الثلاثاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم حسين حمدان العساف

ذكرى المناضل القومي حسين النزال

عمر الإنسان عابر في الحياة، والإنسان مخيّر في رحلته القصيرة بين أن يعيش كما تعيش الكائنات الحية الأخرى، أو يدرك أن له في الحياة رسالة عليه أن يؤديها، حتى إذا رحل ترك أثراً في مجتمعه أو وطنه بحجم دوره وتأثيره، لم يكن أبوعمار نكرة أو إنساناً عادياً أو انتهازياً ليصبح بعد رحيله نسياً منسياً، وإنما كان رمزاً من رموز نضالنا الوطني والقومي. أدرك رسالته، فنهض لها. تخرج معلماً، ثم تا بع دراسته الجامعية، وتخرج في جامعة دمشق(قسم الفلسفة)، واتخذ من التعليم مهنة سامية يبني بها الأجيال المتعاقبة في محافظة الحسكة طوال أربعة قـرون خلت. عـلم في مدارس الحسكة، وإعـدادياتها وثانوياتها ومعاهدها المختلفة، يغرس في عـقول أبنائه الناشئة وقلوبهم قيم الحق والعدل والخيروالعدل والحرية والمساواة، وتتلمذت على يديه نخب واعـية، هي اليوم طليعة أبناء محافظة الحسكة: أطباء ومهندسون وصيادلة ومعلمون وكتاب وأدباء وشعراء وغيرهم،ينتمون إلى مختلف شرائح مجتمع الحسكة المتنوع، أسهم في تكوين وعـيهم وبناء شخصياتهم، وهؤلاء كلهم يقدرونه عالياً، يضمرون له في قلوبهم الحب والتقدير، ويشهدون له بالفضل والعرفان.

كان أبوعـمار مهذباً لبقاً في تعامله مع الآخرين، يصغي إلى محدثه باهتمام، ويبسط رأيه بهدوء دون تزمت، يتعلم من الآخرين، ولا يتعالى عليهم، اكتسب من مطالعاته الدائمة ومحاوراته المستمرة ثقافة واسعة،، يؤمن بالتنوع والتعد د وحق الاختلاف، وبرى أن الحقيقة ليست حكراً على أحد دون أحد، وإنما هي للجميع. دافع في حياته عن حرية الإنسان وكرامته، ودعا إلى نبذ العنف والتعصب والكراهية وإحلال المحبة والتسامح والانفتاح على الآخر مكانه عن طريق الحوار البناء الواعي، كان عـلى خلق عظيم من التواضع والصدق والشهامة والمروءة وطيب المعشر، لايتردد في إعلان مواقفه بجرأة في أصعب الظروف، وقول مايراه حقاً. كان عفيف النفس أبياً، لا يعرف الموالاةلأحد، يزدري الوصوليين والمتلونين والانتهازيين، ما هادن يوماً مستبداً، ولا جامل مستغلاً. ا رتفع بسلوكه إلى سمومبادئه، فانعكس مبدؤه على سلوكه، وتطابق عـنده المبدأ والسلوك.

وجد في نهج الناصرية الداعي إلى الثورة على واقع المجتمع الفاسد المتخلف الذي نخره الاستغلال والاحتكار والجهل من أجل بناء مجتمع الكفاية والعدل على أساس الديمقراطية السليمة، وإقامة الوحدة الوطنية ومقاومة الاستعمار والأحلاف العسكرية سعياً لإنجاز المشروع النهضوي الحضاري العربي، وتوحيد الأمة العربية المجزأة، وجد الراحل في هذا النهج، مايروي غـليله، ويستجيب لتطلعاته، فالتزم به، ووظف عـمره وثقافته لخدمة مبادئه، وحوّل رفضه واقع الفساد والإفساد واستغلال موارد الشعوب وقمعها، والتلاعب بمبادئها والمتاجرة بمستقبل الأمة وأهدافها إلى منهج ثابت جسّد ه سلوكاً وممارسة يومية، ظل مستمراً فيهما طوال عمره بكل شجاعة ورجولة حتى دفع ثمنه: المحاصرة والمضايقات المتواصلة والاعتقال الذي زاده إصراراً على تمسكه به ويقيناً بسلامته.

أمضى الأخ حسين موسى النزال أغـلب سني عمره في النضال الوطني والقومي، انتسب في مطلع شبابه إلى حركة القوميين العرب، وبرز مناضلا صلباً في التيار الناصري، مقاوما ًالانفصال، تفاءل في البداية من قيام حركة الثامن آذار عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين التي أسهم بإنجازها ضباط ناصريون، وكان أهم هدف لها أعلنته إعادة سورية إلى الجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر. ثم انتسب إلى حزب الاتحاد الاشتراكي العربي منذ بداية تأسيسه عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين، وصار أميناً لفرعه في محافظة الحسكة بضع سنوات، ونشط للحزب في مجتمعه وبين طلابه، ولما اختلف حزب الاتحاد الاشتراكي العربي مع حزب البعث العربي الاشتراكي حول المادة الثامنة من الدستور التي تكرّس هيمنة الحزب المطلقةعلى الدولة والمجتمع، وتهمّـش دور الأحزاب الأخرى أيد بقوة قرار المؤتمر السادس لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي المنعقد في نيسان بدمشق عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، وكان أحد أعضائه، الخروج من الجبهة والبحث عن تجربة جبهوية فاعـلة ديمقراطية بديلة، تتساوى أطرافها جميعها بأداء أدوارها في الدولة والمجتمع، وتتحمل مسؤلياتها بقدر متسا و. ورأى أنّ أي بلد في العالم لايستطيع مواجهة التحديات الداخلية والأخطارالخارجية مالم تكن جبهته الداخلية متراصة متماسكة، تمثل كل مكونات مجتمع هذا البلد وأطيافه السياسية المختلفة. لم يتعامل مع أبناء مجتمعه على أساس العرق أوالدين أوالقبيلة أو الطائفته.

نظر إلى المواطن على أنه إنسان قبل كل شيء، ثم مواطن في بلده،. ورأى أن تعدد الطيف العرقي والديني والسياسي في بلدنا حقيقة تأريخية واقعة، لاسبيل إلى تجاهلها أو نكرانها.وأن هذه الأطياف المتنوعة تشكل نسيجاً اجتماعـياً، رأى أن يظل محكم الحبك والقوة والجودة، نستثمره لخير هذا المجتمع والوطن لا أن نستخدمه معولاً لهدم بنيانه، ورأى أنّ الشرائح الاجتماعية إذاتساوت جميعها في حقوق المواطنة، ولم تشعر شريحة بغبن يمسّها، فإنها ستتلاحم في جبهة وطنية حقيقية لازائفة، فاعـلة لا مهمّشة، تحمي وحدة البلد، وتدفعه إلى الرقي والتطور والتحضر، وتعززانتماءه إلى أمته. ودعا إلى التغيير الديمقراطي من الداخل سلماً لا عنفاً، ورفـض أي تغيير يرتكز عـلى قوى الخارج.

وفي رأيه أنّ الأنظمة العربية معادية لإرادة شعوبها في الحرية والتقدم والوحدة، أذلت جماهيرها، وأبعدتها عن السياسة، وأقصت قواها الوطنية والقومية الفاعـلة عـن ممارسة دورها المبدع والخلاق في تقدم بلدانها وتطورها وإنجازوحدة أمتها، وهي في رأيه أنظمة شمولية خدمت بنهجها الشمولي المشروع الأمريكي الصهيوني من خلال إحباطها مشروع الأمةالحضاري النهضوي الذي سعت إلى إنجازه الحركة الناصرية في مرحلة نهوضها القومي، وتلاقت مصالح هذه الأنظمة الضيقة مع المشروع المعادي المسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبيرالذي يهدف إلى رسم خارطة جديدة لمنطقتنا للقضاء على أمتنا وجوداًوكياناً وحضارة، وتجزئتها إلى كيانا ت صغيرة وتفتتيت البلد الواحدإلى دويلات عرقية وطائفية ومذهبية أو كيانات فيدرالية هزيلة مغلفة بغطاء براق خادع من الديمقراطية وحقوق الإنسان، يرتبط مستقبلها بأمن إسرائيل ومصالح الاستعمار الحيوية في المنطقة، ورأى الراحل أن العجز العربي مرده إلى غـيا ب الوحدة أو التضامن العربي، وأن لاتحرير أو حرية أوتقـدم أوبناء قوة إلا بنهوض المشروع العربي الديمقراطي الحضاري، ونحن نعيش في عالم لا مكانة فيه اليوم إلاّ للأقوياء، وأنّ هذه الأمة تملك في رأيه من مقومات الوحدة مالم تملكه أي أمة من أمم العالم، وسعى الراحل طوال عمره
د اعـياً إلى الوحدة مناضلاً من أجل تحقيقها.

أد ى الأخ حسين موسى النزال في أواخر حياته دوراً نشطاً في توحيد الحركة الناصرية، في الداخل والخارج، فـقـد أسهم بانضمام التنظيم الشعبي الناصري في سورية إلى حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وفي الوطن العربي شا رك في التأسيس للمؤتمرالناصري العام، وأخيراً شارك في المؤتمر التاسع لحزب الاتحا د الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية، ودفع الراحل ثمن مواقفه باهظاً: تعرض إلى مضايقات كثيرة في حياته، فحوصر من كل حدب وصوب، واعـتقل مع عشرات المناضلين الناصريين ستة أشهر عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين، عدا الاستدعاءات الأمنية المتلاحقة، فلم تـزد ه الظروف الحالكة القاهرة التي عاشها إلاّ إصراراً على متابعة النضال. وعـبّرقلمه عن مواقفه وأفكاره: كان يكتب في صحيفتي (العربي السورية) و(المجد الأردنية)، ويدعـو في مقالاته السياسية إلى الحرية والديمقراطية والوحدة، وإلى دعم القضية الفلسطينية ومسا ندة انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني الاستيطاني، ودعـم المقاومة العراقية البا سلة ضد الاحتلال الأمريكي ومقاومة ما أفـرزه هذا الاحتلال من صراع عـرقي ومذهبي وطائفي مخطط له أن يتجاوز حدود العراق.

ولم يكن الراحل يقاوم أمراض واقعه، ويدعو إلى معالجتها فحسب، وإنما قاوم بهمة عالية مرضه البغيض الذي ألم به في أواخر حياته، فلم يرقد على فراش مر ضه، أويذعن له، وهو يعرفه، وإنما قاومه ما استطاع إلى مقاومته سبيلاً بالمعالجة المتواصلة حيناً، وبتجاهله حيناً آخر،ورغم أن المرض أعياه وأهزله، وأشحب لونه، وغيّرملامحه، فإنه ظلّ يتواصل مع مجتمعه، ويناضل بين صفوف إخوانه، ورأيته يتجول بجسمه النحيل في مدينة الحسكة كأن لم يكن به مرض قبل يومين أو ثلاثة أيام من رحيله الذي صادف في الثامن عشر من آذارعام ألفين وسبعة عن سبعة وستين عاماً(1940ـ 2007م)، وكان رحيله خسارة ليس لمحافظة الحسكة فحسب، وإنما خسارة أيضاَ للمناضلين الوطنيين والناصريين والقوميين الشرفاء.

إن احتفاءنا اليوم بالذكرى الأولى لرحيله هو أقل ما يستحقه منا هذا الرجل من تكريم هو من واجب الوفاءله، تكريم لحسين موسى النزال المعلم والمربي ورجل الموقف والرسالة، تكريم لأبي عمار المناضل الوطني والقومي،وعـزاؤنا في رحيله أنّ رجال المبا دىء والمواقف
المشرّ فة، وإن رحلوا فإن ذكراهم تظل حية في قلوب محبيهم.

رحم الله أباعمار، وأسكنه فسيح جنا نه، وألهم أسرته وأهله ومحبيه الصبروالسلوان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى