السبت ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٥
قصة قصيرة
بقلم سها جلال جودت

دماء الفرس

الأحلام المزعجة تخيفني وتجعلني أدخل في حالةٍ من التوتر والقلق وأنا أحسب ألف حساب لهذا المنام أو لذاك الذي مضى عليه زمن !.

كانت الشمس تمطُ جدائلها من خلف الغمام، وعيناي تبحثان عن خط الأفق الذي اختفى هو الآخر وراء العمارات والفنادق الشاهقة فما عدت أشاهد سوى سطوحٍ ضُربت عليها أقراص مقعرة من المعدن القابل للصدأ فتسمع صوت حركتها ليلاً وهي تدور مثل ثعلبٍ لتنقل إليك أخبار العالم في دقائق وجيزة وأنا أفكر بصديقتي ميساء وما رأيته في حلمي عنها!

أذكر كلامها الأخير قبل سفرها إلى مدينة الغواية :

 ألن تتغيري ، العالم يتقدم ، وأنتِ ما زلت تفكرين بالأحلام وبخط الأفق ؟!

حين تخاطبني بهذه الطريقة أستاء بعض الوقت ثم أغفر لها عدم فهمها ، فالأمر أكبر من هذا بكثيرٍ، ولأني كنت أخشى عليها من الضياع فقد حدثتها عن حلمٍ كنتُ قد رأيته في ليلةٍ ماضيةٍ ، ويتعلق بها، وليلة البارحة للمرة الثالثة يتكرر الحلم!!

كعادتها هزئت ورفضتْ أن تصدقني وسافرت إلى حيث أقنعوها أن الحياة بانتظارها،وقبل أن تسافر قلت لها:

- تعقلي فالحلم يشير إلى وقوع مكروهٍ ، ضحكت واسترسلت في الضحك وغادرت !؟

حين غادرت ميساء المدينة،عاد الحلم بالصورة نفسها فاضطرب قلبي وعقلي،وزارتني هذه الصور القاتمة التي أرجعت ذاكرتي إلى الوراء البعيد، البعيد عن حكايات جدي وجد جده حتى الجد الأكبر،فأرتعش وأرتجف وأنا أمارس موهبتي في فن الرسم، فأذكر وجه عمي الذي يشبه وجه جدي حين عارض أبي ورفض بشدة متوعداً في أن يدعني أدخل معهد الفنون الجميلة لأتابع تعليمي في فن الرسم، لكن والدي قبل التحدي مع أخيه وتركني أنفذ رغبتي لثقته بي من ناحية، ومن ناحية أخرى لثقته بتربيته .

وفي هذا كان يقول أبي: إن عمي ظل جاهلاً حتى في الكتّاب لم يفلح ، وحين ضربه الشيخ على رجليه بالعصا فرَّ هارباً، وما عاد يقرأ في القرآن!!

ولأن والدي كان قارئاً عارفاً فقد منحني حريتي لأوظف موهبتي في النواحي الذوقية والجمالية،وكم كانت تسعده ألوان الفرح الزاهية،وكم كانت حيرته تبدو واضحة من الفن التجريدي وما يدور في أعماق تلاوينه التي تبدو في بعض الأحيان غامضة كما بعض الأحلام الغامضة التي يصعب على الإنسان العادي تفسيرها !!

السواد في المنام ضلالٌ ... هكذا يقول " ابن سيرين " وابن سيرين عالم في تفسير الأحلام ولأنه عالم فقد قرأت تفسير حُلمي عن ميساء !!

وحين حاولت رسمه غابت عن ذاكرتي الرؤيا وامتزجت الألوان فما عدت أميز بين الأبلق و "الكميت" المترجح بين السواد والحمرة، وهل كان من فصيلة "البرزون" ؟ أمْ هل هو من فصيلةٍ أخرى ؟

حين أمسك الرجل بالفرس كانت ملامحه غريبة و صورته مخيفة،لست أدري لماذا لم أستطع تحديد قسمات وجهه جيداً؟ في لحظة رفعت قائمتيها عالياً وحاولت الجموح،وفي لحظة قبض على اللجام كأنه قبض على روحها، فاستكانت هادئة بين يديه وأناخت برأسها تحت سكين الذبح وسط حشدٍ من جمهورٍ لا أعرف من أين جاء ؟ وكيف وقفوا للفرجة فقط دون أن يتحرك واحد منهم لإنقاذها؟!

ما زلت أذكر دمعتها الملتمعة تحت سكين الذبح،ولكن لماذا لا أستطيع رسم حقيقة ما رأيت؟

فكرت أن أحدث والدي عن صورة الحلم التي التصقت بالذاكرة، ولم تلتصق على اللوحة !

ابتسم والدي وتركني أحترب مع ريشتي وألواني وبلا شعورٍ أمسكت بصورة ميساء ونظرت إلى وجهها الذي فقدَ رونق البراءة،وماتت فيه تلك الإشراقة التي أحببتها!

فالعينان تبدل لونهما وأصبحتا مثل عيني تمثالٍ لا بريق لهما،وهذه الخصلات المجعدة والمنتشرة على المنكبين كانت تجعلني أحس كأنها صوف نعجة يحتاج إلى مقص راعٍ كي تعود للوجه بشاشته وجماله الطبيعي لكنها انخرطت بأزياء البهرجة وما عادت تسمع النصيحة ولا تقبل بها !!

وحين حاولت المقارنة بين فتاة الأمس وفتاة اليوم وجدت أن الفرق أصبح شاسعاً، فعرفت لماذا ابتسم والدي دون أن يقدر على تفسير الحلم كما كان يفعل في كلّ مرةٍ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى