الثلاثاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم فيصل سليم التلاوي

رجل ليس من هذا الزمان...

كم كانت عميقة ومؤثرة كلمات عمي وأستاذي أبو مصطفى! وكيف كان لوقعها في أذني، ولعمقها في قلبي أثر الجرح الغائر، رغم بعد الزمان والمكان:

 انتزع نفسك من المكان الذي أحببته وأحبك انتزاعا، وأنت في قمة تألقك، وعندما يكون المكان الذي أنت فيه وأهله، في أشد درجات الاحتفاء بك، وأمس الحاجة إليك، عندها فقط عليك أن تختار ساعة الفراق.

 ولماذا لا أخلد إلى المكان الذي أحببته وأحبني؟ وإلى الزملاء الذين ألفتهم وألفوني بدل القفز إلى المجهول؟

 لا تركن يا بني إلى المكان المريح الذي مهّدت، ولا إلى عبارات الثناء التي تشنف أذنيك، بل الوِ عنان نفسك قسرا، وامض بها إلى مكان خَرِبٍ آخر لتعمّره.

 ولماذا البحث عن المتاعب؟ ومجاهدة التأسيس مجددا يا عم أبو مصطفى، بدل الخلود إلى الراحة والطمأنينة، فليس في كل مرة تسلم الجرة؟

 لا تنتظر حتى يَمَلكَ المكان، ويستغني عنك أهله فتبادر إلى هجره، فبئست المغادرة تلك. أما رأيت من يتخطفه الموت فجأة، ليس وليدا صغيرا، ولا شيخا فانيا، بل شابا في عز شبابه، وفي أمس حاجة أهله والناس إليه، كيف يكون الفاجع البيّنَ الفقدِ؟ أين ذلك ممن يعمر في المكان حتى يشيخ ويهرم، فيمله ذووه، ويعدّوه من سقط المتاع فيموت ميتة إثر ميتة؟ وأين نفس تموت جميعا من نفس تساقط أنفسا؟

 وهل مغادرة مكان عمل قديم إلى مكان عمل جديد يشبه الموت إلى هذا الحد؟

 نعم. إنها الصورة ذاتها، مع اختلاف نسبي في حجم المأساة. لن يبقى منك في الحالتين سوى الذكر، وقد يكون الفراق بالموت أخف وطأة، وأكثر راحة من العيش في المكان الذي لا تود.

اختر دائما في حياتك وفي مماتك، إن أمكنك أن تكون الصورة الأولى وليس الثانية، أن تغادر المكان والزمان غير هيّاب ولا متردد.

دع المكان الذي ألفك يأسف على فراقك، أكثر من أسفك على فراقه، وإن غلبك الحنين وألجأك إلى الإفصاح عن مشاعرك، فاقتصد في ذلك ما وسعك الاقتصاد.

 كلما تذكرت كلمات عمي أبو مصطفى، وهو يخصني بها دون سائرموظفي الدائرة على ندرة كلامه، وعلى الرغم من صغر سني، وحداثة عهدي بين الموظفين آنذاك، ازددت ثقة بنفسي، وتعهدت درر قوله المصونة بالحفظ، وعاهدت نفسي على السيرعلى خطاه، وإن كانت رغبتي في الاختيار قد خانتني هذه المرة.

أما أبو مصطفى فقد دأبت على تتبع أخباره، بعد أن فارق مؤسستنا إلى مقر عمله الجديد. فقد علمت أن الشركة التي كانت على وشك الإفلاس والانهيار، والتي عُهد إليه إنقاذها، قد عادت للوقوف على قدميها بثبات، وانتقلت من الخسارة إلى الربح
خلال عام واحد، وأن معظم الموظفين الذين استقبلوا جده وصرامته بالسخرية، والتندر بمثل أقوالهم:

 لقد أرسلوه للإنقاذ بعد خراب البصرة.

 (المركب الغرقان ادفشه برجلك).

 (خليه يقيم الدين في مالطا).

كل هؤلاء وأمثالهم قد ابتلعوا ألسنتهم الساخرة، وذهلوا للتغير السريع الذي طرأ على المؤسسـة، وكيف تبدلت أحوالها بفضل إصراره وعزيمته.

لم يلبث في تلك الشركة سوى عام إضافي آخر، ليعزز فيه أسس النجاح، وليتأكد أن قطار الشركة قد انطلق مجددا على سكته السليمة دون عوائق أو عثرات.

ولما تيقن من ذلك غادرها في نهاية عامه الثاني، إلى مكان عمل جديد رغم تعلق مالكي الشركة، وجميع العاملين فيها به، وتشبثهم ببقائه، إلا أنه واصل دربه، ولم يتخل عن دأبه في انتزاع نفسه من المكان الذي أحبه. فغادر إلى مقر عمل جديد ليبدأ مسيرته المعتادة.

وقد فعلها ثانية وثالثة، فقد صرت مثلك أتابع أخباره عن بعد بكل شغف، ولا أطيق انقطاع أخباره عني.

 ظلَّ كذلك حتى وقع في الفخ الذي نُصب له وقضى عليه.

 أي فخٍ ؟ هل فشل أبو مصطفى في أي موقع عُهد به إليه؟

 نعم. لم يفلح في مرته الأخيرة، مثلما هو دأبه في المرات العديدة السابقة، فقد نُميَ إلى علمي من بعض العاملين في تلك المؤسسة، أنهم قد تربصوا به، وبيتوا النية على إفشاله. كانوا حلقة متماسكة، عصابة من المنتفعين، سارقي أرباح المؤسسة ورأسمالها. و لأول مرة لم تفلح طريقته في فتح الثغرات بين القلة المتنفذة والمتسلطة من الموظفين، وبين الجمهورالعريض من سائرالموظفين المنساقين وراءهم خوفا أو طمعا، فقد كانوا جميعا من نفس الطراز، دائرة استحكمت حلقاتها أمامه، ولم تنفك أبدا بين يديه مثلما اعتاد في سابق مهماته. كأنما هو فخ قد نُصب له عن عمد، بقصد اصطياده والتشهير بخاتمته الفاشلة، حتى لا يصبح قدوة يُحتذى، و نموذجا في القدرة على زرع الخير وصنعه.

 وماذا فعل أبو مصطفى؟ أما قدر على انتزاع نفسه من موطن الفشل، مثلما انتزعها مرارا من مواطن النجاح؟

 رحمة الله عليه، لقد آلمه كثيرا أن يتم إيقافه عـن عمله، وأن يتعرض للتحقيق والمساءلة. فما تحمل مرارة الصدمة.

 وهل مات أبو مصطفى؟

 يرحمه الله، فقد عاجله الخلاص الأبدي على غير موعد كعادته دائما، ولم يمهله حتى يتخلص من الشرَك الذي نصب له ويثبت براءته، كأنه لم يتحمل مذاق الفشل وهو الناجح الأبدي.

 وكيف ؟ أقصد على أي هيئة تربص به الموت؟

 مثلما علمك أن تنتزع نفسك من الدنيا انتزاعا ما استطعت، مثل ذلك فعل مع نفسه، فليس أبو مصطفى بالـذي يقول شيئا ويفعل غيره.

ماشيا بخطواته الثابتة السريعة التي اعتاد أن يبدأ بها فجر يومه، يعبُّ أنفاسا
من نسيم الصباح، فيها بقية من نقاء، قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها وزفراتها، والمركبات بنفثاتها ودخانها، مثلما كان يردد دائما:

 اقشد قشدة الصباح.

ألم يقل لك أن الأفكار الجديدة لا تواتيه إلا ماشيا، مطالع قصائده، بدايات قصصه وخواطره، ما كانت تخطرعلى باله، إلا وهو يسير سيرا حثيثا وحيدا دونما رفيق. فإن كان سفرا طويلا كـان الإبداع أرصن وأعمق.

لا تطرق بابه فكرة، ولا يعنُّ على باله جديد، ما دام مستقرا ساكنا بين جدران.

 بلى هكذا كان يحدثني دائما.

 وهكذا كان وداعه للحياة، انتزع نفسه انتزاعا، مثلما كان يعلم الخُلَّص من مريديه دائما.
ماشيا بخطواته الثابتة المعتادة، إن هي إلا لحظات عابرة، زاغ فيها بصره وتنكبت خطواته، وخرّ المارد الذي تعهده صعقا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى