الأربعاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٨
ذاكرة القهوة بنكهة رمضان (5)
بقلم سماح خليفة

جيبي الخوصة من العكد يا سيتي

ما زال الوقت الذي ابتلع لساني ورماه في قعر الزمن منتصبا أمامي، يرمقني بعين الدهشة حتى اليوم، فرغم هالة الفرح العظيمة التي تغشتني وأخواتي عندما أبلغتنا أمي بأننا سنذهب برفقتها لزيارة جدتي؛ إلا أن تلك الفرحة شابتها شائبة.

أذكر جيدا كيف تسمرنا واحدة تلو الأخرى في المطبخ على مقربة من الحمام، تحمل كل واحدة منا ثوبها الجميل المخصص لزيارة الأقارب، تنتظر دورها لتستحم وتخرج نظيفة أنيقة بأبهى طلة.

وكان فعلا أن استعد الجميع وانتظر والدتي حتى ارتدت جلبابها وربطت طرفي المنديل على شكل عقدة تحت الذقن ملاصقة للرقبة. التفتت أمي إلينا وأشارت علينا بنزول الدرج بهدوء والخروج من الباب السفلي ريثما تتفقد البيت وتتأكد من إغلاق النوافذ وجرة الغاز.

امتثلنا لطلبها وفعلا خرجت أخواتي من الباب، وأما أنا فوقفت على باب البئر الحديدي المستقر في باطن أرضية بيت الدرج.

بدأت أقفز على بابه مترنمة على صوته متسائلة: ماذا لو سقطت في قاع البئر وابتلعتني المياه ومت غريقة...لحظات حتى أنفض عني كل الأفكار المجنونة، فلا مجال في هذا اليوم الجميل إلا التفكير بجدتي التي أتوق للقائها.

"سماح يلا شو بعدك بتعملي هس منروح ومندشرك، وبعدين روحي خبري أبوك إنا رايحين عند ستك".

لم تكمل أمي كلماتها إلا وكنت قد قفزت مسرعة خارج البيت. هرولت بسرعة أكبر إلى والدي الذي يجلس كعادته على كرسيه أمام الاستوديو، يمد ساقيه إلى الأمام واضعا إحداها فوق الأخرى، ذراعه اليسرى بشكل مستقيم على بطنه وكفه اليمنى على خده، وعيناه تحدق في نقطة أمامه مجهولة، أما نظراته تسافر في فضائه الخاص، شارد الذهن، وقفت أتأمله: بماذا تفكر يا والدي العزيز؟!! ناديته صوتين: أبي..أبي، التفت إلي بعد برهة قائلا: "بتنادي يابا؟ "أمي بتحكيلك بدنا نروح عند ستي" "روحو بس مطولوش". في تلك اللحظة شعرت بقوة جارفة تشدني نحو والدي رحمه الله تأمرني باحتضانه وتقبيله، ولكني لم أفعل، تبا لي، كيف أضعت تلك اللحظة التي تحفر في ذاكرتي بمعول الشوق حتى اليوم؟!!

أكملت طريقي مع عائلتي بخطا واثقة؛ فأنا اليوم أذهب إلى جدتي برفقة والدتي وهذا يعني أنه لن يجرؤ أطفال الحي الذي تقطنه جدتي على مضايقتي، فهم مختلفون كليا عن أطفال حينا، حيث أنهم كانوا شرسين مشاغبين.

ما إن وصلنا بيت جدتي حتى وجدناها جالسة على عتبة باب البيت(العكد )المطل على الحوش. عندما رأتنا ابتسمت، وقالت: هلا بالحبايب. سلمنا عليها وقبلنا يدها، كانت تمسك في يدها (ظمة علch)، فقالت لي مباشرة: "جيبي لي الخوصة من العكد يا سيتي"، نظرت إليها مطولا دون أن أفهم ما تريد، حملت كلي ودخلت (العكد:البيت )، كنت أعرف أن العكد هو البيت، ولكني أبدا لم أكن أعرف ما هي (الخوصة )، صلت وجلت في داخل العكد علي أجد شيئا غريبا غير معتادة عليه فيكون هو الخوصة، ولكن عبثا، عندها عدت إلى جدتي أجر أذيال الخيبة وقلت لها: "دورت كثير يا سيتي وما في خوصة أبدا في العكد".

ردت جدتي متفاجئة: "ول يا سيتي يم ما في ولا خوصة في العكد!!!! روحي انت يا سيتي يا حبيبتي، أختك صغيرة مش عارفة"، وأشارت إلى أختي الكبرى.

أخذت أختي تنظر إلى جدتي تارة وإلى العكد تارة أخرى في حيرة من أمرها حتى يئست، ثم التفتت إلى جدتي وسألتها: "هي شي الخوصة يا سيتي؟!!!!!" عندها سيطرت على جدتي نوبة من الضحك وقالت: الخوصة يعني السكينة يا سيتي، مش عارفتيها!!!

اشتعلت وجنتي أختي وطأطأت رأسها خجلا، وأما أنا أخذت أنسحب رويدا رويدا إلى الخلف حتى تواريت بثوب أمي ثم همست لأختي الكبرى مستفزة إياها: "ول مش عارفة الخوصة!!!، فنظرت إلي بحنقة غضب وعيناها تضيق شيئا فشيئا ثم قالت: "اسكتي أحسن ما أجيب الخوصة وأخليك تعرفيها مزبوط" عندها زردت ريقي وبلعت لساني والتزمت الصمت وهمست في سري: التووو ووبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى