الخميس ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
البحث عن الذات في فضاء الاغتراب والتهميش

رواية «قاع البلد» لصبحي فحماوي، أنموذجاً

ليندا عبيد

تأتي رواية "قاع البلد" للروائي صبحي فحماوي لتؤرخ لمرحلة ما بعد هزيمة عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وما رافقها من تشوّهات وخيبات في الواقعين السياسي والاجتماعي العربي، ليحيا الواقع العربي انكسارا وانتكاساً لا زلنا نحيا نتائجه إلى اليوم إثر ضياع ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وانعكاس ذلك فعلاً صادماً على المثقف العربي عموما، والفلسطيني على وجه الخصوص، وما يتبعه من التأريخ للضعف العربي، وما لحق بذلك من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وما خلّفه من تشتيت للفلسطينيين في منافيهم القسّرية، وغير ذلك كثير.

تطل "قاع البلد" عبر بناء روائي متماسك يخلق حيوات متعددة في فضاء قاع البلد في عمان؛ بوصفه فضاء الاغتراب والتهميش، بما به من هامشيين ومسحوقين، لتؤرخ الرواية للقبح دون الجمال، فتحتقن أنفاس المتلقي بروائح العرق والنتانة والجروح المتقيحة، وما ينز من خطايا ورذيلة، وإنهاك وتعب في شتى المكان، فتصطك الأذن بهمس المومسات، وهتافات باعة " البالة" والمحال التجارية الصغيرة والبسطات، وبصوت الصفائح المعدنية" الزينكو"، وأصوات الشجار واحتكاك سكانين البلطجية، ورائحة الدخان، وصخب البارات الرخيصة، وهمهمات السكارى، وأصوات الشبق، والرغبات المكبوتة التي تقف على حافة التفجُّر، وأصوات الغضب الشاهدة على ما يحدث في الكون من جوع وظلم وتوحش وجنون، فتصير المرأة مفراً، والخطيئة جسداً عابرا لا هوية له، ولا مكان؛ فيتفجر الفضاء المكاني بكل هذا الجنون، وتصرخ الأجساد المكبوتة في دور السينما الرخيصة والحانات، وتحت البسطات في الأزقة، وتطل نماذج مشوهة لنساء شبقات منهكات، ولرجال هامشيين فقراء يفرون إلى بيوتهم من قلق وتشوّه ما يحدث، لتكون هذه التشوهات والانكسارات انعكاسا لواقع مشوه حياتنا واجتماعيا واقتصاديا.

وتتكئ الرواية على تقنيات سردية متنوعة، تبرع في خلق نسج متكاتف في تفاصيله وفنياته، ليشي بمضامين كثيرة كامنة، تطل عبر جماليات البناء الفني.

تتخلق قاع البلد "منذ أن يطل علينا العنوان، بما يمثله من عتبة نصية تشي بهذا الفضاء المهمش الذي يبرع صبحي فحماوي في تصوير تفاصيله، ما يوقعنا في مرجعيات متعددة اجتماعية وثقافية تطل منها عين المبدع البصيرة التي تتقن اقتناص التفاصيل لكشف أسرار المكان، وفك حجبه ومغاليقه، فنقف أما عالم هامشي كامل، يتلظى به الفقراء والمعذبون والباحثون المطحونون بعجلة الجوع، وتجلي الراوية دواخلهم النفسية وائزاماتهم وانكساراتهم ضمن أحداث متتابعة ومتشابكة.

وتبدأ الرواية ضمن زمن كرونولوجي؛ يبدأ من لحظة النهاية، ليعود بنا من جديد إلى بداية القصة وتصاعد أحداثها وصولًا إلى فجيعة النهاية. إذ يعلن الدكتور الذي لا نعرف له اسما ببداية الراوية أنه سيحكي لنا حكاية بطل الرواية وشخصيتها الرئيسية المسماة "بالهربيد". بما يوحي به الاسم من غرابة وسوقية.

يبني فحماوي روايته ضمن عشرة أجزاء متماسكة، يرفد بعضها بعضا، وتمثل كل واحدة منها ليلة يلتقي بها طالب الطب، السارد بالبطل الهربيد، الذي يمثل نموذجًا للمغترب الفلسطيني في منفاه، فيروي لنا تفاصيل اغترابه، وأحداث حياته، وتوحش الحياة في فضاء الاغتراب التهميش/ قاع البلد الذي صار ملاذا قسريا للبطل المُشرد، بعد انتزاع الفلسطيني من وطنه، ليحكي اغتراب المثقف، ووجعه ضمن بناء روائي يشكل فيه "الهربيد" شخصية الحكواتي ضمن عشر ليالٍ أو فصول؛ فنقف أمام ما يشبه حكايات ألف ليلة وليلة إلا أنها لا تخلق عوالم سحرية مليئة الجمال والإغواء بقدر ما تشكل في تفاصيلها صورة الفجيعة، إذ يبتلع القاع كل شيء دون أن ينتبه أحد إلى توحش ما يحدث.

يبدأ القص منذ مصادفة التقاء الطالب الفلسطيني الأزهري الذي ينحدر من مدينة الخليل، ويدرس الطب في مصر بالهربيد الذي فارق وطنه، ليحيا محنة الاغتراب في فندق رخيص يلوذ بجدرانه المسحوقون والعابرون، فندق أقل من نصف نجمة، يصعد به الطالب الأزهري درجاً ضيقاً معتما كالسرداب، يكاد يكون صورة لا واعية لمحنة الاغتراب والتهميش، دون توقع لما سيكون بعده من عذابات.

تشكيل الشخصية

جاء في معجم المصطلحات النقديّة "أن الشخصية هي كل مشارك في أحداث الحكاية سلبا أو إيجابا، أمّا من لا يشارك في الحدث، فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءا من الوصف، فالشخصية عنصر مصنوع محتاج لكل عناصر الحكاية، فهي تتكوّن من مجموع الكلام الذي يصفها ويصوّر أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها، وليست الشخصية شخصاً، ولا وجود لها خارج عالم الرواية."

كان النقد التقليدي للرواية يتعامل مع الشخصية على أنّها تعيش معنا في الحياة الدارجة. ونعرف من ذلك أن بناء الشخصية الروائية لابدّ أن ينطلق من مفهوم الشخصية الروائية وفلسفة العلاقة بين الفرد والمجموع، بينما نجدّ النظرة اليوم قد تغيرت، وصار ينظر للشخصية الروائية على أنها وحدة سردية، وهي شخصية من ورق لا تعيش في الواقع.

بمعنى أنّ الشخصية الروائية شخصية خيالية تتحرّك على الورق، ولا تطابق شخصيات الواقع، وإن كانت متقمّصة لخصائص أفراد وطبائع جماعاته، فهي من خلق الروائي وإبداعه.

ونجد مفهوم الشخصية داخل الشعرية الأرسطية مفهوماً ثانوياً، ويخضع كليّا لمفهوم الفعل، وقد نعثر على حكايات بدون طبائع وبدون حكاية، وهي نفس النظرة التي قال بها المنظرون الكلاسيكيون مثل "فوسيوس". وفيما بعد ستتخذ الشخصية "تماسكا سيكولوجيا وستصير فرداً، شخصاً، ستصير بإيجاز كائناً مكتمل البناء حتى وإن كانت لا تفعل شيئا حتى قبل أن تفكر أن تفعل شيئاً."

ويتخذ مفهوم الشخصية في الرواية مفهوماً متعدّد الأبعاد، ينتمي بعد منه إلى علم النفس، وآخر إلى علم الاجتماع، وربما ينتمي ثالث إلى اللغة.

وقد دفع هذا الزعم "توما توما تشفسكي" إلى القول: "بأنّ البطل ليس ضروريا، فبإمكان القصة كنسق أن تستغني عنه. ويردّ عليه تودورف: "بأن ذلك متعلّق أكثر بالقصص الخرافية، أو على الأقل بقصص عصر النهضة."

وتظهر الشخصية في فن الرواية حاملة لسمات إنسانية" أي الشخصية بوصفها كائنا إنسانيا يتواشج داخل النص السردي مع عناصر السرد الأخرى في تكوين المشهد السردي."

إذ تعتبر الشخصية الروائية العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده كافة العناصر الشكلية الأخرى بما فيها الإحداثات الزمنية والمكانية الضرورية لنمو الخطاب الروائي واطّراده." فالشخصية هي القوة المولّدة للأحداث تؤثر فيها، وتتأثر بها ويقول مصطفى الكيلاني: "لا نبالغ إن اعتبرنا الشخصية أهم عنصر في البنية الروائية لأنها شبكة علاقات تمتدّ عبر الفضاء الروائي لترتبط الأشياء ببعضها البعض." إنّ الشخصية تشكّل اللحمة لعناصر القصة، ومنشأ الترابط بينها، وتقوم بوظائف متعدّدة، وكلّ هذا تؤديه في مستويات مختلفة وبطرائق متنوعة. فالروائي هو المبدع الخلاق القادر على تشكيل عالمه الروائي، بما فيه من كائنات متحركة وجمادات تتفاعل فيما بينها، وتتنامى وفق حركة التتابع الزمني، أو تشظيه وانكساراته استرجاعا أو حاضراً أو استشرافا. ومن هنا، تأتي براعة الروائي في أن "يقيم علاقات منطقية متلاحمة بين وجود الشخصية المظهري والباطني، وبين السياق الإيديولوجي الذي يندرج فيه ذلك الوجود، فالسمات المظهرية أو النفسية للشخصية سواء كانت دقيقة أو إجمالية".

ويميل بعض الروائيين إلى تشكيل الشخصيات بأدق تفاصيلها، وهناك من يحجب عن الشخصية كل وصف مظهري، وهناك من يقدّم شخصياته بشكل مباشر، وذلك عندما يخبرنا عن طبائعها وأوصافها."

ويرى "جيرار جينت" أنّ التغيّر الذي أصاب الرواية شأنه شأن غيرها، مما يخضع لسنة التطور الزمني والحضاري. وقد طال تشكيل الشخصيات وبنائها، أيضا، فهي لا تتردّد "في أن تقيم بين السارد والشخصيات علاقة متغيرة أو عائمة دوخة ضمائر مسندة إلى منطق أكثر حرية، والى فكرة أكثر تقصيّاً عن الشخصية ... بسبب أن النعوت الكلاسيكية للشخصية قد اختفت منها."

وفيما يتعلّق بالرواية العربية، فقد كانت خاضعة في بداياتها لمفهوم الشخصية المتمثّل بمفهوم البطل الكلاسيكي المثال في أوصافه إلى أن بدأت هذه الفكرة تتلاشى، ويتسع مفهوم الشخصية، وتتعدّد أنواعها ومدلولاتها ووظائفها، فالمثقف المعاصر مختلف عن المثقف الكلاسيكي، فإنّه لا يتفق مع سلفه في النظرة إلى البطولة، فالبطل الجديد بطل ليس له من البطولة سوى اسمها، فالبطل المعاصر في الرواية إنسان عادي، ولم يعد حاملاً لفضائل متفرّدة عن بقية الناس نتيجة للتغيّر في ملامح المجتمع، وظروفه الواقعية فظهر في الراوية بطل ضد لا ينفلت حاضرة عن ماضيه، إذ يتمازج حاضر الشخصية مع ماضيها بصورة تصادمية، لأنها لا تستطيع ألمواءمة بين حاضر مشوه، وبين ماض جاء إلى هذا الحاضر، فينطلق الإحساس بالإحباط والعجز الشخصية، مما يقودنا إلى فعل عاجز رغم تصورها لفعاليتها، فيتسبب بموتها أو بغرقها في مزيد من التيه والعذابات، ويشكل البطل في رواية "قاع البلد" من خلال صوته، وصوت الشخصية الأخرى الممثلة بالطالب الأزهري، وعبر حركته في فضاء محموم للهامشيين والمقهورين، مما يضيء جوانب الفهم ليواطن هذه الشخصية المحورية المنهكة.

وبمساندة التقنيات السردية المتنوعة مثل الحوار والمونوج داخل حركتي الزمان الماضية وإلى فترة، لتلتقي خيانات الماضي وإرهاصاته وأوجاعه مع خيانات الحاضر وفجيعته، وانعكاس كل ذلك على دواخل الشخصية ومكبوتاته، وسلوكاتها. فتتضافر عناصر السرد معاً لتشكيل هذه الشخصية التي تشكل انعكاسًا لما يحدث في الواقع العربي المعاصر من حزائم وتراجع وإحباطات.

تقدم الرواية الملامح الشكلية للشخصية الروائية وصولاً إلى تجلية دواخلها السيكولوجية وطبائعها، ومكبوتاتها وانكساراتها وأوجاعها،" فاجأني الهربيد بصوته المدوي، وبشكله ذي الطول الفارع والشعر الطويل الغزير المطعم سواده بشيب يتبدى منسابا بين ثنايا جديلة مربوطة خلف رأسه يتركها تتدلى طويلاً حتى منتصف ظهره.... والهربيد يستفز النائم كله ليقف مثل مسمار ممغنط فالهربيد رجل عجيب بارع بالقص، يمثل صورة المثقف الفلسطيني في إحدى صوره؛ إذ كان في ماضيه منكباً على القراءة، يعمل في بيت لحم بدكان للكتب ومتابعا للأحداث السياسية مثل عين راصدة تبرع بنقل كل ما يحدث حولها من أحداث وتفاصيل.

وتطل مرجعياته الثقافية من قدرته على القص المشوق، ومن جمله المنسجمة المتتابعة، ومن استشهاده بأبيات لا مرئ القيس، ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم، ومن متابعته لأحداث ما بعد الحرب كأخبار الفدائيين والثوار والمشردين، وأولئك الذين قاموا على أنقاض معاناة الناس وتهجيرهم، "هذا ما قرأته بكتب الفلسفة وعلم النفس في بيت لحم، ولو أنني وظفت الكتب التي قرأتها في الدراسات الجامعية لحصلت على شهادة الدكتوراه".

وتتجلى شخصية الهربيد داخل البناء الروائي ضمن ثلاثة إئزامات متداخلة:

أولاً: خيانة الأم .
ثانياً: فجيعة موت الأب
ثالثاً: الغياب عن الفضاء المكاني، والتهجير القسري، ومحنةالاغتراب.

إن البطل يعاني إئزاما وانكساراً يشعره بالهزيمة التي تشكل انعكاساً لمعاناة كل مثقف عربي واعٍ لفجيعة ما يحدث، ولمعاناة الفلسطيني على وجه الخصوص، ويأتي الائتزام الأول ممثلاً بتعلق البطل بأبيه؛ فوالده راع طيب حنون يغرق في بركة وحلّ رملي متحرك أمام إحساس الابن بالعجز عن مساعدته وانقاذه ، فيصير محملاً بكبت ونكوص مستمر الى الماضي وبالتحديد إلى هذه اللحظة التي شكلت ضعفه وهزيمته الأولى، يقول: "فغاصت رجلاه بالطين، ما يزال أبي يتخبط في اللزوجة، يحاول أن يرفع رجله اليمنى فتغوص اليسرى تحت ثقل جسده، ويستعين بالأخرى فتنزل تحت الأولى، يبدو أنها تهبط إلى قرار سحيق، الطين الرملي يمسك برجليّ العجوز مثل شفاطة، أقترب منه متورطاً فيتقرب أبي نازلاً إلى بئر عميق، أسحب رجليّ إلى الخلف بقوة لأنقذ روحي من الغرق... أبحث عن غصن لأمده إليه... لم يبق ظاهراً من جسده سوى يديه، روحي تتمطط من جسدي لتصل إلى وسط البركة الطينية الرمادية الماء المعكور ولا تصل إلى روح أبي".

ويطل هذا المشهد ضمن أجواء نابضة بالفجيعة، وصوت نداء الابن لأبيه، لتظل هذه الحادثة فجيعة الابن الأولى التي مهدت وأرخت لفجيعته الأخرى الممثلة بالتهجير القسري، وانتهاء بخيانة الأم وفجيعتها، "بهذه المدينة الكبيرة الواسعة ينغل الناس مثل النمل خاصة في أعوام التهجير الفلسطيني القسري.

ليندا عبيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى