السبت ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

جنون الاختيار

كل شيء في غير مكانه، هذا ما تبدّى لي ويتبدّى، وكل نقلة لعبتُها من أحجار الشطرنج اكتشفْتُ غلطَتَها متأخّراً، ولن ينفع الندم لأنّ اللعبة مستمرّة.

وحتى في محيطي تقع نقاطي التي أرشقُها على غير حروفها، فيقرؤون تعابيري بمعانٍ غير مقصودة، وقد يسيؤون فهمي، وأعتذر لأصلِحَ ذات البَين، لكنّ بعض البين يتعذّر إصلاحه، فما قيل قد قيل.

وما يصحُّ دائماً من حولي هو غير الصحيح، هكذا أرى، ورؤيتي على قدّ بصيرتي.

والرجل المناسب ليس في المكان المناسب، برأيي، ورأيي لا يُؤخَذ به، ومَن يرتكس له.

من قال إنّ هذا المدير هو المناسب ليكون مديراً؟ كيف اخترتموه وهناكَ من هو أجدر وأقدر! وكذا المحافظ، وكذا الرئيس في تلك البلاد. وكأنّ الحياة نصٌّ مكتوب وبه فراغات ينبغي ملؤها، والفراغات هي الأسماء، فتنزل أسماءٌ ما أنزل الله بها من سلطان!

وحياتُكَ مكتوبة بالخطوط الأساسية، فيجب أن تأكل عند الظهيرة، فتأكل ما لا يناسبك، وقد تلبس اليوم ما لا يليق، وتلك هِناتٌ وقتيّة تنتهي بغياب الشمس. لكنّ بعض الفراغات في نصّ حياتك إن ملأتَها باستسراع الخيار واستسهاله، فستعذّبك بعقابيلها. فأنت يجب أن تختار زوجة مثلاً لإكمال نصف دينك، ويكون اسمُها فراغاً يتمّ ملؤه، وهنا تتمّ تعبئة الفراغ كتابةً وبعقدٍ قانونيّ وشرعيّ وعلى رؤوس الأشهاد، فإن كانت النتيجة زوجةً غيرَ مناسبة، فلديك أبغض الحلال كخيار، مع رضاك بنسبة من الخسائر المترتّبة على قرارك.

الاختيار المناسب ليس فلسفةً فقط، بل هو أمرٌ كبير، إذ أن ما بُنيَ على باطل فباطلاً سيكون. وقد انتبهت الأديان لخطورة الأمر فرَمَتْ به على القدر، وقالوا الخير فيما اختاره الله، فلنترك الله يختار لنا ما دام هو الذي كتب النص الحياتيّ، فلندعه يختار لنا خياراتنا ويملأ عنّا فراغاتنا، ما دام يرى ما لا نراه.

وهكذا إن استمرّ ضياعك بين الخيار والاختيار فيمكنك أن تلجأ للاستخيار أو الاستخارة لأخذ القرار.

ولدى الشعوب حقٌّ مُعترَفٌ به كأحد حقوق الإنسانية، هو حق تقرير المصير، ومنه جاءت كلمة استفتاء أو انتخاب، وكلما كان ذلك نزيهاً وشفّافاً وحرّاً كلما كان ملء الفراغات مصيباً، وقد يكون مصيبةً تحلّ على المجتمعات التي تخطئ في ملء فراغاتها.

والبنية الهرمية للمجتمع تجعل الخطأ يجرّ الخطأ في متواليةٍ هندسية، فيطال الأذى من هم في القاعدة إسقاطاً من الخلل الذي وقع في القمّة. وللأسف فإن إصلاح ذاك الخطأ سينطلق من القاعدة صعوداً عادةً فيحدث ما يسمى بالثورة الشعبية، أو ينطلق من ثلّة أو عصابة تضرب رأس الهرم فوراً فيُسمّى بالإنقلاب. فتظهر قمّة جديدة للهرم، وغالباً ما تكون فاشلة، لأنها بالأساس هي جزء من القاعدة السابقة، وبالتالي ستكون حاقدة، طامحة، مستبدّة، مستأثرة بقمّتها التي وصلت إليها فجأة بالقوة والإزاحة، وتكون متقلقلة لأنهاغير مستندة على الأكتاف المُنهَكة في القاعدة.

ويطلبون منا الصلاة للقائد الجديد الحاكم بأمر الله، يقولون ذلك لترسيخ فكرة أنّ الله من اختاره، وقد يكون رجل الدين نفسه هو الحاكم، كالبابا مثلاً في العصور الوسطى، فيصبح قصرُه هو بيت الله نفسه، ويسمح لربّ العالمين أن يساكِنَه، ونصلّي نحن للاثنين معاً كربٍّ يُرى وربٍّ لا نراه، هو يراه عنا وينقل لنا رغباته ورغائبه، ويجب أن نناضل لتحقيق مشيئته، مشيئة مَن منهما، لست أدري!

وعلى مدى قرون تاريخية، تمّ إصلاح ذلك، وتمّ تحجيم الأمر مع دفع الثمن باهظاً.

ماذا تريد أن تقول من كلّ ذلك؟ أنسيت الحظ والصدفة التي تشذّ عن الاختيارات المحسوبة؟ فقد تهبّ الرياح بما لا تشتهي السفن، وهو قولٌ جدليّ تمّت مناقشته وقالوا بأنّ التيار يغلبه السفين.

أكتب كلماتي هذه في الصباح مع فنجان قهوتي، وخياراتي معقّدة ومفتوحة ليومي الجديد، زادي كان بما تيسّر من زاد، ولبست ما تيسّر من لباس، وسأسير إلى عملي طالباً من الله التيسير، تاركاً له التدبير. عندي الكثير من الخيارات اليوم ويجب أن أختار، وكل مفترق طرق أدلف منه في مسار، وقد أملأ استماراتٍ ورقية أو حاسوبية، وقد أقرّر قراراتٍ عمليّة، قد لا تكون كبيرة بالنسبة للخلق الساعي إلى خياراته، لكنها مهمّة بالنسبة لي، وينتهي اليوم بحصادٍ قد تكون راضياً عنه أو غير راضٍ.

لطفاً منكم، دعوني أختار كلماتي الباقية، فقد نسيت بأنّ هناك أيضاً من يختارك أنت شخصياً، كضحيّة اليوم، مثل قاطع طريق يفاجئك أو لصٍّ ليليّ يباغتك، فتكون أنت الخيار، أنت الفراغ الذي سيتم ملؤه، أنت القتيل الذي سيقتل اليوم، وأنت الميت الذي قد يختاره ملاك الموت!

وهناك من حيث لا تدري مَن اختارك كعدو، لأنه يرى فيك عدوّه المناسب.

وقد أتلقّى اليوم صفعةً على خدّي الأيسر، فيكون لديّ خياران، فإمّا أن أحوّل له الأيمن ليتمّم فعلته، أو أردّ له الصاع صاعين، وذاك خيارٌ أيضاً.

انتبه، هناك خيار ثالث، أن تهرب من المواجهة، فإما أن تطالك صفعته على نقرتك، أو تطالك شتائمه فقط كذوائب مستفيضة من عدائه.

وقالوا لي في النهاية بعد أن ملأت فراغاتي صباحاً، وأدليت بمعلوماتي ومعطياتي في الاستمارة الالكترونية المطلوبة لشغل وظيفة شاغرة، قالوا إن الكمبيوتر هو الذي اختار هذه المرّة..

لماذا لم يختارني أنا ؟ قلت لهم

فقالوا:

 اسألْه، اسأل الكمبيوتر، فهو صاحب الخيارات والقرارات اليوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى