الخميس ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم فيصل سليم التلاوي

حتى تلد العنز توأمًا

أعرف أن كل شيء في هذا الزمن قد صار تقليدا شهريا. المناسبات والزيارات العائلية، والرحلات والأكلات المشتهاة, وشراء المستلزمات، لأن كل ذلك مرتبط بدريهمات المرتب الشهري. أما كيف صار ترحمي على جدتي هو الآخر تقليداً شهرياً، فذلك هو اللغز الذي يحتاج إلى حل. فأنا لا زلت أذكر حزمها وصرامتها، وهي تحث أحدنا على أن يباشر عمله بنفسه قائلة:

 ( اللي بوقف فوق راس عنزته وهي بتولد بتجيب توم).

ما يسوق عبارة جدتي إلى خاطري، ويقفز بها على لساني في نهاية كل شهر، هو مرأى مديرنا ببنيته الضخمة، وكرشه المندفع مسابقاً لصاحبه في سيره، مما جعل الطلاب يلقبونه(الباص)، ولولا أن الطرفة والنكتة لا يناسبهما طول العبارة، لأطلقوا عليه لقب (الباص أبو طابقين).

يواصل مديرنا اندفاعه وتمايله ذات اليمين وذات الشمال، جاراً ابنه من يسراه إلى جانبه، كمن يسحب شاةً من أذنها، بينما الولد خجِل محمر الوجه يكاد الدم يرشح من أذنيه، وتوشك دموعه أن تغلبه حياءً من تكرار هذا المشهد الشهري .

يحط مديرنا رحله فوق رأس مدرس الرياضيات مثلاً.

كيف امتحان الصف الثاني المتوسط يا أستاذ سعيد؟

لم أُلقِ نظرةً على الأوراق بعد، فقد كان الامتحان في الحصة التي انتهت للتو.

تمتد يدا المدير إلى رزمة الأوراق التي تتكوم على الطاولة أمام المدرس، تقلبها ورقةً ورقة، حتى تعثر على ورقة (خالد)، دون أن يبدو عليه أنه ألقى بالاً لما قاله المدرس. يمسك الورقة بيدٍ، ويشد ابنه مُقرباً إياه من الورقة باليد الأخرى، ويبدأ تصفح الورقة محاوراً ابنه:

 السؤال الأول يا خالد؟

 صحيح كله يا بابا.

 ممتاز، والسؤال الثاني؟

الفقرة ج فقط لا أدري إن كانت صحيحة أم لا.

يمكن عليها نصف درجة فقط ، هذه تُجبر

والسؤال الثالث؟

كنت قد حللته صحيحاً، لكنني شطبته وعاودت حله خطأً.

الأستاذ يحسب لك الحل الصحيح ما دمت قد عرفته . كم مرةً قلت لك:

 يا ابن الكلب -لا تطالع أوراق زملائك، فتغير رأيك تبعاً لأخطائهم.

 والسؤال الرابع والأخير؟

 الرسم صحيح وكذلك العمليات صحيحة، فقط الجواب يختلف قليلاً عن الكتاب.

 هذا بسيط، المهم صحة العمليات، اطمئن درجةٌ كاملة. اذهب واهتم بامتحان يوم غد. ما سمعت مدرس الرياضيات نبس ببنت شفة، ولا أعطي فرصةً للكلام.

يغادر الباص محطته إلى محطة أخرى، إلى مدرس اللغة الانجليزية الذي يجلس في زاوية الغرفة، يصحح أوراق امتحان لصفٍ آخر.

 أستاذ إبراهيم غداً امتحان اللغة الانجليزية لخالد، وأنت - سيد العارفين - نريد قليلا من المراجعة العامة لموضوعات الاختبار.

لكن عندي حصة بعد عشر دقائق.

لا تهتم، ابقَ مرتاحاً وراجع لخالد، وسأرسل مكانك مدرساً احتياطياً.

والطلاب؟ كنت أخطط لحصة مراجعة عامة للصف كله، والتركيز على بعض الموضوعات.

ركز مع خالد الآن، واترك الباقي عليّ، لا تُطل كثيراً . المهم فالأهم.

في اليوم التالي والذي يليه يتوقف الباص وتابعه في محطات كثيرة. عند مدرس العلوم والاجتماعيات والحاسوب وغيرهم. يتزودان من كل محطة بما يلزمهما حتى ينتهي أسبوع الاختبارات، ويعاودان نفس الجولة في نهاية كل شهر.

ما كان يحيرني ويثير عجبي في هذه المدرسة، أنني في الوقت الذي كنت أدرس فيه الشعبة (أ) التي يتوج هامتها نجل مديرنا، فأجد الصف هادئاً منضبطاً، والطلاب على قلة عنايتهم بدروسهم، ووضعها في ذيل قائمة اهتماماتهم، بعد كرة القدم ممارسة ومتابعة، وبعد الكمبيوتر والإنترنت والمسلسلات التلفزيونية، شأن طلاب هذا الزمان. إلا أنهم كانوا هادئين مريحين، إذا ما قورنوا بالشعبة (ب) التي كان يدرسها زميل آخر.

فقد كان الداخل إليها كالمغادر إلى الجبهة، لا تسمع بعد غلقه الباب وراءه إلا صراخاً وأصواتاً زاعقةً، وضرباتِ عنيفة على المقاعد وسباباً وشتائم، كأنها معمعة لا ينجلي غبارها إلا عن فتح الباب للحظات كل بضع دقائق، وإلقاء طالب أو أكثر خارجه، ثم إغلاقه من جديد لتتواصل المعركة في الداخل، حتى أن أحد الظرفاء من زملائنا اقترح أن نعلق لافتة على باب الصف، نكتب عليها (الداخل مفقود والخارج مولود).

وقد حرت طويلا أنا المدرس الجديد في تفسير هذه الظاهرة، واقتصارها على شعبة دون أخرى، وأجهدت نفسي في البحث عن حل لهذه الظاهرة، عندما اقترحت في أحد الاجتماعات المدرسية، أن نعيد قسمة الشعبتين بالتساوي بين الطلاب الممتازين والمتوسطين والضعاف علماً ومسلكاً، فيتوزع المشاغبون وتضعف شوكتهم.

ما راعني إلا صمت مريب قوبل به اقتراحي، وعيون تطالع بعضها ثم تنكس نظراتها أرضاً كأن شيئا يلجمها. ما عقب أحد على اقتراحي الذي ضاع كأنه صوت صارخ في البرية، وتم الانتقال سريعا إلى النقطة التالية.

لم أعاود طرح فكرتي على رؤوس الأشهاد، لكنني صرت بعدها كلما تبادلت الحديث مع زميل على انفراد، ووصل بنا الكلام إلى الصف الثاني المتوسط - ب- عاودت طرح وجهة نظري، لأجد الزميل و قد حبس لسانه ولاذ بالصمت، وعمد إلى تغيير موضوع الحديث.

حيرني هذا الصمت والتهرب طويلا، بعد أن تكرر من جانب معظم الزملاء حتى بات لغزاً مستعصياً، ما حلّه لي إلا زميل قديم وقد ألححت عليه أكثر من مرةٍ، لينقل اقتراحي للإدارة. فبادرني هامساً في أذني، بعد أن تعمد أن يأخذني من يدي، فينتحي بي جانباً، حتى لا يسمعه أحد. قال وهو يتلفت يميناً وشمالاً ليأمن آذان الرقباء:

 إن المدير قد اختار الطلبة الممتازين علماً والمأمونين خلقاً، ليكونوا الحلقة المحيطة بابنه، بينما قذف بكل المزعجين و المشاغبين إلى الشعبة الأخرى.

 آهٍ ما أبطأ فهمي! لكن ما ذنب المسكين محمود وهو أحسن طلاب الصفين علماً وخُلقاً؟ ولماذا ألقى به في جوف التنين؟

 لقد قلتها بنفسك: إنه أحسن طلاب الصفين، ولو بقي في الشعبة الأولى لكان منافساً لابنه. لقد أبعده( ليخلو الميدان لحميدان)، فهل ستعاود اقتراحك مرة ثانية، أم أنك قد علمت الجواب؟

- لقد علمت يا صديقي علماً كان الجهل خيراً منه.

وأدمنت بعدها على تسليتي المفضلة، بمتابعة الجولة الشهرية لمديري وولده على مختلف المعلمين عن بعد، فقد وقاني الله- أنا مدرس اللغة العربية - شر هذه اللفتات الشهرية. لا لجرأة غير عادية مني تصدُّ المدير وتوقفه عند حدّه، وتعترض على تدخله في صميم عملي، .بل لأن تخصصه وتخصص زوجته كان نفس تخصصي، فقد كانا يصبان جام علمهما على ابنهما، حتى صار المقدم على طلاب صفه في مادتي بجدارة. وهذا ما نجاني من الوقوف على رأسي في نهاية كل شهر، لإلقاء نظرة تطمئن القلب، وتعلن الدرجة الكاملة من جانب واحد.

ما أضحكني- وشر البلية ما يضحك- أن مديري قد زارني مرة، باعتباري مدرسا جديدا في مدرسته، وحرص على اختيار الصف الذي فيه ابنه، وركز في مناقشته للطلبة على الإعراب، فما كان مستوى الطلاب مُرضيا، ولا كانت إجاباتهم لتُبيّض الوجه، فما برز متميز يتصدى لكل سؤال بجواب صائب إلا ابنه، حتى سمعت أحد الظرفاء من الطلاب يهمس لجاره:
 إن أباه قد لقّنه هذه الأسئلة وإجاباتها في البيت.

انتهت الحصة وغادر الباص المحطة، وغادرت الصف بعده متهيبا وجلاً من لقائه، إذ توقعت أن يبادرني عند أول مواجهة بقوله:

 إن مستوى الطلاب ضعيف، ليس بينهم من ممتاز سوى خالد، لأنني أهتم به في البيت. فأين ثمار جهودك مع باقي الطلبة يا أستاذ؟

عندما قابلني بابتسامته العريضة عند مدخل غرفة المدرسين وقت الفسحة، أطرقت من خجلي، فقد أيقنت أنها ابتسامة سخرية، ولم أصدق ما سمعته أذناي من إطراء قليل لي وكثير لابنه:
 إن خالداً رائع فعلاً، أنه متميز حقاً وبجدارة، لقد كان اليوم مبدعا عند الأستاذ (يوسف).

قال ذلك موجهاً كلامه لجميع المدرسين، وكأنه لم يلحظ في الصف أحدا غير ابنه. وظللت حتى يومي هذا غير مصدق لما سمعته أذناي، رغم تأكيد زملائي القدامى

 الذين هم أدرى به مني- أنه جاد في قوله، وأنه ما دامت عنزته بخير فالدنيا كلها بخير، ورغم حكمة جدتي التي لقنتني إياها صغيرا، والتي مازالت ترن في أذنيّ

 بأن من يقف فوق رأس عنزته عند ولادتها تنجب توأما- فإنني ما زلت غير مصدق لما سمعت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى