الاثنين ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٢١

«خيرة أولاد الله» للكاتب الدنماركي مورتن پوپي

رنا أبو حنا

لن أوجه حديثي الليلة الى صديقتي العزيزة ابنة الناصرة المحتفى بها سوسن كردوش قسيس التي فتحت لنا نافذة ثقافية على الأدب الاسكندنافي المعاصر والدنماركي تحديدًا..

فالحديث بيننا ذو شجون.. لا تقيّده تحديدات الوقت ومجرى الندوات.. إنه صدى ذكريات كثيرة و أواصر صداقة متينة.. وقد يطول ويطول.. وأن كنت سأشيد دومًا بقدراتها الفائقة في عالم الترجمة التي تبهرنا بها تباعاً في كل جديد لها..

سأترك سوسن معنا على هذه المنصة الثقافية وأنتقل إلى ذاك الشاب القابع في الدنمارك مورتن پوپي مؤلف هذه الرواية.. والذي حظي باهتمام جدي عن إنتاجه الحديث والمعاصر.. ورسّخ في فترة قصيرة جدًا موقعه في الساحة الأدبيّة في الدنمارك وخارجها، وحصد العديد من الجوائز، عن روايته الأولى،"الخطّة”، عام 2015، وروايته الثانية"خيرة أولاد الله"2018 وقد تُرجمت لأكثر من خمس وعشرين لغة، من بينها مؤخّرا، اللغة العربية، على يد الكاتبة والمترجمة الفذة سوسن كردوش قسيس.

مورتن يا مورتن!! كم مرة أمعنت النظر في صورتك التي تزيّن الغلاف الداخلي لهذا الكتاب علني أفهم شيئًا من تعابير وجهك ونظرات عينيك..

فأنتَ في عمر ابني البكر ولدتما في أواخر سنة 1986.. وإن اختلف أبناء الجيل الواحد في مهاراتهم وسلوكياتهم وانفعالاتهم.. فليس من العدل أن نتوقع منهم نفس الإنجاز مع تفاوت قدراتهم وظروف معيشتهم وبيئتهم والمستوى الاقتصادي والاجتماعي..

بلهفة أم أتساءل الآن؟!

كيف عايشت في مراحل طفولتك الباكرة هذه الأحداث الصعبة في حي الفقر أماير في كوبنهاجن في الدنمارك؟! وأتيت لنا برواية فاضحة مأخوذة من هذا الواقع..حيث سكنَت ليلى العراقية أم جميل وهانم التركية أم زكي بيهان وخليط من المغتربين والسكان الأصليين في بيئة ينتشر فيها العنف والجريمة والعنصرية والتفكك الأسري وتعاطي المخدرات والاتجار بها.. ونجَحتَ في تخطي كل الصعوبات لتشقّ طريقك في كتابة الروايات وسيناريوهات الأفلام.

ومهما كانت الدوافعُ في كتابة هذه الرواية فإن اهتمامك الإنساني بالمغتربين في مجتمعك، وأنماطِ معيشتِهم المحكومةِ بالجهلِ والفقر وكلّ ما من شأنه أن يُؤدّي إلى الانحراف والفشل، واتهامك لسياسة السلطة المحكومة بالإهمال من منطلق عنصري تجاههم.. يظهر كأقوى دوافع الكتابة.

ومع اختلاف الظروف والأوضاع فالأم هي الأم في كل زمان ومكان.. وكم تدعو الأمهات لأولادها أن يكونوا من خيرة أولاد الله لكنك تخبرنا"أن سكان هذه المنطقة ليسوا من خيرة الناس’’.صفحة 177

وأواصل البحثَ عن عنوان الرواية"خيرة أبناء الله".العنوان الذي لم يقف عندك على عتبة النص وبدايته، بل أغنى بدوره الرواية بمعان جديدة وكأنه المفتاح الذي به تحل ألغاز الأحداث وإيقاع نسقها الدرامي وتوترها السردي، علاوة على مدى أهميته في استخلاص البنيّة الدلاليّة للنصّ، وتحديد تيمات الخطاب القصصي، وإضاءة النصوص بها.

ثم أن"زكي لم يكن في محصلة الأمر من خيرة أولاد الله، بالضبط"

وزكي الشاب التركي 16 عامًا كان طالبًا في المدرسة، لعب كرة القدم وسكن مع والدته في أماير وعمل في توزيع الجرائد الدعائية مع صديقه العراقي جميل.. وقد قتل جراء جريمة بشعة نفذها ولدا الخالة الشابان الدنماركيان سيمون وميكي أمام ناظري جميل، وذلك من دوافع الكراهيّة والعنصريّة والعنف ضد المغتربين من الأجانب.

مورتن، أنت كاتب قصة حكيم..

لم تقع في مطبات وأخطاء يرتكبها الكتاب المبتدئون من الشباب..سأعرض عليك بعضها:-
لم تأت القصة من رأسك، بل من قلبك، علمًا أن أحداثها وقعت بالفعل.. يبدو لي أنك رسمت ملخصًا بحبكة القصة لأنك تعرف حول ماذا تدور قصتك قبل الشروع في كتابتها.. لقد أطلعتنا على خفايا حياة الشخصيات الرئيسية والشلة. حيث أظهرت معرفة عميقة بأحوال السكّان الأصليّين وكذلك أحوال المغتربين، وخاصّة الشباب من الفريقين، الشباب الذين أهملهم النظام لينحدروا إلى الهاوية ويواجهوا مصيرهم المحكوم بالانحراف والفشل والخراب.. وتدمير حياتهم الاجتماعية والنفسية وسط آفة العنف والمخدرات والجريمة..حيث تعدّت معرفتك بأحوالهم وظروف معيشتهم، إلى المعرفة الدقيقة باللغة التي بها يتعاملون.

لم تكن استعراضيّا فيما كتبت، ولم تبدد طاقاتك الابداعية في اصطناع الأعذار لتعرض مباهج البلاد وسكانها.. بل انصرفت للعمل بكل قواك لتفضح السلطة ومنطلقاتها السياسية والعنصرية.“السيّدة التي حقّقت معي قالت لي إنّ الموضوع (ارتكاب الجريمة) لا علاقة له بالعنصرية"(ص 388)، لقد شكلت معرفتك في هذا العالم منجم ذهب للرواية. وجعلت القارئ يحس بأحداث القصة، يتذوق، يسمع، يرى،يشمّ ويشعر، وخاصة عند الحوار بين الشخصيات.

لم تشتت انتباه القارئ عن مسار القصة، بل أدخلته الى مشاهد عالم قصتك مستعملاً لغة الشارع المحمّلة بالعنف والعنصريّة والكراهيّة والألفاظ السوقية. لأن وظيفة كاتب القصة تكمن في سبر أغوار العواطف الإنسانية ثم تصويرها واعادة خلقها وتحريكها.

لم تلق مواعظ على القارئ، ولم تجعل شخصياتك ثرثارة أو تحاضر بل نجحت القصة في إقناع القارئ بمسألة سياسية مذهبية، أخلاقية اجتماعية مع التركيز على أهمية الخلفية في سلوك الشخصية سلوكاً معيناً وقيامها بفعل ما، ولم تحشر الشخصية في النص.. بل كتبت عن شخصيات مجازفة ومستثارة جدًا نحو الغاية. وهذه هي الشخصيات الروائية الجيدة.

لم أشهد في هذه الرواية عناصر لا تتلاءم مع الأحداث ولا تخدم في إيجاد جواب عن سؤال المشهد أو تشتت القارئ.. بل حرصت حرصاً شديدًا على بناء القصة على خط مستقيم مع حبكة مشهد مشدودة..بالطريقة التي نتحدث بها في الحياة الواقعية... البساطة والمباشرة والاتجاه نحو الهدف هي دعائم حوار الرواية الحديثة.

أخيرًا وليس اخرًا..لم تشغل نفسك برأي أمك، القلق بشأن رأي الأم قد يعرقل جهودك الأبداعية، خاصة وأنه يصدر من أناس من غير المختصين.

(ألقيت الكلمة في أمسية إشهار الكتاب باللغة العربية في نادي حيفا الثقافي في 19.8.2021)

رنا أبو حنا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى