السبت ٢ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم حسني التهامي

جوهر الهايكو

للناقد والشاعر الأمريكي بروس روس

ظهرت قيمٌ جديدةٌ على الهايكو الغربيِ المعاصرِ في عديدٍ من النقاشاتِ في الموتمرِ الثاني الذي عُقد بالسويد عام 2007. ركزتْ إحدى المحاضراتِ لفوكمان السويدي على التحولاتِ التي طرأتْ على الهايكو، بينما تطرقتْ أخرى إلى الاستعارةِ الفريدةِ، والتي تولدُ نوعاً من العمقِ الناشئِ من تنافر المواضيع بالنص (ليدميلا بلبانوفا في بلغاريا)، فيما تناولَ ( تاكاشي إيكاري الياباني) قضيةَ الغموضِ.

وكَمْ كان ممتعاً حديثُ فوكمان عن"الشعور المُتدرج"! فكثيرٌ من نصوص الهايكو الأمريكي المعاصرِ تحتوي على الطُرفةِ والتآلفِ البَراق بين الصور. علاوة على ذلك، فإن تعبير الانفعالات الحشوية هو بمثابة تمثيل للمشاعر الشفافة وللتواصل الاجتماعي غير الهادف في وسائل الإعلام. فالنقاشات حول حالات الشعور وتأثير التحول في الهايكو ضرورةٌ لإحداثِ التوازنِ بين هذهِ الاتجاهات، وهي في الواقع، تحافظ على جوهر الهايكو.

يبحثُ هذا المقالُ ويُدقق في قضايا متعلقةٍ بجوهرِ الهايكو مِثلَ: الخاص، المشاعر، التنحي، لحظة الهايكو، طبيعة وجمال الهايكو، الكمال. بدايةً سأناقشُ الاستعارةَ المُطلقة، وهي مصطلحٌ صُغتُه كي أصفَ الهايكو المبنيَّ على العلاقةِ الوجوديةِ والبنائيةِ في مكوناتِ الهايكو. إن شعريةَ الهايكو تفتحَ المجالَ أمام قضايا أخرى في هذا المؤتمر الأوربي.

"في هذهِ الأشياءِ (المرتبطة بالطبيعة) يكمنُ معنىً عميقٌ،
لكن إذا هممنا بالتعبيرِ عنه ، نسينا الكلمات."

تونماى

(1)

الاستعارة المُطلقة The Absolute Metaphor

"الهايكو في الأساسِ نوعٌ من الشعر، مشتقٌ من المقطعِ الأولِ لقصيدةِ مشتركةٍ تسمى الرنجا ومؤخرا في التانكا (الواكا في الأصل)، وكلُ نوعٍ يحتوي على مقاطعَ نثرية من 5 و7 وحدات صوتية.

مثلَ كل النصوصِ الشعرية، يتميزُ الهايكو بالخيالِ، المحتوى العاطفي، والقيمةِ الصوتية واللغة التصويرية وهكذا. تتميز الأشكال الشعرية في اليابان بشكل عام بقصرها، وفي الواقع إن الهايكو هو أقصرُ النصوص وأكثرها اختزالاً في العالم. يتكونُ النص من 17 وحدة صوتية موزعة على هذا النحو: 5-7-5 في الهايكو الياباني الكلاسيكي. ذاتُ الأصوات نجدها في التانكا والرينجا، وهي بذلك تعكسُ طول الأسطر في الأغاني الصينية، وكذلك في صياغة الأغاني، وحتى في الثقافة اليابانية الأولى.

إن اللغة اليابانية لغةٌ غيرُ مضغوطة، والهايكو يعتمد على المحاكاة الصوتية وربما على الأحرفِ المتحركة التي تحدثُ في كل وحدةٍ صوتية، ولا تعتمدُ على القافية. فالعباراتُ المكونةُ من 5 و7 وحدات صوتية متكررةٌ عبر القرون في الأشكال الشعريةِ، وتساعدُ بدورها على اكتساب نوع من الإيقاع.

يتميز الخيالُ والمحتوى العاطفي في الهايكو بنوعٍ من التفرد . فإذا ما نظرنا إلى الهايكو الكلاسيكي نجده يشتمل على الكيغو (كلمة فصلية) أو الكيداي (موضوع فصلي) متضمنا الأحداثَ الإنسانيةَ المرتبطةَ عادة بدورةِ الطبيعة، كحصادِ الأرز. وعلى الأغلب فإن الهايكو الكلاسيكي يشتملُ على صورٍ حسيةٍ مستقاة من الطبيعةٍ ولا تتناول الإنسان. وهذا ما يوصلنا إلى تعريفِ الهايكو بأنه شعورٌ إنسانيٌ مرتبطٌ بالطبيعة.

إن الاهتمام بجمالِ الطبيعةِ منبعُه الدينِ الأصلي، الشنتو، الذي يحملُ في طياتهِ تقديساً، بل وعبادةً للطبيعةِ لدى أُناسٍ كان كيانُهم الزراعي في فترةٍ مُبكرةٍ يتطلبُ اتصالاً دورياً ومستمراً مع هذه الطبيعة، وهذا لم يكن مُستغرباً. فالجمالُ الطبيعيُ والمحتوى العاطفيُ المتماثلُ والمحتفى بهما في الثقافة اليابانية هُما الدعامةُ الأساسيةُ للقصائدِ الغنائيةِ.

يحتوي الهايكو اليابانيُ الكلاسيكيُ على لغةٍ رمزيةٍ مثل البلاغةِ والتشبيهِ والمجازِ، تماماً كما كان مُستخدما في الشعرِ الغنائي. لكنَّ هذه الوسائلَ كانت تمثلُ عبئاً على هذه القصيدةِ القصيرةِ، ونالت من قيمتِها الجماليةِ كالاختزال، و الموسيقى والغموض. علاوةً على ذلك فالكيغو والكيداي بإيحاءاتِهما الموسميةِ أمدا الهايكو برموزٍ من الطبيعيةِ ودوراتِها. إذن يمكنُنا اعتبارُ الهايكو علاقةً حتميةً بين الخاصِ والعام.

فإذا كان المجازُ قوامَ الشعرِ، ذلكَ المجازُ الذي يتسم بقوةِ العاطفة والخيالِ، وهو عاملٌ أساسيٌ من عوامل نجاحِ النصِ الشعري، فإن الهايكو يعتمدُ على المجازِ المطلقِ للخاصِ الطبيعيِ والكوني. إن المقارنةَ الداخليةَ في الهايكو التقليديِ يمكنُ التحكم فيها عن طريق الكيريجي الذي هو واحدٌ من الحروفِ اليابانيةِ الكثيرةِ التي تقومُ بمهمةِ علاماتِ الترقيم في الانجليزية، لكي تسلطَ الضوءَ على المحتوى الانفعالي في جزئيةٍ واحدةٍ من الهايكو وعلاقتِه بالثاني، وتؤكدُ الاستعارة المُطلقة. فعلى سبيلِ المثالِ يشيرُ السطر ُالأولُ إلي الطقس، وفي الثاني والثالث يشكلُ الخيالُ طبيعةَ الموضوعِ الخاص.

فالاستعارةُ المطلقةُ والكيرجي يطلقان الشرارة العاطفيةَ التي تربط الكوني بالخاص.

أمامنا هايكو معاصرٌ للشاعر ألينزا زورمان من سولفينيا يتحققُ فيه المجازُ المطلق:

عيدُ الاستقلال
مع الريحِ الحار، وشاحي
يلامسُ الغريب

فالمنحى الوجوديُ واضحٌ في القصيدة ، حيث يتجاوبُ مع الحرية والإنسانية والفرح.

فالعطلةُ تجسدُ الحدثَ التاريخي للحريةِ التي يحتفي بها كثيرٌ من الدول. والريحُ تبعثُ الراحةَ. إنها تقدمُ مثالاً نموذجياً للمعادلِ الموضوعيِ الذي يُنادي به الشاعرُ الأمريكي ت.إس إليوت. إنها صورةٌ شعريةٌ مأخوذة من العالم الواقعي الذي يمثلُ المشاعر الداخليةَ مجازياً.

يحتاج الهايكو عادةً إلى تركيبةٍ أقلَ خيالاً، وإلى الإحساسِ بالزمن. في النص يكمنُ هذا المجازُ المطلقُ في الوشاحِ الذي طيرتهُ الريح ولا مسَ شخصاً آخر غريباً تماماً، وهذه الريحُ تحول لحظةَ الاحتفالِ إلى لحظة إنسانيةٍ تتبادلُ فيها العاطفةُ عبرَ الخيالِ الحسي. فهناك حالةُ من التوحدِ والتلاقي بين الشاعرِ والغريب. ربما هناك شيء غامض بالنص يُمكنُ احساسُه عبر الكلماتِ ولا تستطيعُ الكلماتُ أن تبوح به."

(2)

الخاص: The Particular

لو ان هذا الشيءَ الغامضَ هو ظهورُ الكوني، وهذا الظهورُ يُؤكد ذاتَه في الخاص. فإن الخاصَ ذاتَه لديه أيضا صفةٌ معينةٌ، وهي صفةُ الغموض. في النصوصِ الأكثرِ إبداعاً يكون غموضُ الخاصِ هو جوهرُه. وهذا الجوهرُ يكمنُ في الجندب في نصٍ من إبداعاتِ إيسا:

نسمةٌ باردةٌ
يُغني الجندب
بكلِ قواه

ما أسهلَ أن تستمع للجندب! فإيسا جعلَ للجندب خصوصيةً، وربما أنسنَ هذا الكائنَ. فليستْ كلُ الجنادب تمثل شبيهاتها في"التكوينة الجرادية". في هذا الهايكو يبدو الكائن الوحيد ذاتَ صوتٍ حماسيٍ... في لحظةٍ معينةٍ وخاصةٍ يكون هذا الكائن مميزاً.

هذه الحيويةُ الواضحةُ لهذا الكائن تجعلُ حركاتهِ نبيلةً ومرحةً، إنه ليس حشرةً عاديةً أو جندبا. إنه جندبٌ خاصٌ في مشهدٍ خاص.

يعيشُ الهايكو لحظةً من الزمنِ ويعيشُ خصوصيتَها ومكوناتِها. ولابُد من وجودِ عنصرِ الصدقِ كأساسٍ في الهايكو. لننظر إلي الحلزون في هذا الهايكو لديفيد كوب بانجلترا:

في الحديقةِ المظلمةِ
وميضٌ بعيدٌ
مسارُ الحلزون

يدلُ على الحلزون -أو حتى على غِيابِه – وميضٌ مضيءٌ ينيرُ للحظةٍ طريقَ هذا الكائنِ.

ربما كان يُلاحظ ُالشاعرُ العاصفة َالبعيدةَ في الحديقةِ ليلا. إنه الوحي: طريقُ الحلزون، هذا الممرُ الصغير، بقعةٌ، شيءٌ لامع. ربما انجذبَ الشاعرُ لبريقِ هذا المسارِ اللامعِ،أو ربما كان يرى الحلزونَ، وهذا الحلزون بطريقةٍ جديدةٍ، هو نوعٌ من الحضورِ في الغياب.

وبصورةٍ شاملة يتواجدُ غموض خفيف كما لو يتراءى أمامك شبحٌ حي. فغموضُ مسارِ الحلزونِ أيضا يرتبطُ بغموضِ الضوءِ، كلاهُمَا يجلبانِ السُطوعَ والضوءَ إلى قلبِ الظلام.

يخضعُ للصفصاف ِ
كلُ البغضاءِ والرغبةِ
في قلبِك
باشو

(3)

المشاعر والأحاسيس Feeling and Emotion

أصبحَ الشعورُ العاطفيُ الناتجُ عن الاستعارةِ المطلقةِ مرتبطاً بأنواعٍ مختلفةٍ للقيمِ الجماليةِ للهايكو الكلاسيكي . Mono no aware (عشق الأشياء) هو مصطلحٌ شاملٌ يُظهرُ كيفيةَ تأثرِ الإنسانِ بالأشياء. هناكَ قيمٌ جماليةٌ أُخرى في الهايكو كالوابي (البساطة)، السابي (العزلةُ الغيبية) واليوجن (الغموض). في كل حالةٍ من تلك الحالاتِ والقيمِ الجماليةِ يظلُ الشاعرُ تحت تأثيرِ شيءٍ ما في العالم.

خلافاً للشعريةِ الغربيةِ، فإنَ الشعرَ الشرقيَ يُركزُ على حالةِ الشعورِ العاطفي. فبدلاً من أن تكونَ الزهرةُ شيئاً لا معنى له، فإننا نجدُها تُعطى سياقاً يُشعُ بالمشاعرِ العاطفيةِ لشاعر الهايكو الياباني. هي ليست رمزاً ، لكنَّ لها حضوراً وجودياً مُهماً. فهايكو باشو الذي أشرنا إليهِ من قبلُ يُظهر العلاقةَ الوجوديةَ لشاعرِ الهايكو بالكونِ و الطبيعة ، فالصفصافةُ مثلا في الرمزيةِ الغربيةِ تُشير إلى الحزنِ، وتبدو على عددٍ لا يُحصى من شواهدِ القبور، بينما تبدو صفصافةُ باشو كائناً في حدِ ذاته. هكذا يريدُ أن يقولَ لنا باشو مؤسسُ الهايكو الياباني: "لكي تتعلمَ عن شجرِ الصنوبرِ، اذهب إليه"، وكان يميل شيكي مؤسسُ الهايكو الياباني الحديث إلى رسمِ لوحاتٍ من الطبيعةِ متأثراً بالمدرسةِ الانطباعيةِ في الفن.

بالإضافةِ إلى ذلك، تجدرُ الإشارةُ إلى أن "الشُعور" في الهايكو لا يُقصد به المشاعرُ المباشرةُ في الشعر الغربي. لم يَعتد الهايكو أن يُعبرَ عن المشاعرِ الجياشةِ التي عادة ما تكون في التانكا. بدلاً من ذلك، فهي حالةٌ من الشُعورِ المُتبادلِ بين الشاعرِ ومادةِ الطبيعيةِ، حتى بالرغمِ من الجوِ العَاطفيِ الذي يكونُ غالباً انفعالياً ومُؤثرا، ويقومُ بعمليةِ توجيهِ علاقةِ الشاعرِ بمادةِ الطبيعية. فالهايكو الذي كتبه دانيال باي الفرنسي يعكسُ نظرةً ثاقبةً لطبيعةِ المشاعرِ بالهايكو:

اليومُ الذي تلى الألعابَ النارية
ومضاتٌ من العاصفة

في القصيدةِ تُمثلُ الألعابُ الناريةُ أشكالَ الإثارةِ التي تعْكسُ الخلفيةَ الثقافيةَ، وعادةً ما تثيرُ المشاعرَ الجياشة. فرُبما يكونُ وميضُ العاصفةُ الخاطفُ مُفاجئاً، ومؤكدٌ أنه حدثٌ طبيعيٌ يُثيرُ الرُعبَ في المُتأملِ. وأسلوبُ المؤلف إنعكاسيٌ، أكثر من كونه معبراً عن تلكَ المشاعرِ القوية. إنه يَخلقُ علاقةً مُفاجئةً بين حيويةِ الألعابِ الناريةِ بالأمسِ ووميضِ العاصفةِ في اللحظة الآنيةِ. في الواقعِ ،إن الربطَ بين الوميضِ الطبيعيِ الناتجِ من العاصفةِ وبينَ اللألعابِ الناريةِ يُشكلُ الاستعارةَالمُطلقةَ التي تثيرُ الغموضَ المُطلقَ الناتجَ عن الانفجاراتِ الساطعةِ في السماءِ المظلمة.

"لا ينوي الإوز البري أن يعكس صورته
على صفحة الماءِ التي تأبى تلقيها."
من مقولات الزن

(4)

التنحيSelflessness:

لو أن المفهومَ العاطفيَ يعكسُ مشاعرَ الهايكو ، فإن مفهومَ التنحي غالبا ما يبينُ كيف يتواجدُ وعي الهايكو. لهذا السبب يفضل روبرت سبايز - الذي كان يعمل محرراً لمجلةِ الهايكو الحديث لفترة ٍطويلة من الزمن- مصطلحَ "الشعور" (الحواس المرتكزة على الطبيعة) على مصطلح "العاطفة"، (الشعور الذاتي الذي يرتكز على اللاعقلانية ) في تناول شعرية الهايكو.

يُنكر الهايكو الأنا الذاتية، في الأساسِ الأنا الفرويدي وبنياتِها العقلية – أو ما يسمى بالعاطفة التي نجدها في في بعض تجارب الهايكو وتعتبر حائلاً يعترضُ مسار الهايكو. إن الإجراءات التجريبية والتفكير العقلاني الذي يشكلُ العقليةَ الغربية أيضا يمثل عقبة في هذا المسار. ففكرةُ العقلِ الفارغ في فلسفةِ الزن البوذية- الانفتاحُ على الظواهرِ- تؤدي إلى مناخٍ عقلانيٍ ملائم. تفسرُ تلك الحالةُ مقولةَ الزن "فكرٌ تلو فكر دون انقطاع. لكنْ إذا سمحتَ لهذه الأفكارِ أن تتشابك، فإنك تضعُ نفسك في العبودية."

كيف لا يغرقُ المرء في تجربة ووعي الهايكو؟ هذا النصُ لكاي فوكمان يعطي لنا الجواب:

يتوقفُ المتزحلق
ليغادرَ الغرفةَ
إلى سكونِ الثلجِ

يصفُ أولُ سطرين من القصيدةِ ما يُسمى في فلسفةِ الزن بغيابِ "عقل القرد"، أي تدفقِ الفكرِ المستمر. ولا يمكنُ أن تحدثَ الاستنارةُ أو العقلُ الصافي ، وضوحُ اللحظةِ الحاضرة للرؤية، حالَ حضورِ عقل القرد. في الواقع يجب على المرء أن يجعل عقلَه صافيا، ليسمحَ للأشياء أن تتحدثَ عن نفسها. فالظواهرُ في النص مثل توقف المتزلقِ، الثلجُ، سكونُه، يمكن أن تتحدثَ عن نفسها. هنا الأنا الذاتيةُ غائبةٌ تماما. فالشاعرُ، لا يوقف التزلقَ بإرادته، بينما يكونُ سكونُ الليلِ حاضرا . الأنا ليستْ ذاتَ أهمية. الأهمُ هنا هو سكونُ الثلج. فالتوقف هو مجردُ علامةٍ تشيرُ إلى سكون الثلج. من نواحٍ كثيرةٍ تُعتبر هذه القصيدةُ بمثابة نوعٍ من التجريب التنويري.

سأل راهب ليشان: ما معنى البوذية الآتية من الغرب؟

فرد عليه :"ليس هناك ثمة "ما""

لماذا؟؟

"فقط لأن الأشياء تكون كما هي" ؟ أجاب لي شان.

الزن

(5)

لحظةُ الهايكو Haiku Moment:

يمكنُ تعريفُ لحظة الهايكو بأنها تزامنُ الخاصِ مع المطلقِ في لحظةٍ مُعينةٍ من الزمن. الهايكو إذن وعيٌ بالأشياء وبشكل أساسي هو رؤيةُ الأشياءِ على حالتها، كما يرى (ليشان بوذا)، أو كما يعتقدُ باشو في مقولته "تعلمْ كيف تستمعُ أثناءَ تحدثِ الأشياء لذاتِها". ففي لحظةِ الهايكو لا يتدخلُ العقلُ مطلقاً في جوهر الأشياء. وتكمنُ عظمةُ الهايكو في إيحاءات الواقعِ كما هو بكلِ عجائبه وانطلاقاته.

من بينِ جميع الأشكالِ الشعريةِ يعكسُ الهايكو حالةً مؤقتةً، مزجاً مميزاً بين الخاصِ والمطلقِ في لحظة من الزمن. ينادي ادموند هيسرل بأن السمو يكمنُ في خصوصيةِ العمل الأدبي.

ذات مرة أخبرني واحد من أساتذة الأدب الياباني والرينكو أن الهايكو لحظةٌ عابرة.

وفهمت من ذلك أنه تحدثَ عن القصيدةِ كشيءٍ مادي وكنوع أدبي. في جمالياتِ النصوصِ اليابانيةِ الكلاسيكية هناكَ لحظات ٌ استثنائية، لا يمكن تكرارُها بالمعنى الميتافيزيقي. ففي كلماتِ هيرقليطس "يمكنكَ أن تخطوَ في نفسِ النهر مرتين" فالنهرُ سيظلُ هناك، لكن طبيعتَه حتما ستتغير. ومع ذلك ،ففي اليابان هناكَ أحجارٌ نُقشَ عليها نصوصُ الهايكو للقبضِ على تلك اللحظاتِ التي لا تتكررُ وللحفاظِ عليها.عندما نقرأُ هايكو معيناً للمبدعين اليابانيين القُدامى وحتى الأكثر حداثة، ربما نعيشُ لحظةَ شعورهم ضمنَ حدودنِا الثقافية، و نقتربُ من رؤيتِهم ونكملُ قوس الطاقة الذي يَصلُ الخاص بالمطلق. ولنتأملْ ذلك الهايكو الذي كتبه أكسينيا مخيلوفا البلغاري، والذي استطاعَ بطريقةٍ متقنةٍ أسْرَ لحظةِ الهايكو:

النافذةُ المفتوحةُ
الستارةُ القديمةُ
رتقتْها سحابةٌ رمادية

تمثلُ القصيدةُ لحظةً زمنيةً تلتقطُ الأشياءَ كما هي ، فالنافذةُ مفتوحةٌ لتسمحَ بمرورِ الهواء المنعش. والستارةُ البالية التي تغطي النافذةَ بها فتحةٌ أو عدة فتحات. يتمتعُ هذا المشهدُ المميّز بخاصيةٍ مؤثرة من البساطةِ وفي تجاوبِ وتنامي الزمن مع أشياءٍ عادية مألوفة، ومع ذلك ، بالصدفةِ، تتزامنُ لحظة الهايكو في النص، مع المشهد الذي تغطي فيه السحابةُ ثُقبَ الستارِ أو الثقوب المنتشرة بها.

يثيرُ هذا العمل بشكلٍ خاص شعورنَا تجاهَ البساطةِ الطبيعيةِ والغموضِ في النص. فالستارةُ لم يتمْ إصلاحُها على أرض الواقعِ ،لكن هناك بالنص دلالةُ العلاقةِ الشعرية بين الإنسان والطبيعة، وبين الخاص والكوني. فالسحابةُ سوف تمرُ واللحظةُ ستنتهي، لكن في هذه اللحظة ترتقي البساطةُ بنوع من الفكاهة.

مفترشا حصيرة من القش في هذا الحقل
جلستُ وحدقتُ
في أزهار البرقوق .(بوسون)

(6)

الطبيعةُ والجمالُ : Nature and Beauty

إن الجمالَ العاطفيَ للطبيعةِ موضوعٌ أساسيٌ في الهايكو الكلاسيكيِ الياباني. ولقد اضمحلت القضايا المتطابقةُ للشعورِ العاطفيِ والجمالِ كقضايا أكاديميةٍ منطقيةٍ في الجمالياتِ الغربيةِ في نهايةِ القرنِ العشرين. مع ذلك فكما ألمحَ شكسبير إلى أن" الوردة َتكونُ ذات رائحةٍ زكيةٍ حتى لو كان لها مُسمىً آخر" وكما نَّوه باشو في رحلتِه، وهو يتجولُ حول البِركةِ طوالَ الليلِ مُحدقاً في القمر. و هذه القضيةُ عالجَها رانسيتسو بالمثل في نَصِه:

أقحوان أبيض
أقحوان أصفر
أليس ثمة أسماء أخرى؟!

عَبَّر باشو عن موقفِه من الشعورِ العاطفي والجمالِ الطبيعي: فقد "كانَ مُطيعاً للطبيعةِ وللفصولِ الأربعة." لذا فإننا نجدُ الكيغو مُتصدراً المشهدَ في نصوصِ الهايكو الكلاسيكي، حتى في النصوصِ الشعريةِ التي كُتبت بشكلٍ جماعي كالرنجا نجدُها مُمتلئة بالزهورِ. وعلى الأغلبِ، فإن زهرةَ الكرزِ تكادُ تكونُ هي الوحيدةُ المعبرةُ عن الجمالِ والأكثرُ شيوعاً في اليابان. فعندما تُذكرُ كلمةُ "زهرة" في نصٍ ما ، يُقصد بها زهرةُ الكَرز. وثمةَ علاقةٌ بين أزهارِ الكرز وأرواحِ آلهة الكامي والشنتو في اليابان قديماً، وهذه الزهرةُ تُعدُ معادلةً للهايكو في تجسيدِها للجمالِ الطبيعي. والنصُ الذي كتبه زوي سافينا

الإغريقي يستكشفُ هذه المعادلة.
إزهارٌ مكتملٌ
في غيرِ وقتِه ومكانِه
أكاسيا تحت المطر

في الأساس تكونُ أشجارُ الأكاسيا استوائيةٌ ذاتَ مجموعاتٍ صغيرةٍ من زهورٍ صفراءَ أو بيضاءَ اللون. يؤكد الشاعرُ في نصهِ على الاستعارةِ المطلقةِ في لحظة الهايكو.

فالأشجارُ لا تعكسُ الجمالَ فقط عبرَ الزهور. إن المطرَ يُظهرُ الجمالَ ويُبدى مفاتنَه.

وتسمو لحظة الهايكو بالجمال في القصيدةِ إلى درجةِ الخلود، كما هو جَلِّيٌ في السطرِ الثاني. علاوةً على ذلك، يريدُ أن يتأكدَ الشاعرُ من وعيِ القارئ بطبيعةِ هذا الجمالِ السامي عبرَ التلميحِ في مطلعٍ النص إلى أن الأكاسيا تبقى كما هي لحظةَ الجمالِ الخاص.

كمْ أشتاقُ أن أرى
بين زهورِ الصباحِ
وجهَ الله!
"باشو"

(7)

الكَمَال Wholeness

تتضمنُ الاستعارةُ المطلقةُ في الهايكو حالةَ الكمالِ الذي من خلالهِ ننتقلُ من الخاصِ إلى المطلقِ. وهنا تعاودنا زهرةُ الكرزِ عند باشو، فهي تصنعُ معادلةَ الهايكو التي يتمُ فيها الكشفُ عن الإحساسِ الرُوحي المنشودِ في الجمالِ الطبيعي. وهذا الإحساسُ الروحيُ له مُكوناتٌ مختلفة. فعلى حدِ تعبيرِ الشاعرِ جاري سنايدر، الذي تدربَ كبوذيِ زن ،"إن الوعي بالفراغِ يبعثُ قلبَ الشفقةِ" . وهذه الشفقةُ تجاهَ جميع الكائناتِ، -والتي تشكلُ أساسَ هذه النظرةِ الدينيةِ - مبنيةٌ على فكرةِ الفراغِ الكونيِ الذي تتقاسمُه جميعُ الأشكال.

"في الهايكو، يدعمُ مثلُ هذا السموُ في رؤيتِه لكل شيء الشعرَ المُرتَكِزَ على العاطفةِ تجاه الأشياء .فديانةُ الشِنْتُو تهبُ الصخورَ والأشجارَ والشلالاتِ نوعاً من القداسة.

من خلالِ مقولةِ الطاوي "ادخل السكون" يمكنُ للكمالِ أن يتحققَ في مثلِ هذه الحالةِ عبرَ التفاصيلِ الدقيقة للأشياءِ. لذا، ففي حالةِ السكونِ، سواء أكان في غابة جبلية نائية أو في مدينةٍ حديثةٍ مزدحمة، ستكشفُ الأشياء لك عن ذاتِها، وسينتجُ عن ذلك كلِه نوعٌ من البهجةِ والرهبةِ والاحتفاءِ والعَجبِ ، وللحظةٍ ما، سَيتبدى لكَ الكمالُ. يُقدمُ Ion Codrescu الروماني هذهِ اللحظةَ من الكمالِ في نصِ هايكو:

بركةُ الحقلِ
يتوانى عبقُ الحصادِ
في الليلِ

في هذه القصيدةِ التأمليةِ تأثرَ الشاعرُ بمشهدِ البِركةِ في حَقْلِ المزرعةِ ليلاً. هُنا يركزُ النصُ بشكلٍ خاصٍ على حالةِ السُكونِ بلْ وعلى تجسيدِ السكونِ ذاتِه. فلا وجودَ لأيِ نشاطٍ يوميٍ في النص. فقد تمَ حصادُ الحقلِ. بينما يعززُ حالةَ السكونِ عبقُ الحصادِ والأرضِ الخاليةِ. ويصبحُ العبقُ "مجازًا عضويًا" للوحدةِ الخاصةِ والمُطلقةِ التي تَظْهرُ في الهايكو كنوعٍ من الكمال، وهي لحظةٌ رائعةٌ قد يصلُ إليها القارئُ أو المستمعُ. وذلك المَعْنى السَامي للهايكو تؤكدُهُ مقولةُ الناقد الأدبي جورج شتاينر، "عندما يفرغُ الشاعرُ من كتابةِ نَصهِ، يُشرع ضوءٌ عظيمٌ في البُزوغ".

مختتمٌ:

من الضروري أن نُركزَ على جوهر الهايكو في هذه الحقبةِ من تاريخِ العالم. فالشعورُ والعاطفةُ يتمُ تهميشُهما في عصر ما بعد الحداثة. ونظرًا لأن الهايكو قائمٌ على الشعور، فإن قيم ما بعد الحداثة ستسلطُ الضوءَ على جوهر الهايكو من خلال الاهتمام بطبيعة الشعور. أيضا على المحك تطرح علاقة الهايكو بالطبيعة، لأن الطبيعة حاليا يبدو أنها في حالةِ تأزمٍ. فكلُنا نتوقُ إلى التواصلِ فيما بيننا وحتى مع العالمِ، في مسعىً مِنا إلى نوعٍ من الكمال. ويبدو حالياً أن الطبيعةَ والجمالَ ولحظةَ الهايكو، أو الالتفات للخاص أقلُ أهميةً في حياتِنا اليومية. ربما لهذا السبب، استحضر شوكان تاداشي كوندو الياباني ثورو عند مناقشة مشروعِه الذي يُشبه سايزيكي "72 عبارة سحر موسمية" في مؤتمر الهايكو الأوروبي الثاني، وأطلق على الهايكو "الشعر البيئي". قد تساهمُ استعارة الهايكو المطلقةُ على إنقاذِ مشاعرنِا وطبيعتِنا وجمالِنا. ويمكنُها أن تساعدَ في الحفاظ على إحساسِنا بالكمال - في عصرِ ما بعد الحداثة – أو ربما حتى في العالمِ ذاتهِ.

تذييل

بروس روس شاعرٌ وناقدٌ كندي، تولى رئاسةَ جمعية الهايكو الأمريكية، ودرَّس الهايكو الياباني من خلال ترجماتِه وألقى محاضراتٍ عن الهايكو في أمريكا وكندا واليابان ونيوزيلاندا ورومانيا. أصدرَ عام 2015 مجموعةً تحت عنوان "مختارات من الهايكو العالمي المعاصر. يعيشُ بروس روس حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية.

للناقد والشاعر الأمريكي بروس روس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى