الاثنين ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
أوجه التشظي والالتئام السردي في رواية

حياة واحدة لا تكفي

عبد النبي بزاز

تبدو ملامح النفَس السردي بارزة في رواية « حياة واجدة لا تكفي » للروائي المغربي حميد ركاطة من خلال عدد الشخوص (أكثر من 40)، وتعدد الفصول (5 فصول ب 26 عنوانا، و5 عناوين مستقلة)، وتغدو أقرب للطول لما تتضمنه من وقائع ممعنة في التشعب، وما تخلقه من مسارات وسياقات تستدعي دقة المتابعة،و حسن التتبع للإمساك بخيوط شبكة حكي موسومة بالتشظي في فصولها الخمسة، والتئام دائري تجسده اللوحات/ المشاهد السردية الخمس الأخيرة.

فعلى مستوى الشخوص تحظى شخصيات العياشي، والغالي، وسعاد، والحاج عبد اللطيف، ولحلو، وعبد الغفور، والروبيو بسلطة مركزية في بناء الأحداث وتطور سيرورتها بينما تتغيرهذه السلطة بشكل ملموس في مجريات العناوين الخمس الأخيرة من خلال شخصية صالح والجامعي والزوهرة وبصيغة دائرية استرجاعية حيث ينحو التشظي نحو نسق ائتلاف والتئام ممثل في شخصية العياشي والحاج، في حين تحضر شخصيات مثل الزاهية ووالدها وزوجته وأعمامها بشكل متفاوت، في تساوق وتقاطع، مع سياق الأحداث وما انتظمها من إيقاع مطبوع بالتذبذب والتأرجح، التجاذب والتنابذ، الاهتزاز والارتداد...

وعلى صعيد الأمكنة (أكثر من 20 مكانا) موسومة بالتعدد والتنوع مما يخلع على وقائع الرواية زخما من وفرة وسعة تزخر بها ثنايا فصولها، وتفاصيل مشهدياتها.

وقد شكلت الأضرحة فضاءات لتصريف اعتقادات مجللة بالجهل والشعوذة:"كانت الزاهية حريصة عند كل زيارة، على الاغتسال بماء الضريح لاعتقادها في بركته، وشفائه للعديد من الأسقام، التي يصعب على الطب التصدي لها..."ص 6، وتيسير أمور الزواج، وفك ألغاز شفرته المستعصية:"تؤمن حد الجنون ألا شيء غير الماء مع بعض «الحروز» بإمكانه أن يجردها من «التابعة» التي تلازمها كي تتزوج.."ص 6، بالإضافة إلى أماكن أخرى عديدة ومتنوعة كمدن أزمور، وبن أحمد، والحسيمة، وطنجة، وخريبكة، والرباط، والدار البيضاء، وسلا، وبوقنادل، وشاطئ الأمم، ونهر أم الربيع،وحي الكاريان، وحانة المفتاح الذهبي، وحانة لكارفيل وما شهدته من أحداث ووقائع تأرجحت بين احتجاجات عنيفة كإضراب الدار البيضاء الذي واجهته السلطات بأنواع القمع،والاعتقال، والتقتيل، والحانات التي احتضنت جلسات لأشخاص انغمسوا في تصريف همومهم عبر جلسات بوح ومكاشفة تستمد مادتها من نوستالجيا ماض حافل بألوان الخيبة، وضروب النكسات من مهن مختلفة (شرطة كالحاج، والعياشي)، و(أساتذة جامعيون: صالح والسالمي)، و (مجال فني: الزوهرة) كسرت نتوء التشظي بهيمنة شخوص أساسيين تحكموا في توجيه وتسيير دفة الحكي، وما كشفوا عنه من وقائع أثرت على مسار حياتهم فزجت بهم في اقتراف سلوكيات قيمية موسومة بالضعة والدناءة بانخراطهم في علاقات تطبعها الخيانة والنذالة كما أسرت بذلك سعاد :"مَن مِن الرجال يستحق أن أخبره بخيانتي له،وبتفاصيل علاقاتي السرية مع العياشي : السي لحلو، أم الحاج، أم منير الشاب الوسيم... أنا امرأة لا تشعر بالراحة والامتلاء إلا عندما تجد نفسها محاطة بأكثر من رجل..."ص 118، وعلاقة العياشي برجاء :"أنا مجرد ظل باهت من ظلالك الوارفة، عامل ملزم بخدمتك بتفان، وعليه ألا يتجاوز حدوده كسائق ينفذ أوامرك ونواهيك."ص 103، وعلاقتها بزوجها المطبوعة بالخيانة والخداع :"لقد عشت طوال حياتي، أتجرع الهوان، وحرقة خيانات زوجي المتكررة، لم أعرف طعما للحب الصادق... زوجي، لم يكن يحب سوى نفسه، كان رجلا أنانيا..."ص 104، وإفصاح العياشي المسكون بالمقت والقرف من مهنة (مخبر) التي أفرغت حياته من حمولاتها الإنسانية، وجردتها من نزعاتها القيمية :"أكره هذه المهنة التي لا أسترجع فيها إنسانيتي الضائعة إلا لحظة الاختلاء بنفسي في أوقات أصبحت جد نادرة..."ص 100.

أحداث في اقترانها بشخوص، وتساوقها مع مستجدات تتشعب، تتشظى عبر بوح يروم تطهير النفس والذهن من أدران ظلت مترسبة في الذاكرة والوجدان لتتدرج نحو التقارب والالتئام في نهايات سردية حبلى بزخم من مفارقات وتناقضات تمتح من نهر متعدد المنابع، متنوع المجاري، هادر بفيض من مشاعر ورؤى وتطلعات استنفد إيقاع الزمن جموح رغباتها، وكبح نزوع توقها مما أفقدها بريق توهجها، وألق إشعاعها.

وقد خلصت شخصيات الرواية إلى النبش في أضابير زمن خلف ندوبا لا تلتئم، وأخاديد غائرة في أعماق النفوس والطوايا تمعن في إيلامهم ونكأ جروحهم العصية على التعافي والاندمال. فالعياشي الذي يراوده إحساس فظيع كلما فكر في ماضيه المقيت كمخبر، والحاج الذي انقاد إلى حالة جنون رهيب :"بل لمجنون كان يفكر دوما في الانتحار،لتخليص ذاته من مراقبة زوجته اللعينة، وروحه من إدمان يقض مضجعها. بات شبحها يطاردني. يقض مضجعي. أحس بالمخبر المتوغل في روحي يراودني عن نفسي، فأتيه لأيام هائما على وجهي. فكرت في التخلص من زوجتي، لكنها أضحت في وضعية إدارية، عقدت نسبيا مهمتي... لم أكن متزوجا في يوم من الأيام... بل كنت أحلم دوما أنني متزوج من أجمل امرأة في العالم... قال الطبيب النفسي الذي يعالجني، أنني ما زلت متأثرا بالفظاعات التي ارتكبتها..."ص 200، فالوضعية المهنية التي تردى إلى دركاتها فصار تحت إمرة زوجته :"أنا سعاد زوجتك في البيت، أما هنا فأنا الضابطة ميمونة رئيستك."ص121، ضاعفت من أزمته العقلية والنفسية. أما العياشي فقد استشعر ألفة محفوفة بمشاعر ود وتواصل داخل أجواء الحانة مع ندماء انزاح الحديث معهم إلى بوح ومكاشفة :"لم ينكر العياشي أنه أحس بالألفة بين كل الذين كانوا معه بالحانة، وأنه تلذذ واستمتع بقصصهم المثيرة. لم ينكر أنه تقاسم معهم جرعات مرارتهم، وبكونه يحوم مثلهم حول نفس المدار المغلق..."ص 202، إلا أنه سرعان ما تخذله أدوات الحكي وتفلت منه خيوطه :"تتلاشى الكلمات. يضيع خيط الحكي. يتبخر كل شيء..."ص203، فينصاع إلى قرار الرحيل والابتعاد للانغمار في متاهات تجربة مشرعة على الاستشراف والاكتشاف :"قررت عدم العودة إلى البيت ذلك المساء بل إلى الأبد. تحذوني رغبة جامحة في السفر... سأتجه نحو المحطة. أريد أن أستقل أول قطار متجه إلى أي مكان. ستحضنني كل محطات هذه البلاد. سأكون مسافرها الوحيد الذي لا حقائب له. لا خصوصية له. ولا اتجاه محدد سلفا."ص 203. بينما الشخصيات الملتحقة بجوقة الحكي، والتي لم تنخرط في رسم إوالياته، وإرساء لبناته ك « الزوهرة »، و«صالح» فقد أغنت المتن الروائي ببوحها بتفاصيل مثيرة مستمدة من تجاربها في الحياة :"تمددت الزوهرة قرب صالح على السرير، وهي تجتر خيبتها الموغلة في المرارة. صفعتها صورة عبد الغفور الذي افتقدته دوما باعتباره الرجل الوحيد الذي قدس شخصها، كما قدس جسدها،وفنها، وأنوثتها.. اختفاؤه كان الضربة القاضية التي قصمت ظهرها، ومزقت كيانها..."ص 206، مما جعلها تتجرع مرارة الفقد، وزج بها في دياجير العزلة والضياع. ف « صالح» الذي يرقد بجانبها عجز منحها ما تحتاجه من دفء عاطفي واعتباري افتقدته مع قتل زوجها بشكل مريع وفظيع :"وهي تسمع خبر إعدامه بالرصاص."ص 206، فتفاقمت خيبتها، وتضاعف حجم إحساسها بالحسرة والأسى :"التفتت إلى صالح أحسته هو الآخر هاربا من سديم لحظتها..."ص 206.

أمام تنوع خاصيات السرد وأنماطه بأبعادها الرمزية والدلالية، وأمام صعوبة الإلمام بكل جوانبها الإبداعية والجمالية سنقتصر على الإشارة إلى بعضها كاللغة التي تنوعت بين أسلوب الإخبار :"كان العياشي،يقدم آخر تقاريره عن مرتكبي مجزرة الشاطئ..."ص 89، والوصف :"وهو رجل، فاره الطول، نحيف البنية، تكتسح التجاعيد وجهه..."ص 47، والمجاز :"برحيلها تجتث شجرة العياشي اليانعة... دب في كيانها سر الحياة، وسرى نسغه في شرايينها.يغزو أغصانها، وفروعها، ليفجر عليها براعم أمل جديد."ص 164، والوقائع في شقها التاريخي المتأجج :"مرت احتفالات فاتح ماي على وقع خطابات نارية للنقابات العمالية. انتقدت جرائد الأحزاب المعارضة بالبلاد بشدة قرار الحكومة

المنفرد الذ ي تم اعتماده في قمة منظمة الوحدة الإفريقية بنيروبي حول قبول تقرير المغرب لتنظيم استفتاء لتقرير المصير بالصحراء المغربية..."ص 125، بإقرار خوض إضراب يوم 17 يونيو 1981، وما عرفه من أحداث توزعت بين الاعتقال والاختطاف و القتل في صفوف المناضلين من قواعد وقيادات حزبية ونقابية :"مخلفات الإضراب العام السابق الذي دعت إليه المركزيات النقابية ما تزال جروحه بادية للعيان. الحقوقيون بالكاد يتهامسون في مقراتهم عن الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعن معتقلات سرية بنيت في مختلف ربوع الوطن. أصوات... تصدح... للكشف عن مصير ضحايا الاختطاف، والتعذيب، والقتل... الصراع العسكري بلغ ذروته مع جبهة البوليساريو الانفصالية."ص59،وشقها الاجتماعي بتجلياته المزرية التي تعكس ما تعيشه شرائح عريضة في المجتمع من انسداد الآفاق مما يقودهم إلى المغامرة بحياتهم وخوض تجارب محفوفة بالمخاطر :"بين قائل بأنها انتحار جماعي لحملة الشواهد العليا، وبين مدع كونها محاولة فاشلة لهجرة سرية جماعية..."ص 75، مع الإشارة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة كطرف يمتلك تصورا ت وتوجهات عقدية بأبعاد دعوية لا تخلو من نزعة عنف وعداء :"يحثهم من خلال خطبته العصماء على الجهاد، ومقاومة الفساد. أمرهم بالاقتصاص من الكفرة، واستباحة دمائهم، وأروحهم على يد جند الله.."ص 92، مما حذا بأجهزة الشرطة إلى تعقبهم،و رصد تحركاتهم :"أمري بالعمل على تقليم أظافر اليسار « الإسلاموي » داخل رحم بعض الجامعات..."ص 61.

ونظرا لغنى الرواية بعناصر و« تيمات » سردية عديدة ومتنوعة لا تتسع حدود هذه الورقة للإلمام بها، والكشف عن مكوناتها الجمالية، وأبعادها الرمزية والدلالية فقد اقتصرنا على مقاربة عنصر التشظي والالتئام عبر الأحداث والشخصيات، وما رسمه من شكل دائري متوسلا بعُدة من أدوات إبداعية تتغيى إرساء أسس تجربة روائية متعددة المرامي والمقصديات.

رواية «حياة واحدة لا تكفي» للروائي حميد ركاطة

طبعت بمطبعة الموجة الثقافية ـ الفقيه بن صالح ـ المغرب /2020

عبد النبي بزاز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى