصيف الحالة المشهديَّة؛ بإلحاح تعبيري يبلغ درجة مثلى من التعميق المشهدي، والحس الرومانسيّ المرهف؛ ناهيك عن المهارة الفنية في استقطاب الرؤى التي تدعم الحسّ الرومانسي؛ وتثير العاطفة بوساطة هذا التجسيد الجمالي للمشهد الشعري المجسّد.

وقد يكثف جوزف حرب المتراكمات النسقية البليغة بغياب حروف العطف، أوحضورها، دلالة على كثافة المتواليات اللغويَّة التي تجسد عمق الموقف، وكثافة الرؤى،والصور، التي تفيض من مخيلته الخصبة، كما في قوله:
"حَمَلَتْ خَنَاجِرَهَا، خيانَتَهَا، تَعْذِيْبَهَا، إِهْمَالَهَا، سَهَرِي، ممحاتَهَا لي، حُبَّهَا لِسِوَايَ، وبُعْدَهَا عني، وغُرْبَتَهَا.
حَمَلَتْ وِسَادَتَهَا، وعَاشِقَهَا، فَمَهَا المُعَتَّقَ، عريَ قَاَمَتِهَا، آهاتِهَا، لهبَ الأنينِ بها، ومُضَاجَعْيِهَا، عُهْرَهَا، حَمَلَتْ، أنّي القتيلُ، وودَّعتْ جَسَدِي./ ومضتْ إلى قلبيْ، ولَمْ تَعُدِ"().

هنا، تأتي المتراكمات في نسقها اللغويّ متتابعة؛ بروابط تشكيليَّة؛ متوافقة تشي بالزخم الانفعالي، والتتابع النسقي، والكثافة الشعوريَّة التي تتتابع بحروف العطف، ودوال لغويةَّ متتابعة بروابط ممثلة بحروف العطف حيناً؛ وأنساق متتابعة بغياب الحروف العاطفة حيناً آخر، كما في قوله: "حَمَلَتْ خَنَاجِرَهَا، خيانَتَهَا، تَعْذِيْبَهَا، إِهْمَالَهَا، سَهَرِي، ممحاتَهَا لي، حُبَّهَا لِسِوَايَ، وبُعْدَهَا عني، وغُرْبَتَهَا"؛ إنَّ هذه الدوال المتراكمة تشي بتوتر الحالة العاطفية، وتثوير إيقاعها التراكمي الغاضب صوب محوها ذاته وتعلقها بالآخرين؛ وهنا؛ تتابعت الأنساق اللغويَّة المتراكمة في تحفيز الصور؛ وتعزيز فاعلية إيقاعها النسقي في ذهن المتلقي؛ إذْ إنَّ كثافة الأنساق اللغويَّة المتراكمة تسهم في التعبير عن الحالة العاطفية بكل زخمها وانفعالها الشعوري؛ وهكذا؛ يتصاعد التعبير الشعري جمالاً و ألقاً تصويريًّا في قصائد جوزف حرب رغم كثافة الأنساق المتراكمة؛ مُكْسِباً قصائده فاعلية قصوى على صعيد التنامي التصويري، والزخم الانفعالي، والتوتر العاطفي.

نتائج أخيرة:

تنبني القصيدة الشعريَّة – عند جوزف حرب- على بداعة التشكيلات اللغويَّة، وبلاغة تمفصلاتها الشعريَّة؛ لدرجة تبدو قصيدته متواصلة العطاء، كثيفة الدلالات؛ خاصَّة على مستوى التنامي التصويريّ؛ وعلى هذا؛ تمتلك قصائد جوزف حرب خصوصيَّة في الأداء، وتميُّز في المعنى؛ ناهيك عن بداعتها التصويريَّة المحكمة؛ إذْ يلتف الشاعر على القارئ في نسق تشكيلاته اللغويَّة؛ وكأنها منسوجة نسجاً فنيًّا محكماً؛ أو محبوكة حبكاً نسجيًّا متآلفاً على المستويات كلها.

إنَّ شعر -جوزف حرب – مثال تجسيدي صريح للشعر الوجداني الإنساني؛ إذْ إنَّ القارئ يجدُ فيه لذّة دائمة، وألقاً ساحراً، وشفافيَّة شعريَّة عظيمة؛ مع كل مطالعة لنصوصه الشعريَّة؛ بمعنى أنَّ إنسانيته العظيمة؛ ورُقِيِّه التشكيلي المستمر حلَّقت بفضاءات قصائده شعوريًّا ودلاليًّا وإنسانيًّا فوق حدود الواقع؛ فانتظم النصّ – لديه- بلغة توصيفيَّة حينًّا، وتصويرية حنياً آخر؛ ثم يقوم بتعميقها فنيًّا عن طريق التبئير النسقي، وتكثيف الرؤى والأحداث؛ لتطرح تساؤلات عميقة متجذِّرة في حقل الفن، والاستكشاف، والتأمل الوجوي.

إنَّ هندسة المعنى في المقاطع الشعريَّة، وتحفيزها للقارئ؛ بالانسجام، والتفاعل، والتضافر، يجعلها ذات سيرورة نسقية منظمة؛ تبهج القارئ بتفاعلها؛ وإنْ كان ثمَّة إغراقاً في متاهات سرديَّة، وتفاصيل يوميَّة؛ فإنَّ هذا لا يضعفها أو يُّمَزِّق وحدتها؛ مما يجعلها ذات خصوصيَّة صوتيَّة إيقاعيَّة، وجرس صوتي موسيقى متناغم على مستوى الألفاظ، والحروف، والقوافي المتآلفة، أو المتناغمة؛ لخلق الدهشة في المستويين التصويريَّ والإيقاعيَّ في آن معاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى